سفر المزامير | 88 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّامِنُ وَٱلثَّمَانُونَ
تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ لِبَنِي قُورَحَ. لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ٱلْعُودِ لِلْغِنَاءِ. قَصِيدَةٌ لِهَيْمَانَ ٱلأَزْرَاحِيِّ
«١ يَا رَبُّ إِلٰهَ خَلاَصِي، بِٱلنَّهَارِ وَٱللَّيْلِ صَرَخْتُ أَمَامَكَ، ٢ فَلْتَأْتِ قُدَّامَكَ صَلاَتِي. أَمِلْ أُذُنَكَ إِلَى صُرَاخِي، ٣ لأَنَّهُ قَدْ شَبِعَتْ مِنَ ٱلْمَصَائِبِ نَفْسِي، وَحَيَاتِي إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ دَنَتْ».
على مقدار ما في المزمور السابق المزمور ٨٧ من رنة الفرح والابتهاج يوجد في هذا المزمور الثامن والثمانين من التعاسة والشقاء. ومجيئهما الواحد بعد الآخر يدل على شدة التعاكسات بينهما. ومع أن هذا المزمور يبدأ بقوله «يا رب إله خلاص…» كأنه ينتظر خلاصاً من يد الرب إذا به ينزل إلى عمق الآلام والمتاعب ويملأ قلب القارئ بالنحيب المتواصل حتى يكاد يشبه مراثي إرميا. والذي يطالع هذا المزمور ملياً يجد فيه عبارات متشابهة مع كتابات قديمة. وهو يشكو من مرض جسدي على ما يظهر قد يكون البرص الذي لازمه منذ صباه حتى لم يجد معه أيام توفيق وهناء. ولا شك أن هذا المزمور يدل على اختبار شخص خاص ولا ندري من هو هذا «هيمان الأزراحي» وربما انتهى إلى عهد سليمان الملك وإلى تلك الفئة من الكتبة الحكماء التي حاولت أن تفسر موضوع الآلام فأوجدت كتاب أيوب مثلاً. ونسأل هنا عن المؤلف فلنا العنوان أنها لبني قورح ثم في الوقت ذاته يذكر هيمان الأزراحي فلمن من الاثنين يا ترى؟ وهل من الممكن أن يكون هيمان هذا من بني قورح أيضاً؟ الأرجح أن القسم الأخير من التسمية هو الذي يجب الاعتماد عليه لا سيما وهو يحوي طبيعة المزمور وكيفية غنائه وأما قوله لبني قورح فهو اتباع لكلام سابق. ولذلك فالمزمور قديم وعليه صبغته التاريخية رغم التشويش الظاهر في العنوان.
(١ – ٣) يبدأ المرنم كلامه وسط حالة من اليأس شديدة فهو يصرخ في الليل والنهار مستغيثاً مستنجداً. لقد وصل إلى هوة سحيقة ولكنه يحاول الصعود منها على قدر الإمكان. هو لا ينسى إله خلاصه ويسميه هكذا مترجياً الخلاص. يرجو الله أن يصغي لصوته وهكذا تكون الصلاة قدامه لكي يبالي بها وبصاحبها ولا يرفضه بعد. يطلب من الله أن يعطي أذنه ولا يهمله على الإطلاق. وأما العدد الثالث فيصل إلى غاية الأحزان ويقول أنه قد شبع من المصائب فلا يستطيع أن يحتمل بعد. لقد كان له منها الكفاية وفوق الكفاية أيضاً إذ أن حياته أصبحت تدنو من الهاوية بسرعة ولم يعد في داخله شيء من القوة.
«٤ حُسِبْتُ مِثْلَ ٱلْمُنْحَدِرِينَ إِلَى ٱلْجُبِّ. صِرْتُ كَرَجُلٍ لاَ قُوَّةَ لَهُ. ٥ بَيْنَ ٱلأَمْوَاتِ فِرَاشِي مِثْلُ ٱلْقَتْلَى ٱلْمُضْطَجِعِينَ فِي ٱلْقَبْرِ ٱلَّذِينَ لاَ تَذْكُرُهُمْ بَعْدُ، وَهُمْ مِنْ يَدِكَ ٱنْقَطَعُوا. ٦ وَضَعْتَنِي فِي ٱلْجُبِّ ٱلأَسْفَلِ، فِي ظُلُمَاتٍ، فِي أَعْمَاقٍ. ٧ عَلَيَّ ٱسْتَقَرَّ غَضَبُكَ وَبِكُلِّ تَيَّارَاتِكَ ذَلَّلْتَنِي. سِلاَهْ. ٨ أَبْعَدْتَ عَنِّي مَعَارِفِي. جَعَلْتَنِي رِجْساً لَهُمْ. أُغْلِقَ عَلَيَّ فَمَا أَخْرُجُ».
(٤) في حياته يسير نزولاً فكلما مرت به الأيام تزيده ثقلاً فوق ثقل حتى لا يستطيع أن ينهض بعد. هو بلا قوة ولا قدرة حياته هي بالاسم كذلك.
(٥) يمكن ترجمة القسم الأول هكذا «اطلق سراحي بين الأموات» أي أنني حي أتمشى بين الموتى فأذن لي صورة الحياة ولكن الأفضل لي أن أموت (انظر أيوب ٣: ١٩) وأيضاً (أيوب ٣٩: ٥) وأصبحت حياته نسياً منسياً ولم يعد لهم أي ذكر بين الأحياء. لقد انقطع ذكرهم ولم يعد ليد الله علاقة بهم (راجع مزمور ٣١: ٢٣ ومراثي ٣: ٥٤ وإشعياء ٥٣: ٨). ربما كانت يد الله تقودهم من قبل وتهديهم وأما الآن فهم بعيدون عن الرحمة والرضوان كل البعد.
(٦) لقد وصل إلى الجب الأسفل إلى نهاية الظلمات (راجع أيوب ١٠: ٢١ وكذلك مراثي ٣: ٥٤ ثانية). هي هوة مفتوحة الباب. من فوق تستقبل إليها الهاوين فيها ولا ترحمهم بعد ذلك.
(٧) ولأنه في هذه السقطة وفي ذلك المكان الأسفل فأصبح من الطبيعي أن يستقر عليه الغضب كما تستقر كل أرماث الأنهار في الأمكنة الواطئة. وحيئنذ وأنا في تلك الحالة المؤسفة إذا بالتيارات تمر عليّ وتسحقني سحقاً. وينتهي بارتفاع الموسيقى.
(٨) ولم تكن المصيبة فقط بما انتابه من آلام وضيقات بل أعظم المصائب عليه هو أنه قد ابتعد عنه الأصدقاء والمعارف وتركوه وحده يتخبط في ضيقاته ولا من يسعفه وهذا لعمر الحق من أعظم ما يستطيع الإنسان أن يحتمله (راجع أيوب ١٩: ١٣ وما بعده) هؤلاء الأصدقاء الذين كان يلتذ بعشرتهم ويتقرب إليهم ويتقربون إليه أصبحوا يبتعدون عنه كأنه رجس عندهم لا يجوز أن يتعاطوا معه بأي أمر من الأمور. وهكذا حبس نفسه وأغلق عليه في غياهب الظلمات فلا يرى فرجاً.
«٩ عَيْنِي ذَابَتْ مِنَ ٱلذُّلِّ. دَعَوْتُكَ يَا رَبُّ كُلَّ يَوْمٍ. بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدَيَّ. ١٠ أَفَلَعَلَّكَ لِلأَمْوَاتِ تَصْنَعُ عَجَائِبَ، أَمِ ٱلأَخِيلَةُ تَقُومُ تُمَجِّدُكَ؟ سِلاَهْ. ١١ هَلْ يُحَدَّثُ فِي ٱلْقَبْرِ بِرَحْمَتِكَ أَوْ بِحَقِّكَ فِي ٱلْهَلاَكِ؟ ١٢ هَلْ تُعْرَفُ فِي ٱلظُّلْمَةِ عَجَائِبُكَ وَبِرُّكَ فِي أَرْضِ ٱلنِّسْيَانِ؟ ١٣ أَمَّا أَنَا فَإِلَيْكَ يَا رَبُّ صَرَخْتُ، وَفِي ٱلْغَدَاةِ صَلاَتِي تَتَقَدَّمُكَ».
(٩) قد يكون أن هؤلاء المعارف قد تركوه في حالة مرضه الشديد خوفاً من العدوى ولا نعجب من ذلك طالما لم يكن في ذلك الزمان أي معرفة للتوقي من الأمراض ومن الطبيعي للإنسان أن يهرب من شيء مخيف يجهل أسبابه. وما معنى ذبول العينين؟ هل امتد المرض حتى وصل إلى الرأس فلم يعد يستطيع الوقوف أو النهوض؟ ولكنه في ضيقته العظيمة هذه لم ينس الله بل دعاه كل يوم باسطاً يديه أمامه طالباً منه الرحمة والرضوان بعد وإن كان لا يستحق شيئاً فإن الله رحيم.
(١٠ – ١٣) هذا الوصف ينطبق على حالة البرص وربما أن عدداً من الأمراض كان يأتي تحت اسم البرص (راجع لاويين ١٣) وعلى حد التعبير الشرقي بأن البرص هو أعظم الأمراض إذ يميت الإنسان وهو لا يزال حياً (راجع العدد ١٢: ١٢). كان على الأبرص أن يبقى تحت معاينة الكاهن سبعة أيام فإذا ثبت عليه المرض بعد ذلك كان يفصل عن عائلته وأهله ويعيش وحيداً في البراري. ولكنه يلتمس عوناً ويبني التماسه على أمرين: الأول أن يظهر الله عجيبة فيه والثاني أن يمكنه من حمده تعالى وإن يكن بحالة الموت وشبه الخيال.
وحينما يصل إلى العددين الحادي عشر والثاني عشر يعزز طلبه بالسؤال الإنكاري هل يحدّث في القبر برحمتك؟ وهل تعرف في الظلمة عجائبك؟ إذن يا رب سهلّ أمامي طريق الحياة قبل أن أصل إلى الموت فلا أعود أقدر أن أحمد أو أخبر بحقك فأنسى كل شيء في الهاوية.
ولكنه يعود إلى نفسه في العدد الثالث عشر ويقول إنه قد صرخ إلى الرب مستنجداً ولم ييأس بعد. وعند الصباح الباكر كان يقدم صلاته قبل أن يفعل أي شيء أخر. فهو وإن كان تحت عصب الله فطالما فيه رمق من الحياة لا يزال يترجى أن الله يعيده إلى عافيته وقوته. إن الأمل في قدر الإنسان لا ينقطع إلا متى ذهب الإيمان من صدره وحينئذ يموت في خطاياه حقيقة ويتمرغ في تعاسته إلى الأبد.
«١٤ لِمَاذَا يَا رَبُّ تَرْفُضُ نَفْسِي؟ لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي؟ ١٥ أَنَا مِسْكِينٌ وَمُسَلِّمُ ٱلرُّوحِ مُنْذُ صِبَايَ. ٱحْتَمَلْتُ أَهْوَالَكَ. تَحَيَّرْتُ. ١٦ عَلَيَّ عَبَرَ سَخَطُكَ. أَهْوَالُكَ أَهْلَكَتْنِي. ١٧ أَحَاطَتْ بِي كَٱلْمِيَاهِ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ. ٱكْتَنَفَتْنِي مَعاً. ١٨ أَبْعَدْتَ عَنِّي مُحِبّاً وَصَاحِباً. مَعَارِفِي فِي ٱلظُّلْمَةِ».
(١٤ – ١٨) إن هذه العبارات وإن كانت تحمل طابع الشكوى فهي في حقيقتها توسلات أكثر منها تشكيات. يعود هذا الإنسان ويستجمع قواه المبعثرة ليسكبها أمام الله مصدر كل نعمة وقوة وإحسان. يعود بالذكريات إلى الأيام القديمة حينما كان في مستهل العمر. هو مسكين ضعيف لا قوة في روحه ولا نشاط في عقله أو جسده. ومع ذلك فقد احتمل الأهوال وإن يكن محتاراً لا يدري المعنى من هذا كله.
كل ما يلاحظ أن سخط الله عليه وأهواله الشديدة تفسد حياته وتعدمه كل اللذات. ونجده في العدد السابع عشر تتحول هذه النيران إلى شكل طوفان يعوم حوله ويكاد يغرقه في تياراته المزبدة. هو في الوسط لا يدري أي مخرج أمامه ومن أين المناص. جسمه ضعيف وأصدقاؤه وأهله قد تركوه ويستنجد بإلهه فإذا به يعبر عليه كالنيران الجارفة. ومتى وصلنا للعدد الأخير نكاد نلمس فيه ما ورد في (أيوب ١٧: ١٤ أو أيوب ١٩: ١٤) حينما يصور لنا أن أصحابه هم في الظلمات أو هي الظلمة نفسها. فلم يعد يرى بعينيه إذ قد غشي عليهما حتى إذا فتحهما لا يجد شيئاً أمامه. وهكذا ابتعد المحبون أولاً وبعد ذلك لو اقتربوا الآن فلا يمكن أن يتمتع بصحبتهم لأنه لم يعد يراهم.
وهكذا ينتهي هذا المزمور المفعم بالآلام ونكاد نسمع صوت الأنّات والحسرات. ولأن الاختبارات هي بالأحرى شخصية لذلك فإن الكلام ليس من قبيل ما يصيب الجنس البشري عموماً بل ما تختبره نفس متألمة وصلت إلى عمق التعاسة والشقاء. ولا يوجد شيء في هذه الصورة مما يشدد العزيمة وينهض بها سوى اتكاله الكامل على الله فهو لم يتزعزع إيمانه رغم كل الصعوبات والأمراض والويلات التي تنتابه لا يزال يرى أن يد الله يمكنها أن تمتد إليه وتنتشله على شرط أن يظل داعياً لله متضرعاً بكل ثقة وورع.
السابق |
التالي |