سفر المزامير | 89 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ وَٱلثَّمَانُونَ
قَصِيدَةٌ لأَيْثَانَ ٱلأَزْرَاحِيِّ
«١ بِمَرَاحِمِ ٱلرَّبِّ أُغَنِّي إِلَى ٱلدَّهْرِ. لِدَوْرٍ فَدَوْرٍ أُخْبِرُ عَنْ حَقِّكَ بِفَمِي. ٢ لأَنِّي قُلْتُ: إِنَّ ٱلرَّحْمَةَ إِلَى ٱلدَّهْرِ تُبْنَى. اَلسَّمَاوَاتُ تُثْبِتُ فِيهَا حَقَّكَ. ٣ قَطَعْتُ عَهْداً مَعَ مُخْتَارِي. حَلَفْتُ لِدَاوُدَ عَبْدِي».
إن القصد من هذا المزمور هو الابتهال لله لكي يجدد مراحمه على عبده داود أي على نسله إلى الأبد. الناظم هو حسب العنوان إيثان الأزراحي وهو أحد الموسيقيين الثلاثة مع آساف وهمان. وكان رئيساً على ست فرق فرعية ترأسها بنوه الستة (انظر ١أخبار ٢٥) وهذا المزمور مع المزمور سابقه يحسبان لمؤلف واحد وإن يكن هذا يصطبغ بصبغة وطنية بينما الآخر فله صبغة شخصية بحتة. ويرى الناظم أن مبعث الفخر هو في العائلة الملكية أي عائلة داود التي تمثل الأمة كلها ومدعاة مجدها وفخارها.
أما الداعي المباشر لنظمه فهو على أثر غزو فرعون شيشق لمملكة يهوذا وذلك في السنة الخامسة لملك رحبعام ابن سليمان وقد نهب الهيكل والقصر كليهما وأخذ معه تروس سليمان الذهبية (راجع ١ملوك ١٤: ٢٥ – ٢٨) وأيضاً (٢أخبار ١٢: ١ – ١٢). وفي آثار الكرنك قد كشفت الكتابات الهيروغليفية عن وجود ملك يهوذا بين الأسرى الذين يقدمون هداياهم أمام الإله أمون.
(١ – ٣) يبدأ المرنم كلامه بأنه يغني بمراحم الرب ويخبر عن حق الله بصوت مسموع لجميع الناس غير هياب ولا متردد. وأي شيء أبعث على الغناء من الابتهاج بمثل هذه المراحم العظيمة التي يختبرها الإنسان يومياً ويحق له حينئذ أن يذيعها على الناس ولا يبقيها طي الكتمان.
أما الرحمة فهي تبني بناء أي على شكل مستمر ولا يقوم البناء بدون أساس وهذا الأساس هو حق الله ذاته وتلك العهود المقدسة الكائنة بين يهوه وشعبه. وهذا البناء سوف يسمو ويعلو إلى أن يتصل بالسموات ذاتها وحيئنذ يكون كل شيء ظاهراً ولا يستطيع الأعداء أن ينكروه. وحق الله مثبت في السموات لأن هذه الأرض وما فيها سريع التغير والزوال بينما كل ما هو سماوي فهو ثابت لا يتغير قط. وفي العدد الثالث يبدأ بذكر الكلام الذي قاله الله لداود فيردد نص العهد الذي قطعه عندئذ. إن الله قد قطع عهداً لداود أن يثبت عرشه فبقي الملك في ذريته على مدى الأجيال الطويلة.
«٤ إِلَى ٱلدَّهْرِ أُثَبِّتُ نَسْلَكَ، وَأَبْنِي إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ كُرْسِيَّكَ. سِلاَهْ. ٥ وَٱلسَّمَاوَاتُ تَحْمَدُ عَجَائِبَكَ يَا رَبُّ، وَحَقَّكَ أَيْضاً فِي جَمَاعَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ. ٦ لأَنَّهُ مَنْ فِي ٱلسَّمَاءِ يُعَادِلُ ٱلرَّبَّ. مَنْ يُشْبِهُ ٱلرَّبَّ بَيْنَ أَبْنَاءِ ٱللّٰهِ؟ ٧ إِلٰهٌ مَهُوبٌ جِدّاً فِي مُؤَامَرَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ، وَمَخُوفٌ عِنْدَ جَمِيعِ ٱلَّذِينَ حَوْلَهُ. ٨ يَا رَبُّ إِلٰهَ ٱلْجُنُودِ، مَنْ مِثْلُكَ قَوِيٌّ رَبٌّ، وَحَقُّكَ مِنْ حَوْلِكَ؟»
(٤) يتابع في هذا العدد وعد الله لداود عبده بأنه يثبته ويبني ملكه إلى دور فدور. والكرسي في هذا العدد إنما هو عرش الملك كما في بعض الترجمات الأخرى. إن الله لا يسمح أن هذا النسل الملكي ينقطع ولا أن هذا العرش المثبت الأركان أن يضمحل من الوجود ذلك لأن أمانة الله نحو هذا البيت لا تسمح أن يزول فلا يشيخ بمرور الزمان ولا يعتريه أي تبدل أو زوال.
(٥ – ٨) يرى المرنم أن ينتقل إلى وصف رائع لجلال الله وعظمته وجبروته لأن ذلك مدعاة اطمئنان لعرش الملك الأرضي الذي يمثله لأن هذا الملك هو من الله فأحرى به أن يتمثل بهذه العظمة الإلهية التي تجترح العجائب وتذيع الحق بين الناس ولا سيما جماعة القديسين. وحينما يقابل بين الآلهة في العالم الثاني بين الأرواح لا يجد شبهاً له قط. وقد يقصد هنا في قوله أبناء الله أي الملائكة (راجع أيوب ٥: ١ و١٥: ١٥ وقابل ذلك مع تثنية ٣٣: ٢). لأن الله هنا مكرم فوق جميع الأجناد السماوية ولا يعادله أحد في الجلال والقدرة.
هو مهوب جداً ويسمو على كل من حوله دون استثناء (١ملوك ٢٢: ١٩ وقابله مع دانيال ٧: ١٠) ولا يستطيع أحد أن يدنو من مكان سكناه لأنه مخوف جداً.
وفي سؤاله «من مثلك قوي؟» يرجح أصلها من (الخروج ١٥: ١١) ولا يغرب عن بال الناظم أن يتمسك دائماً بأن الله يرعى العهد والأمانة لشعبه ولا سيما لبيت داود عبده. وهذا الحق يتجلبب به ويحيا فيه على الدوام ولا يمكن أن يتصوره بدونه قط. إن هذه الفكرة عظيمة حقاً. إذ أن رب الجنود القوي الجبار هو كذلك بالنسبة للحق الذي يجريه والأمانة التي يتممها مع أتقيائه ومحبيه ولذلك فهو يرمز بطرف خفي للملك أن يكون كذلك ليكون أهلاً للحكم على شعب الله. إذ لا حكم من الله إذا لم يكن بالحق والأمانة.
«٩ أَنْتَ مُتَسَلِّطٌ عَلَى كِبْرِيَاءِ ٱلْبَحْرِ. عِنْدَ ٱرْتِفَاعِ لُجَجِهِ أَنْتَ تُسَكِّنُهَا. ١٠ أَنْتَ سَحَقْتَ رَهَبَ مِثْلَ ٱلْقَتِيلِ. بِذِرَاعِ قُوَّتِكَ بَدَّدْتَ أَعْدَاءَكَ. ١١ لَكَ ٱلسَّمَاوَاتُ. لَكَ أَيْضاً ٱلأَرْضُ. ٱلْمَسْكُونَةُ وَمِلْؤُهَا أَنْتَ أَسَّسْتَهُمَا. ١٢ ٱلشِّمَالُ وَٱلْجَنُوبُ أَنْتَ خَلَقْتَهُمَا. تَابُورُ وَحَرْمُونُ بِٱسْمِكَ يَهْتِفَانِ. ١٣ لَكَ ذِرَاعُ ٱلْقُدْرَةِ. قَوِيَّةٌ يَدُكَ. مُرْتَفِعَةٌ يَمِينُكَ».
(٩ – ١٣) في وقت كتابة هذا المزمور كان الأعداء الأقوياء يحيطون بأورشليم من كل جانب. كانوا أشداء في جميع الأسلحة المعروفة عندئذ لذلك فالمرنم ينظر إليهم بعين الاطمئنان لأنه يلتجئ لله القدير الذي يحكم على كبرياء البحر ويخفض ارتفاعه فهو الذي خلق البحر ويستطيع أن يتصرف به كما يشاء ثم بعد ذلك يستعير هذه الفكرة فيقول إن الله يخفض ارتفاع الشعوب العاتية التي تسود على شعب الله وتستعبده. فيذكر أولاً رهب أي مصر ويعود بالتاريخ إلى حادثة عبور البحر الأحمر فأسكت الله البحر وأسكت كبرياء شعب مصر الذي كان كالبحر أيضاً. وأما السبب في ذلك فلأن الله هو مالك السموات والأرض وهو الذي بفضل إحسانه قد ملك العالمين جميعاً. يلتفت شمالاً وجنوباً فيجد أصبع الله في كل مكان. إذن فالمسكونة كلها هي من الله وإليه تعود. حتى أن الجبال الشامخة مثل تابور – وإن يكن بعلو متواضع نسبياً فهو جميل الارتفاع بالنسبة لإشرافه على السهول الفسيحة حوله لا سيما سهل يزرعيل (مرج ابن عامر) – وأيضاً مثل حرمون – جبل الشيخ الذي كان الإسرائيليون يرونه في الطرف الشمالي من بلادهم مرتفعاً عالي الذرى. وكلاهما باسم الله يهتفان أي أصبح على أمكنة عديدة تقام عبادة الله فيهما. وقد يكون المعنى أن هذين الجبلين بالنسبة لأنهما من أعظم أمجاد الطبيعة فهما بذلك يسبحان اسم الخالق.
يذكر ديليتش في الصفحة ٣٧ من مجلده الثالث أن حرمون يقع للجهة الشرقية من الأرض المقدسة والحقيقة أن حرمون هو للشمال أكثر منه للشرق. يعود فيذكرنا بقدرة الله فيده قوية ويمينه مرتفعة لذلك فهي تتناول كل إنسان فيفعل ما يشاء ولا يستطيع أحد أن يسأله ماذا تفعل.
«١٤ ٱلْعَدْلُ وَٱلْحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّكَ. ٱلرَّحْمَةُ وَٱلأَمَانَةُ تَتَقَدَّمَانِ أَمَامَ وَجْهِكَ. ١٥ طُوبَى لِلشَّعْبِ ٱلْعَارِفِينَ ٱلْهُتَافَ. يَا رَبُّ بِنُورِ وَجْهِكَ يَسْلُكُونَ. ١٦ بِٱسْمِكَ يَبْتَهِجُونَ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ وَبِعَدْلِكَ يَرْتَفِعُونَ. ١٧ لأَنَّكَ أَنْتَ فَخْرُ قُوَّتِهِمْ، وَبِرِضَاكَ يَنْتَصِبُ قَرْنُنَا. ١٨ لأَنَّ ٱلرَّبَّ مِجَنُّنَا وَقُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ مَلِكُنَا».
ولكن هذا الإله القدير لا شيء يقارب قدرته السرمدية سوى بره الكامل وقداسته الكلية. هوذا العدل والحق ترتكز عليهما قاعدة العرش كما أن الرحمة والأمانة تطلبان البشر وتنجيان من حمو غضبه. أي أن الله قبل أن يجري عدله وحقه يستعمل رحمته وأمانته إلى أقصى حدودهما (راجع أمثال ١٦: ١٢ و٢٥: ٥).
(١٥ – ١٨) بعد أن يصف المرنم هذا الإله العظيم الرحيم ينظر إلى الشعب الآن ويطوبهم ذلك لأنهم يعرفون أن يهتفوا لهذا الإله فكانوا به جديرين على قدر الإمكان ولذلك فهم بنور وجهه يمشون في طريق الحياة بقوة وثقة ورزانة. أن يكونوا فيما بعد مترددين طائشين لا يدرون أية جهة يتجهون بل هم واثقون بكل شيء. وسبب بهجتهم هو اسم الله منذ بدء اليوم إلى آخره. وهم يرتفعون بعدل الله من أي ذل سقطوا فيه أو أية خطة تدنوا إليها. إذن هم شعب سعيد لا يهاب أي الأعداء طالما أن الله ذاته هو فخر القوة. قوتهم ليست من أنفسهم بل من الله وعزتهم ليست بأي جبروت مادي يتمتعون به بل برضا الله عليهم ورحمته التي تكتنفهم. ذلك لأن الرب نفسه هو الترس والمجن وهكذا لا تصلهم سهام الأعداء ولا تؤذيهم ضرباتهم. وقوله إن قدوس إسرائيل ملكنا أي أنه هو الذي يحمي الملك من كل ضيم ويرفعه لدى كل سقطة هوذا عائلة داود المالكة هي مثبتة الأركان طالما هي في حماية الله وحفظه فالقدرة ليست لها بل لله وما هي سوى وكيلة عنه عليها أن تؤدي الحساب لدى كل ملمة. وهكذا فوراء هذا الملك الأرضي يوجد الملكوت السماوي الذي بقدرة الله وعدله وأمانته يثبت إلى الأبد.
«١٩ حِينَئِذٍ كَلَّمْتَ بِرُؤْيَا تَقِيَّكَ، وَقُلْتَ جَعَلْتُ: عَوْناً عَلَى قَوِيٍّ. رَفَعْتُ مُخْتَاراً مِنْ بَيْنِ ٱلشَّعْبِ. ٢٠ وَجَدْتُ دَاوُدَ عَبْدِي. بِدُهْنِ قُدْسِي مَسَحْتُهُ. ٢١ ٱلَّذِي تَثْبُتُ يَدِي مَعَهُ. أَيْضاً ذِرَاعِي تُشَدِّدُهُ. ٢٢ لاَ يُرْغِمُهُ عَدُوٌّ، وَٱبْنُ ٱلإِثْمِ لاَ يُذَلِّلُهُ. ٢٣ وَأَسْحَقُ أَعْدَاءَهُ أَمَامَ وَجْهِهِ وَأَضْرِبُ مُبْغِضِيهِ».
(١٩ – ٢٢) قد يكون هذا التقي الذي كلمه الله بالرؤيا هو ناثان (راجع ١أخبار ١٧: ١٥) أو داود ذاته. وتقول الترجمة اليسوعية «لقد كلمت صفيك في رؤيا فقلت إني هيأت نصرة للجبار ورفعت المختار من الشعب». يقصد هنا كيف أن الله قد اختار داود ولم يزل فتى صغيراً ورفض شاول فان الله عوناً لداود على عدوه القوي الملك الجبار. ذلك لأنه اختاره من بين الشعب ولم يلتفت إلى النسل الملكي بل إلى الأهلية والكفاءة. ولم يصبح نسلاً ملكياً بالسلالة إلا بعد داود لا قبله.
وقد وجد الله داود أنه الشخص الأنسب لهذه المهمة الخطيرة أن يرعى شعب الله بعد أن كان راعياً للغنم (راجع ٢صموئيل ٧) فقد مسحه الله عندئذ على كل إسرائيل. وقد رافقه الله منذ ذاك الحين وثبت يده في الملك وشدد ذراعه بحمل الصولجان لئلا يفشل ويضعف وقد أظهر داود كفؤ ليضطلع بالمهمة الخطيرة التي ألقيت على كتفيه فلم يتراجع ولم يتوان. وهكذا استمر على القوة وأخضع أعداءه فلم يستطيعوا النيل منه وإضعافه كما أن الأشرار لم يستطيعوا أن يذللوه بأي وجه من الوجوه فكان المقاومون يفشلون واحداً بعد الآخر إلى أن تمت النصرة واستتب الأمن والنظام في البلاد كلها.
(٢٣) بل أن الله يشدد يده بعد فلا يكتفي بالوجهة السلبية أي أنه يرد عنه سهام الأعداء ويحميه منهم بل يهاجمهم ويتغلب عليهم حتى لا يجسروا أن يقفوا أمام وجهه. وكان يضربهم بلا شفقة ولا هوادة لئلا يتقووا فيغلبهم على أمرهم قبل أن يتشددوا.
«٢٤ أَمَّا أَمَانَتِي وَرَحْمَتِي فَمَعَهُ، وَبِٱسْمِي يَنْتَصِبُ قَرْنُهُ. ٢٥ وَأَجْعَلُ عَلَى ٱلْبَحْرِ يَدَهُ وَعَلَى ٱلأَنْهَارِ يَمِينَهُ. ٢٦ هُوَ يَدْعُونِي: أَبِي أَنْتَ. إِلٰهِي وَصَخْرَةُ خَلاَصِي. ٢٧ أَنَا أَيْضاً أَجْعَلُهُ بِكْراً أَعْلَى مِنْ مُلُوكِ ٱلأَرْضِ. ٢٨ إِلَى ٱلدَّهْرِ أَحْفَظُ لَهُ رَحْمَتِي. وَعَهْدِي يُثَبَّتُ لَهُ».
(٢٤ – ٢٨) في هذه الأعداد المتوالية يجد القارئ تكراراً لهذه المواعيد الإلهية. السابقة وقديماً وعد الله شعبه مواعيد كثيرة وحققها لهم (راجع تكوين ١٥: ١٨ و٢أخبار ٩: ٢٩). فيمتد ملك داود من البحر أي المتوسط ويتسلط على عدد من الأنهار أي يمتلكها ويستخدمها لمنفعته الخاصة. ولم يكن الإنسان قد تقدم في معرفة استخدام الأنهار سوى ري بعض الأراضي المجاورة بصورة أولية للغاية. وليس في هذه البلاد أنهار كبيرة يمكن أن تمخر فيها السفن والقوارب. فالكلام هنا في الدرجة الأولى عن حدود سلطانه أكثر منه عن كيفية ذلك السلطان.
وفي العدد السادس والعشرين يستلفت نظرنا قوله إن الملك يدعو الله أباه وفي الوقت ذاته هو إلهه وصخرة خلاصه القوية المتينة. قد يكون من باب الامتياز فقط أن يسمي الله أباً ولكن ليس كذلك لعامة الشعب فإنه على الكثير يكون الملك هو أبوهم. ولذلك فإننا نجد سمواً أعظم في تعليم السيد المسيح له المجد في الصلاة الربانية أبانا الذي في السموات…. وعلى كل فهي فكرة جريئة في ذلك الحين لم يستطع المرنم معها إلا أن يتبعها بقوله «إلهي» لئلا يكون قد تجاسر كثيراً. هو الله الذي اختاره وهو الصغير ليجعله بالفعل بكراً بين إخوته جميعاً. ولا ننس أهمية البكورية في ذلك الزمان ومع ذلك فداود قد تخطاها بكفارته ومقدرته حتى أصبح عظيماً. أما قوله أعلى من ملوك الأرض أي الملوك الصغار المجاورين لملكه. ثم أيضاً بالنسبة للملوك الذين جاءوا بعده ما عدا سليمان قبل انقسام المملكة إلى شطرين.
ثم يكرر الوعد بالرحمة وحفظ العهد. فإن الله لن ينسى على شرط أن الملك لا يركب متن الغرور بل يسلك متواضعاً مع إلهه.
«٢٩ وَأَجْعَلُ إِلَى ٱلأَبَدِ نَسْلَهُ، وَكُرْسِيَّهُ مِثْلَ أَيَّامِ ٱلسَّمَاوَاتِ. ٣٠ إِنْ تَرَكَ بَنُوهُ شَرِيعَتِي وَلَمْ يَسْلُكُوا بِأَحْكَامِي، ٣١ إِنْ نَقَضُوا فَرَائِضِي وَلَمْ يَحْفَظُوا وَصَايَايَ، ٣٢ أَفْتَقِدُ بِعَصاً مَعْصِيَتَهُمْ وَبِضَرَبَاتٍ إِثْمَهُمْ. ٣٣ أَمَّا رَحْمَتِي فَلاَ أَنْزِعُهَا عَنْهُ، وَلاَ أَكْذِبُ مِنْ جِهَةِ أَمَانَتِي. ٣٤ لاَ أَنْقُضُ عَهْدِي وَلاَ أُغَيِّرُ مَا خَرَجَ مِنْ شَفَتَيَّ».
يتابع في العدد (٢٩) الوعد ذاته من جهة النسل الملكي وتثبيت العرش على أسس متينة لا تزعزعها تطورات الحدثان (راجع تثنية ١١: ٢١ ولا سيما ٢صموئيل ٧: ١٦) وهذا الأخير على الأرجح هو أساس ما ورد في (العدد ٢٩) من المزمور إنما يضعه المرنم بقالب شعري جذاب.
(٣٠ – ٣٧) يبدأ المرنم في العدد الثلاثين ويقتبس (٢صموئيل ٧: ١٤) بأن أمانة الله نحو ذرية داود لا تتوقف على نسبة أمانتهم هم بل على نسبة العهد الذي قطعه الله مع داود نفسه. وهنا يفسح مجالاً لضعف الإنسان وسقوطه في الخطايا فهؤلاء البنون قد يتركون الشريعة ولا يطبقون أحكامها بل ينقضون الفرائض ويهملون الوصايا. وهنا الله لا يترك لهم الحبل على غاربه بل يفتقدهم بعصا التأديب حتى يعودوا. ويسمح بالضربات حتى يتوبوا. ولكن مهما عظم ذنبهم فإن رحمة الله أعظم. فإذن السبب في دوام هذا الملك هو لرحمة الله أولاً ولأمانته. فقد وعد الله أن يثبته ويبقى عرشه وحاشا لله أن يخلف الميعاد.
أيضاً في (العدد ٣٤) يكرر الكلام ذاته من جهة عدم نقض الله لعهد قطعه قديماً ولا يغير ما خرج من شفتيه كما يفعل البشر فهم وحدهم منافقون كذابون.
إذن هو وعد وعهد في آن واحد ويبني المرنم كلامه على ما ورد في (تكوين ٨: ٢١ و٢صموئيل ٧ و١أخبار ١٧ وإشعياء ٤٤: ٩). ويجعل من هذه الأحداث التاريخية دعامة يدعم بها موقفه من جهة علاقة الله ببيت داود المختار.
«٣٥ مَرَّةً حَلَفْتُ بِقُدْسِي أَنِّي لاَ أَكْذِبُ لِدَاوُدَ. ٣٦ نَسْلُهُ إِلَى ٱلدَّهْرِ يَكُونُ، وَكُرْسِيُّهُ كَٱلشَّمْسِ أَمَامِي. ٣٧ مِثْلَ ٱلْقَمَرِ يُثَبَّتُ إِلَى ٱلدَّهْرِ. وَٱلشَّاهِدُ فِي ٱلسَّمَاءِ أَمِينٌ. سِلاَهْ ٣٨ لٰكِنَّكَ رَفَضْتَ وَرَذَلْتَ. غَضِبْتَ عَلَى مَسِيحِكَ. ٣٩ نَقَضْتَ عَهْدَ عَبْدِكَ. نَجَّسْتَ تَاجَهُ فِي ٱلتُّرَابِ. ٤٠ هَدَمْتَ كُلَّ جُدْرَانِهِ. جَعَلْتَ حُصُونَهُ خَرَاباً».
يتابع المرنم الموضوع نفسه بأن الله حلف وهو الصادق الأمين بأن النسل الملكي – وقد يكون نسل إبراهيم على وجه الإجمال – أن يبقى على الدوام ولا يضمحل وهكذا يثبت هذا العرش كثبوت الشمس بل كما يثبت القمر الذي لا يخل في مواعيده وهو أساس الشهر حسب الحساب القديم وبواسطة ذلك قسمت السنون والقرون. ووراء هذه المظاهر الطبيعية الجبارة من الشمس والقمر يوجد الخالق العظيم الذي أبدع الكائنات كلها وبقدرته صنعت. وعرشه ذاته في السماء وهنا ترتفع الموسيقى بقوله – سلاه – أما الشاهد الأمين الذين في السماء فقد يكون قوس قزح الذي وعد الله به نوحاً. أما أيوب فيقول أيوب ١٦: ١٩ «أَيْضاً ٱلآنَ هُوَذَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ شَهِيدِي وَشَاهِدِي فِي ٱلأَعَالِي».
(٣٨ – ٤٥) يبدأ في هذا العدد يعاتب الله. فبعد أن يذكر المرنم أن الله قد أقسم بعهود لداود فكيف يرفضه ويرذله؟ بعد أن كان له الرضا فكيف يكون نصيبه السخط. ويستمر العتاب بقوله لقد نقضت العهد مع عبدك وهذا شيء لم يستطع المرنم فهمه بل قد دفعت تاجه للتراب بدلاً من أن يكون على الرأس. وبدلاً من أن يكون مقدساً جعلته في نجاسة. بل أن الله قد أزال الحواجز عن ممتلكات الملك وعدم الجدران وقد يكون المعنى مجازياً أي أنه لم يعد من فارق بين الملك والعامي كلاهما واحد في الامتهان والضعة. بل إنك يا رب قد هدمت تلك الحصون التي أقامها الملك على حدود بلاده فاجتازها الأعداء بقوة ولم يعد للملك قدرة أو مهابة.
«٤١ أَفْسَدَهُ كُلُّ عَابِرِي ٱلطَّرِيقِ. صَارَ عَاراً عِنْدَ جِيرَانِهِ. ٤٢ رَفَعْتَ يَمِينَ مُضَايِقِيهِ. فَرَّحْتَ جَمِيعَ أَعْدَائِهِ. ٤٣ أَيْضاً رَدَدْتَ حَدَّ سَيْفِهِ وَلَمْ تَنْصُرْهُ فِي ٱلْقِتَالِ. ٤٤ أَبْطَلْتَ بَهَاءَهُ وَأَلْقَيْتَ كُرْسِيَّهُ إِلَى ٱلأَرْضِ. ٤٥ قَصَّرْتَ أَيَّامَ شَبَابِهِ. غَطَّيْتَهُ بِٱلْخِزْيِ. سِلاَهْ».
وهكذا فإن كل عابر طريق قد تجاسر على الاعتداء فلم يعد من حرمة ترعى ولا من كرامة تحترم.
يستمر المرنم في تعداد الإهانات التي لحقت بالملك وشعبه وإذا بأيدي المضايقين ترتفع بالعدوان فهم علاوة على صلفهم لا يتورعون من أن يلحقوا الأذى في أي وقت. وهكذا كان الأعداء في فرح بينما كان الشعب في غمٍ وكمد.
بل إن الله لم ينصر الملك في المعركة فنبا سيفه وانخذل وبدلاً من أن يحوز الانتصار كان نصيبه الفشل والانكسار.
وكانت النتيجة أنه لم يعد له أي بهاء إذ لا بهاء بدون قدرة وصولة ولا عظمة إلا بما يدعمها ويثبتها. وكانت النتيجة أن ألقي العرش في التراب بدلاً من أن ينتصب شريفاً عالياً بالنسبة للمكانة التي رمقه الله بها من قبل وبالنسبة للعهود الثابتة المقطوعة التي لا يمكن أن ينساها الله أو ينقضها.
وكانت النتيجة أيضاً أن هذا الملك المدحور قد مات كمداً وهو لم يبلغ من العمر مبلغاً كبيراً. إذ أن الخزي قد غطاه فلم يستطع أن ينهض بعد فسلم نفسه لليأس القاتل.
وهكذا لقد انقسمت المملكة فذهب القسم الأكبر شاقاً عصا الطاعة وأما القسم الصغير الآخر فهو تحت نفوذ مصر وسطوتها لذلك قد ذهب المجد وقوله – سلاه – لعظمة النكبة التي يذكرها فهي تستحق أن يلتفت إليها الله ويرحم عبده ويرضى عليه بعد وهو الغفور الرحيم.
«٤٦ حَتَّى مَتَى يَا رَبُّ تَخْتَبِئُ كُلَّ ٱلٱخْتِبَاءِ؟ حَتَّى مَتَى يَتَّقِدُ كَٱلنَّارِ غَضَبُكَ؟ ٤٧ ٱذْكُرْ كَيْفَ أَنَا زَائِلٌ. إِلَى أَيِّ بَاطِلٍ خَلَقْتَ جَمِيعَ بَنِي آدَمَ؟ ٤٨ أَيُّ إِنْسَانٍ يَحْيَا وَلاَ يَرَى ٱلْمَوْتَ؟ أَيٌّ يُنَجِّي نَفْسَهُ مِنْ يَدِ ٱلْهَاوِيَةِ؟ سِلاَهْ. ٤٩ أَيْنَ مَرَاحِمُكَ ٱلأُوَلُ يَا رَبُّ ٱلَّتِي حَلَفْتَ بِهَا لِدَاوُدَ بِأَمَانَتِكَ؟ ٥٠ ٱذْكُرْ يَا رَبُّ عَارَ عَبِيدِكَ ٱلَّذِي أَحْتَمِلُهُ فِي حِضْنِي مِنْ كَثْرَةِ ٱلأُمَمِ كُلِّهَا».
(٤٦ – ٥١) بعد أن ينهي المرنم تعداده لمظاهر العار التي لحقت بالشعب فإنه يبدأ هنا بأن يذكر بعض الأشياء التي تزيل النكبة وتنهض الساقطين. فيرى الله أنه قد حجب وجهه وهو كأنه غائب أو موجود ولكنه مختبئ. وإنما هو كذلك لأنه لا يزال غضباناً ويلتمس المرنم من الله الرضا فيتذلل أمامه بقوله هوذا كل شيء زائل لا يمكن أن يبقى بل أن هذه هي حالة كل من في الدنيا هي ليست دار قرار بل دار فرار ليس إلا يأتيها الناس ثم يذهبون. ويتساءل المرنم متعجباً أي إنسان يحيا لا يرى الموت؟ إن الإنسان باطل ولكن الرب نفسه فهو الذي ينقذ وينجي. لذلك يلتفت إلى الله بطلب العون ويسأله المراحم وأن يعود للعهود القديمة للتذكار. يراجع المرنم المجد الغابر في أيام داود وسليمان ولا يسعه إلا أن يذرف الدموع على ما مضى.
(أما العدد ٥٠) فيحتاج إلى قليل من التمعن فماذا يعني بقوله احتمله في حضني… وفي الترجمة اليسوعية «اذكر أيها السيد عار عبيدك الذي تحملته في حضني…» أي أن هذا الشعب قد ذل إلى درجة أنه يضطر أن يتحمل الذل والأذى صابراً ساكتاً ويضم هؤلاء الأعداء إلى صدره رغماً عنه على حد قول أبي الطيب المتنبئ:
ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى | عدواً له ما من صداقته بدّ |
«٥١ ٱلَّذِي بِهِ عَيَّرَ أَعْدَاؤُكَ يَا رَبُّ، ٱلَّذِينَ عَيَّرُوا آثَارَ مَسِيحِكَ. ٥٢ مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ إِلَى ٱلدَّهْرِ. آمِينَ فَآمِينَ».
لقد كفى هذا العار الذي لحق شعبك وملكهم. لقد كفى يا رب ما تطاولوا به وما شوهوه من معالم الأمجاد القديمة. إن آثار مسيحك يجب أن تظل مفهومة واضحة حتى يراها الناس ويفتخروا بها فلا تطمس فيما بعد ولا تضمحل.
وأما العدد (٥٢) فهو خاتمة تسبيحة للرب ينتهي بها القسم الثالث من كتاب المزامير.
السابق |
التالي |