سفر المزامير

سفر المزامير | 86 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّادِسُ وَٱلثَّمَانُونَ

صَلاَةٌ لِدَاوُدَ

«١ أَمِلْ يَا رَبُّ أُذُنَكَ. ٱسْتَجِبْ لِي، لأَنِّي مِسْكِينٌ وَبَائِسٌ أَنَا. ٢ ٱحْفَظْ نَفْسِي لأَنِّي تَقِيٌّ. يَا إِلٰهِي خَلِّصْ أَنْتَ عَبْدَكَ ٱلْمُتَّكِلَ عَلَيْكَ. ٣ ٱرْحَمْنِي يَا رَبُّ لأَنِّي إِلَيْكَ أَصْرُخُ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ. ٤ فَرِّحْ نَفْسَ عَبْدِكَ لأَنَّنِي إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَرْفَعُ نَفْسِي».

إن عنوان هذا المزمور «صلاة داود» الموضوع هنا بين مزامير قورح هو لداود فقط على نسبة أنه من نسق كتابة داود وفي ذلك النفس المتواضع الذي كان يسكب داود قلبه بواسطته أمام الله. وإنما ليس في تلك الرتبة العالية التي امتازت بها مزامير داود كما أنه لا يمكن مقابلته مع بقية مؤلفي المزامير الأعلام. فهو مزمور طقسي أكثر مما هو شعري وقد وردت كلمة «يا رب» فيه سبع مرات وهو من مجموعة تلك المزامير «الربية» التي تقابل مجموعة المزامير «الألوهية».

(١ – ٤) يبدأ هذا المزمور بما يشبه المزمور ٥٥: ٣ تماماً. كما أن طلب استجابة الله هو للسبب ذاته الذي يورده (المزمور ٤٠: ١٨). ونجد في العدد الثاني أنه مزمور لطلب حفظ الله وصيانته (راجع مزمور ١١٩: ١٦٧). هو بحاجة إلى حفظ الله ويطلب ذلك بالنسبة لحسبانه نفسه تقياً (راجع لوقا ١٨: ١١ – ١٢). إن التقوى شيء وادعاء التقوى شيء آخر ولذلك نجد في هذا الكلام تديناً من المرتبة الرفيعة التي امتازت بها مزامير داود السهلة المنال القريبة للطبع والمرسلة عفو الخاطئ دون أي تصنع أو ادعاء. في العدد الثاني يرينا قيمة الاتكال الكامل على الله وأنه هو سبب الخلاص. أما العدد الثالث فيذكر فيه استمراره على الصراخ إلى الله لأنه يرجو رحمته ولا يكف عن ذلك حتى ينالها. هو مؤمن واثق برحمة الله لذلك هو لا يتأخر عن الصراخ لحظة واحدة لئلا يعتمد على نفسه ويترك إلهه. إذ ليس في نفسه أي نجاة وكل الخلاص هو منحة من لدنه تعالى. ثم في العدد الرابع يرينا أن الفرح القلبي يخامره لأنه قد ألقى حمله على قوة خارجة عن نفسه قوية جبارة. وهذا المرنم الذي يسقط إلى الحضيض أمام الله إذا به يرتفع رويداً رويداً كلما استمر على صلاته حتى يمتلئ قلبه أخيراً بذلك الفرح الغالب المنتصر الذي يحوّل كل متاعب الحياة إلى راحة كاملة.

«٥ لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ صَالِحٌ وَغَفُورٌ وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ لِكُلِّ ٱلدَّاعِينَ إِلَيْكَ. ٦ اِصْغَ يَا رَبُّ إِلَى صَلاَتِي وَأَنْصِتْ إِلَى صَوْتِ تَضَرُّعَاتِي. ٧ فِي يَوْمِ ضِيقِي أَدْعُوكَ لأَنَّكَ تَسْتَجِيبُ لِي. ٨ لاَ مِثْلَ لَكَ بَيْنَ ٱلآلِهَةِ يَا رَبُّ وَلاَ مِثْلَ أَعْمَالِكَ. ٩ كُلُّ ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ صَنَعْتَهُمْ يَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ يَا رَبُّ وَيُمَجِّدُونَ ٱسْمَكَ».

(٥) وفي هذا العدد يتمم المرنم ما شرع به من فكرة عالية. فهو يرى أن إيمانه هذا وطيد مكين لأن الله قريب إليه. هنا صرخة إنسان تقي بالحق ولا يدعي التقوى فقط فهو يدعو الله دائماً ويصرخ إليه منادياً في كل مواقف حياته ولا يتراجع عن ذلك أبداً حتى ينال مبتغاه. يعرف أنه من قبل قد أخطأ ضد اسم الله ولكن قد نال المغفرة والصفح وذلك ليس لبر فيه بل يعترف علناً بأن الله كثير الرحمة ويسمع الدعاء ويرحم ويغفر.

(٦ – ٩) في هذه الأعداد كلها ترديد لما ورد من عبارات في مزامير سابقة ولا مجال للاستنباط والإبداع فهو مقلد أكثر منه منشئ (راجع مزمور ١٧: ٦) بينما نجد أن العدد الثامن القسم الأول منه مأخوذ من (خروج ١٥: ١١) ثم قابل ذلك مع (مزمور ٨٩: ٩) إنما لا يذكر الآلهة. ونجد أن القسم الآخر من العدد ٨ يتابع (تثنية ٣: ٢٤). بينما العدد التاسع هو شبيه (بالمزمور ٢٢: ٢٨) وهكذا نجد بعض الأقسام الأخرى من هذا المزمور مقتبسة من مواضيع مختلفة مما يدلنا أنه لمحفوظات في الذاكرة أكثر مما هو من وضع جديد.

وفي العدد التاسع نجد فكرة سامية من جهة أن الله هو إله كل الشعب لذلك فيتوجب على الجميع أن يأتوا للسجود أمامه وتقديم الخضوع عند موطئ قدميه. إنما يمجدون اسمه لأنهم أصبحوا يعرفونه بالذات ويعترفون بإحساناته وإنعاماته ليس فقط لشعب الله بل لجميع الشعوب. وهؤلاء الأمم قد صنعهم الله على صورته ومثاله لذلك هم مطالبون بالخضوع والسجود ولا يعفون من ذلك لأي جهل يظهرونه فيما بعد.

إن تمجيد اسم الله معناه الخضوع التام لمشيئته إذ أن الاعتراف علناً دون اليقين القلبي لا يفيد شيئاً ومتى أصبح الشعوب كلهم يعترفون بإله واحد فقد تقاربوا وتعاونوا على استتباب السلام الدائم.

«١٠ لأَنَّكَ عَظِيمٌ أَنْتَ وَصَانِعٌ عَجَائِبَ. أَنْتَ ٱللّٰهُ وَحْدَكَ. ١١ عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ، أَسْلُكْ فِي حَقِّكَ. وَحِّدْ قَلْبِي لِخَوْفِ ٱسْمِكَ. ١٢ أَحْمَدُكَ يَا رَبُّ إِلٰهِي مِنْ كُلِّ قَلْبِي وَأُمَجِّدُ ٱسْمَكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ. ١٣ لأَنَّ رَحْمَتَكَ عَظِيمَةٌ نَحْوِي، وَقَدْ نَجَّيْتَ نَفْسِي مِنَ ٱلْهَاوِيَةِ ٱلسُّفْلَى».

(١٠ – ١٣) قابل العدد العاشر بما ورد في (مزمور ٧٢: ١٨) فنجد أنه يتصرف بالمعنى قليلاً فبدلاً من أن يقول «الصانع العجائب وحده» إذا به يقول إنه صانع عجائب. وإنه هو الله وحده. فهذا استنتاج حسن وتصرف يدل على سمو في التفكير. هذا الإله الذي صنع العجائب قديماً وخلّص شعب إسرائيل من عبودية مصر ومن عبوديات أخرى بعدها قد أكد للبشر جميعاً أنه هو الحاكم وحده في السماء والأرض ولا يستطيع أحد أن يقول له ماذا تفعل.

وإن يكن هذا المزمور قد اقتبس الشيء الكثير من مصادر متعددة فهو أيضاً يحوي جمالاً لا نستطيع أن نمر به بدون التفات وتمعن. ففي العدد الحادي عشر نجد المرنم يطلب أن يتعلم الطريق (انظر يوحنا ١٤: ٥) وطلبه هذا يشفعه بقوله أنه يريد أن يسلك بالحق ثم بعد ذلك يصلي لكي لا يكون مشتّت الفكر كثير النزعات مقسّم الاهواء بل يلتمس أن يكون بقلب مخلص أمام الله. يعرف أن لا قوة في حياته إذا كان متضعضعاً إن في عبادته أو تصرفاته. عليه أن يخلّص بالتمام ليكون سعيداً في إيمانه بعد ذلك متمماً للوصية الأولى «لا يكون لك آلهة أخرى أمامي».

ولأنه يشعر بهذا الإخلاص فهو في العدد الثاني عشر يحمد الله ويشكره من كل قلبه. فهذا القلب الذي كان مشتتاً إذا به يجتمع الآن على حب الله والإيمان به. ولأنه كذلك فهو يمجده ويذيع اسمه في كل مكان.

وينتقل في العدد الثالث عشر لكي يبين ما هو السبب الذي يجعله سعيداً على هذه الصورة فهو يذكر رحمة الله لا سيما وقد كانت عظيمة إذ أن مصيبته كانت عظيمة جداً ولا يمكن نجاته منها بدون أن يكون له رحمة تقابلها. على قدر عمق الهوة السحيقة السفلى التي سقط فيها امتدت يد الحنان إليه وانتشلته فكانت نشلة جبارة رفعته مرة أخرى وملأت قلبه بالإيمان. هنا الكلام عن اختبار شخصي فقد حدثت له أمور يذكرها تلميحاً ويجد فيها سبباً حقيقياً للشكر. وأعظم الشكر هو ذاك الذي يخبرنا عن أمور قاسيناها نحن ونجونا منها وليس فقط إننا سمعنا بها.

«١٤ اَللّٰهُمَّ، ٱلْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ قَامُوا عَلَيَّ، وَجَمَاعَةُ ٱلْعُتَاةِ طَلَبُوا نَفْسِي وَلَمْ يَجْعَلُوكَ أَمَامَهُمْ. ١٥ أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَإِلٰهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ ٱلرُّوحِ وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ وَٱلْحَقِّ. ١٦ ٱلْتَفِتْ إِلَيَّ وَٱرْحَمْنِي. أَعْطِ عَبْدَكَ قُوَّتَكَ وَخَلِّصِ ٱبْنَ أَمَتِكَ. ١٧ ٱصْنَعْ مَعِي آيَةً لِلْخَيْرِ فَيَرَى ذٰلِكَ مُبْغِضِيَّ فَيَخْزَوْا لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ أَعَنْتَنِي وَعَزَّيْتَنِي».

(١٤) هنا يجد المرنم تشابهاً بين حالته وحالة داود حينما طلب شاول نفسه ليهلكها. فهو إنسان مضطهد يقاسي الآلام والمتاعب العظيمة. لا سيما وإن أخصامه هم من القوم الكبار المعتدين بأنفسهم الذين لم يجعلوا الله أمامهم ولم يخافوا وجه إنسان فماذا يستطيع هو أن يفعل في حالة كهذه سوى التسليم الكامل للعناية الحنونة. أخذ كلمة «اللهم» من مزمور ٥٤: ٥ وأبقاها مثل اسم علم.

(١٥ – ١٧) في العدد الخامس عشر يعود المرنم إلى (خروج ٣٤: ٦) وهكذا نجده يدعم أقواله بأمور تاريخية وبعبارات مألوفة ثقلتها الألسنة على مر الأجيال. ولنا من هذا أنه كان مطلعاً على الكتابات المقدسة التي كانت معروفة في أيامه والأرجح أنه كان من رجال الكهنوت المتعلمين حتى استطاع أن يحفظ بذاكرته هذه المعلومات القيمة.

يرجو الله مرة أخرى أن يلتفت إليه لأنه عبده بل وهو ابن أَمته. أي أنه عبد موروث قديم وليس جديداً في بيت سيده. إذن هو إسرائيلي حقاً لا غش فيه.

وهنا في العدد السابع عشر يلخص المرنم كلامه بطلب آية لكي يدعمه بها تجاه أعدائه ومبغضيه وهكذا ينالهم الخزي وأما هو فيعود بالمجد والفخار ولكن فخره ليس ذاتياً أنانياً بل هو من فضل الله وإحسانه إليه. وأخيراً يختم كلامه بالشهادة المزكاة إن الله قد أعانه وعزّى قلبه وطيّب خاطره فكما فعل معه في الماضي سيفعل الآن لأن العلاقة قوية ومتينة لا يستطيع أي شيء أن يفصم عراها أو يزحزحها عن سبيلها المستقيم. إله الخير يصنع مع عبده آية للخير (راجع نحميا ٥: ١٩ وأيضاً ١٣: ٣١ وكذلك انظر عزرا ٨: ٢٢).

إنها خاتمة لمزمور مملوء بالإيمان والثقة وبفيض بالاختبار الشخصي الذي يجعلنا نستفيد منه لأنفسنا استفادة كبيرة بعد أن نجانا الله من مخاطر متعددة ومصائب متكررة.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى