سفر المزامير | 85 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلْخَامِسُ وَٱلثَّمَانُونَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِبَنِي قُورَحَ. مَزْمُورٌ
«١ رَضِيتَ يَا رَبُّ عَلَى أَرْضِكَ. أَرْجَعْتَ سَبْيَ يَعْقُوبَ. ٢ غَفَرْتَ إِثْمَ شَعْبِكَ. سَتَرْتَ كُلَّ خَطِيَّتِهِمْ. سِلاَهْ. ٣ حَجَزْتَ كُلَّ رِجْزِكَ. رَجَعْتَ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِكَ».
هذا المزمور هو أحد تلك الترانيم الفياضة بالعاطفة والشعور التي نظمها الشعراء لدى عودتهم من السبي. ونجد أمثال هذا فيما نسميه إشعياء الثاني أي في الأصحاحات الأربعين إلى الآخر من سفر ذلك النبي. وقد ذكر أحد المفسرين أن كلام هذا المزمور ينطبق على العصر الذي لازم السبي حينما أخذت الأمة تتكون من جديد وتبني معالمها الدارسة وتعيد مظاهر حياتها إلى حالتها الطبيعية. وعلى كل ليس هم المزمور الأول أن يدل على حوادث تاريخية جرت وإن يكن أن الأعداد ٢ – ٤ تنم عن أن الشعب قد استقر في الأرض ولم يعد عليه أي خوف أو خطر.
(١ – ٣) يعود المرنم في هذا العدد إلى التاريخ المملوء بكل دلائل الرضا والقبول. ونلاحظ في بدء الأعداد الثلاثة ١ و٢ و٣ قوله «رضيت. غفرت. حجزت». ثم نجد في القسم الثاني من كل عدد قوله «أرجعت. سترت. رجعت». يذكر المرنم في هذه الأفعال المختلفة حوادث لا شك قد مرت على الشعب وعليهم أن يتذكروا ولا ينسوا قط. وهكذا فإن غضب الله هو إلى حين ثم يعود للرضا على شرط أن يحسن الإنسان سلوكه مع الله ولا يستمر على غوايته وشره. وفي قوله في العدد الأول «سبي يعقوب» يوجد إشارة إلى حادثة تاريخية حقيقية وليس الكلام من قبيل المجاز فقط. ونجد في العدد الثاني «سلاه» دليل ارتفاع الموسيقى وإن المعنى هنا قد وصل إلى غايته القصوى. لأن رضا الله بإرجاع السبي قد عقبه الغفران ومحو الذنوب. إذ لو كان مجرد رضا وقتي ولم يتم الغفران فيكون أن الله سوف يقاص شعبه بعد ولا يرحمهم. والخطية لانها تؤذي الضمير وتلطخ السيرة وتفسدها لذلك فإن سترها معناه محوها بتاتاً حتى لا يستطيع أحد أن يراها. بالطبع لا يقصد بذلك أن يسمح لنفسه بخطايا غير ظاهرة إنما القصد أن يؤكد أن الخطايا الفردية والشعبية قد غفرت تماماً ولم يعد شيء من آثارها.
«٤ أَرْجِعْنَا يَا إِلٰهَ خَلاَصِنَا وَٱنْفِ غَضَبَكَ عَنَّا. ٥ هَلْ إِلَى ٱلدَّهْرِ تَسْخَطُ عَلَيْنَا؟ هَلْ تُطِيلُ غَضَبَكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ؟ ٦ أَلاَ تَعُودُ أَنْتَ فَتُحْيِينَا فَيَفْرَحَ بِكَ شَعْبُكَ؟ ٧ أَرِنَا يَا رَبُّ رَحْمَتَكَ وَأَعْطِنَا خَلاَصَكَ. ٨ إِنِّي أَسْمَعُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ ٱللّٰهُ ٱلرَّبُّ. لأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِٱلسَّلاَمِ لِشَعْبِهِ وَلأَتْقِيَائِهِ، فَلاَ يَرْجِعُنَّ إِلَى ٱلْحَمَاقَةِ».
(٤ – ٧) في هذه الأعداد الأربعة يوجد صلاة حارة لله لكي يعود فيترأف على شعبه ولا يذكر خطاياهم فيما بعد. لقد سبق لله أن غفر الإثم وصفح عن الذنب فليكن هذا العمل إذن ليس شيئاً تاريخياً تم في الماضي ولا يعود الآن بل بالأحرى هو عمل مستمر يبقى ما دام الله غفوراً رحيماً. ونلاحظ أن الضمير هو للمتكلم الجمع فكان دليلاً على أن الكلام هو باسم الشعب كله وليس باسم أي فرد منهم. وفي العدد الرابع بدلاً من القول «ارجعنا…» كان الأفضل أن تترجم ارجع إلينا… أي إن الله قد التفت بعيداً مهملاً شعبه وهذا الشعب أصبح في غضب الله وبعده فيطلب المرنم أن يعود الله إليهم وليس فقط أنهم هم يعودون إليه. إذ في نظره لا قيمة لرجوع الخاطئ طالما الله لا يلتفت ولا يهتم به. بالطبع هنا دلالة على أن الكلام لم يصل إلى ذلك النضج الروحي الذي يصوره العهد الجديد بأجلى بيان (راجع لوقا ١٥: ١٢) حينما يصرخ الابن الضال «أقوم واذهب إلى أبي…» بعد أن يعود إلى نفسه فإن الأب الحنون يقبل الابن التائب حالاً وبلا أقل تردد. بعد أن يلتمس في العدد الرابع يتساءل في العدد الخامس ويترجى في السادس وأخيراً في السابع يطلب الرحمة الكاملة والخلاص.
(٨) بعد هذا التساؤل والترجي إذا بالمرنم يعود إلى نفسه واثقاً متأكداً فهو قد أصغى طويلاً والآن يسمع. وهل نستطيع أن نسمع دون إصغاء؟ فلولا تساؤله الطويل وكثرة انتظاره وترجيه لما قدر أن يأخذ من الله وعداً كريماً صريحاً بأن يتكلم بالسلام لشعبه. فبعد تلك الحروب الطاحنة التي أذلت الشعب وكسرت شوكته وأزالت استقلاله فنفي بعيداً وسبي إلى أرض غريبة واحتمل هناك كل أنواع الإهانة والذل إذا به الآن يعود إلى عيش كريم هنيء. ولكن يضع المرنم أمامهم شرطاً أساسياً بقوله إنهم لا يجوز أن يعودوا إلى حماقتهم الأولى. فقد عصوا الله كفاية وتمردوا على وصاياه فعليهم أن يحتفظوا برضاه بأن يسلكوا في طاعته دائماً.
«٩ لأَنَّ خَلاَصَهُ قَرِيبٌ مِنْ خَائِفِيهِ، لِيَسْكُنَ ٱلْمَجْدُ فِي أَرْضِنَا. ١٠ ٱلرَّحْمَةُ وَٱلْحَقُّ ٱلْتَقَيَا. ٱلْبِرُّ وَٱلسَّلاَمُ تَلاَثَمَا. ١١ ٱلْحَقُّ مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُتُ، وَٱلْبِرُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ يَطَّلِعُ. ١٢ أَيْضاً ٱلرَّبُّ يُعْطِي ٱلْخَيْرَ، وَأَرْضُنَا تُعْطِي غَلَّتَهَا. ١٣ ٱلْبِرُّ قُدَّامَهُ يَسْلُكُ وَيَطَأُ فِي طَرِيقِ خَطَوَاتِهِ».
(٩ – ١٠) في هذين العددين يتابع المرنم كلامه الذي يقتبسه من صوت الله فهو يصغي كما فعل النبي حبقوق (انظر حبقوق ٢: ١). في هذه العبارات القوية المتلاحقة نجد تأكيداً لما يقوله الله فلا يستطيع المرنم أن يسكت لذلك نراه يتكلم بما يحسبه كلام الله له بالذات. أما السلام الذي تكلم عنه في العدد السابق فهو نتيجة خلاص الرب إذ لولاه لما وجد أي سلام. لا سيما وهو ينظر إلى المجد «يسكن في أرضنا» إذن هو سلام الغلبة والظفر لا سلام الاندحار والعار. ويقسم العدد العاشر إلى قسمين «الرحمة والحق» ثم «البر والسلام». هذه الأشياء كلها قد بعدت عن الأرض مدة طويلة ولذلك فوجودها الآن يستقبل بكل حفاوة وترحيب كما تستقبل الأرض العطشانة أول الوسمي من الأمطار. ونرى أن الرحمة التي يظهرها الله توحي للناس أن يتبعوا الحق وهكذا يلتقي الاثنان في شوارع أورشليم. ومن جهة أخرى فإن الحياة الطاهرة النقية والاستقامة في المعاملات بين الناس تسبب سلاماً حقيقياً وهكذا يجتمعان ويقبل واحدهما الآخر علامة السعادة الدائمة والتوفيق.
(١١ – ١٣) الحق يحكم في الناس طالما ينزل عليهم بر الله من السماء. فلولا بذور بر الله النازلة من السماء لما كان استقامة تنبت في معاملات الناس بعضهم نحو بعض. هنا يصوّر لنا علاقة النتائج بأسبابها فلولا هذه لما كانت تلك. وعليه فإن الإنسان الذي ينتظر العدل عليه أولاً أن يتمشى ببر الله وأمانته. ثم في العدد الثاني عشر نجد أن الله يعطي رضاه فيتطلع نحو الأرض بالعطف والإحسان وإذا بها عندئذ تعطي غلتها الكثيرة. فإذن هذه الغلة الكثيرة وهذا الخصب المتزايد هو دليل أن الله قد رضي عن شعبه ويريد لهم تمام النجاح. إن خير الله هو الذي يسبب الغلة في الأراضي أي تعطي خيرها أيضاً. وفي العدد الأخير نجد تكميلاً لهذه الصورة الرائعة بأن يجعل الله يتمشى في أرض شعبه كلها فهو ليس مكان واحد معين بل يريد أن يتفقد كل إنسان بخيره كما يفعل الملك الحنون الحكيم نحو شعبه فهو لهم ومعهم في كل الظروف والأحوال. هوذا البر يسير حيثما يكون الله ولأنه بار على الدوام فإن البر سيبقى في الأرض التي يقطنها الله ويمشي فيها ولا يتخلى عنها أبداً.
السابق |
التالي |