سفر المزامير | 84 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلرَّابِعُ وَٱلثَّمَانُونَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ٱلْجَتِّيَّةِ. لِبَنِي قُورَحَ. مَزْمُورٌ
«١ مَا أَحْلَى مَسَاكِنَكَ يَا رَبَّ ٱلْجُنُودِ. ٢ تَشْتَاقُ بَلْ تَتُوقُ نَفْسِي إِلَى دِيَارِ ٱلرَّبِّ. قَلْبِي وَلَحْمِي يَهْتِفَانِ بِٱلإِلٰهِ ٱلْحَيِّ. ٣ اَلْعُصْفُورُ أَيْضاً وَجَدَ بَيْتاً، وَٱلسُّنُونَةُ عُشّاً لِنَفْسِهَا حَيْثُ تَضَعُ أَفْرَاخَهَا، مَذَابِحَكَ يَا رَبَّ ٱلْجُنُودِ، مَلِكِي وَإِلٰهِي».
موضوع هذا المزمور هو التشوق إلى بيت الرب والسعادة التي ينالها المؤمن بواسطة السكنى فيه. وهو من تلك المزامير العاطفية الخلابة التي تدل على عمق الحياة الروحية والتلذذ بالاجتماع في بيت الرب. لذلك فناظمه متصوف من الدرجة الأولى. يرى في العبادة سمواً إلى الأعالي وغذاء روحياً تستقيم به النفوس كما يفعل الغذاء الجسدي للجسد. ويرى أن العصفور والسنونة تجد في بيت الرب ما يجد هو من حماية ورعاية.
هذا المزمور هو لبني قورح كما يذكر عنوانه والأرجح أن المرنم كان بعيداً عن أورشليم وعن الهيكل ولذلك فهو يذكر الوطن بالحنو والحنين. ويتمنى العودة والسكنى قريباً. وقوله على الجتية كما ورد في المزمور الثامن والمزمور الخمسين هي نوع من الآلات الموسيقية. ونسق المزمور هو من النوع الفني العالي الذي يلتهب غيرة وحماسة للرب.
(١ و٢) يتغزل أولاً بمحاسن بيت الرب ويجد فيه حلاوة وطيباً لا يجدهما في غيره. ومساكن الرب هي على جبل صهيون حيثما يقوم الهيكل رفيعاً شامخاً إلى العلاء يسمو بأبراجه وقببه. وهو يحن للوصول إليه حنيناً قلبياً كما (أيوب ١٩: ٢٧). فإن قلبه وجسده كله تشتاق ذلك الشوق المضني بمشاهدة تلك الأمكنة المقدسة. بل هو يجد في ذلك المكان ما يبرد غلته ويروي ظمأه حتى أن قلبه يهتف بحمد الله وشكره على هذا الإحسان العظيم. وهو إله حي لأنه قديم الأيام فكما كان الهيكل للجدود والإله العظيم هو إله الآباء والجدود كذلك فهو الإله الآن أيضاً لا يتغير ولا يزول.
(٣) العصفور هو الأرجح (الدوري) الذي كان معروفاً عندئذ وهو الذي وضع عشه في الهيكل. كما أن السنونة فعلت كذلك. لأن في ذلك المكان حماية وعطفاً لا يجدهما في غيره. وهذه تضع أفراخها في العش آمنة مطمئنة أكثر من أي موضع أخر قد تصل إليه يد الأولاد الذين يهاجمون أعشاش الطيور ليخربوها ويقتلوا أفراخها غير مشفقين على شيء. ويعين مكان الأعشاش أنها في المذابح المقامة حيثما يوجد بعض الشقوق فيها تناسب لبنائها وهي في أمنٍ وسلام.
«٤ طُوبَى لِلسَّاكِنِينَ فِي بَيْتِكَ أَبَداً يُسَبِّحُونَكَ. سِلاَهْ. ٥ طُوبَى لِأُنَاسٍ عِزُّهُمْ بِكَ. طُرُقُ بَيْتِكَ فِي قُلُوبِهِمْ. ٦ عَابِرِينَ فِي وَادِي ٱلْبُكَاءِ يُصَيِّرُونَهُ يَنْبُوعاً. أَيْضاً بِبَرَكَاتٍ يُغَطُّونَ مُورَةَ. ٧ يَذْهَبُونَ مِنْ قُوَّةٍ إِلَى قُوَّةٍ. يُرَوْنَ قُدَّامَ ٱللّٰهِ فِي صِهْيَوْنَ. ٨ يَا رَبُّ إِلٰهَ ٱلْجُنُودِ ٱسْمَعْ صَلاَتِي، وَٱصْغَ يَا إِلٰهَ يَعْقُوبَ. سِلاَهْ».
(٤) في هذا العدد نجد أن ذلك العصفور المذكور في العدد الماضي هو للإستعارة فيلتفت إلى نفسه ويتمنى مطوباً الناس الذين يستطيعون السكنى في بيت الرب لكي يسبحوه على الدوام. وينتهي بارتفاع الموسيقى. ما أعمق هذا الحنين وما أجمله صادراً من قلب مشوق بعيد عن الوطن يحن رجوعاً إليه وأحسن محل في نظره هو بيت الرب نفسه للحفظ والحماية من جميع الأخطار والشرور التي تحيط به في غربته.
(٥) ولا يكتفي بأن يطوب الساكنين بل يطوب المعتزين ببيت الرب الذين يفتخرون بدينهم ويعتزون بإيمانهم ويباهون. أولئك الذين يعيشون بديانة قلبية لا ظاهرية فقط. فإن هو تمنى القدوم فإنما بطريق القلب والعبادة الحقة لا بطريق المراسيم الخارجية.
(٦ و٧) وهم في سفرتهم والأمل يملأ قلوبهم يجعلون من وادي البكاء بدلاً من أن يملأوه بالدموع إذا به يتحول ينبوعاً ذلك لأن عظمة ما يتوقعونه يجعلهم ينسون ما هم فيه من وعثاء السفر ومشقاته وحيئنذ فإن الطريق التي يسيرون فيها بمحطاتها الكثيرة المختلفة تصبح أمكنة نزهة وغبطة ويرون البركات المتعددة كلما جدّوا في المسير بعد. وهكذا فإن ضعفهم يتحول إلى قوة وتعبهم يتحول إلى راحة ولا يزالون كذلك إلى أن يقفوا أمام المحجة التي يقصدونها.
(٨) وصلاته هي أن يصل إلى ما يقصده بخير وسلام ذلك لأن المهم ليس تعب الطريق بل الوصول إلى نهاية السفرة فنرتاح بالاطمئنان ونسعد بدار الأمان. ثم يعود فيتحول المرنم لكي يسمع صلاته للرب ويلتمس منه الإصغاء حتى لا يذهب تعبه ضياعاً وتكون نهاية السفر أفضل من بدائتها. وهكذا مرة أخرى ترتفع الموسيقى كإنما قد وصل المسافر إلى غرضه بالنسبة لشدة تيقنه بأن الرب لا بد مستجيب صلاته على كل حال.
«٩ يَا مِجَنَّنَا ٱنْظُرْ يَا اَللّٰهُ، وَٱلْتَفِتْ إِلَى وَجْهِ مَسِيحِكَ. ١٠ لأَنَّ يَوْماً وَاحِداً فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ. ٱخْتَرْتُ ٱلْوُقُوفَ عَلَى ٱلْعَتَبَةِ فِي بَيْتِ إِلٰهِي عَلَى ٱلسَّكَنِ فِي خِيَامِ ٱلأَشْرَارِ. ١١ لأَنَّ ٱلرَّبَّ ٱللّٰهَ شَمْسٌ وَمِجَنٌّ. ٱلرَّبُّ يُعْطِي رَحْمَةً وَمَجْداً. لاَ يَمْنَعُ خَيْراً عَنِ ٱلسَّالِكِينَ بِٱلْكَمَالِ. ١٢ يَا رَبَّ ٱلْجُنُودِ، طُوبَى لِلإِنْسَانِ ٱلْمُتَّكِلِ عَلَيْكَ!».
(٩) يترك المرنم الآن أولئك المسافرين الحاجين إلى الديار المقدسة الذاهبين للوقوف في بيت الرب ويجد نفسه أنه في خيال جميل هو أشبه بالحلم وإذا به يعود إلى نفسه فيجد أنه لا يزال بعيداً عن الأوطان وإن المخاطر لا تزال تحيط به من كل جانب. يحتاج الله لأنه المجن الذي تحته يحتمي. يحتاج إليه لكي يتلفت إلى وجه مسيحه. وفي قوله «وجه مسيحك» قد ذهب بعضهم إلى الظن أن المقصود هو داود وإن زمن كتابة هذا المزمور هو وقت اضطهاد أبشالوم. ولكني لا أرى ضرورة لذلك بل هو دعاء لمسيح الرب أياً كان. فإذا كان المرنم كاهناً فهو مسيح الرب أيضاً. وقد يكون أنه يصلي طالباً الحماية لأمته بواسطة ملكها الممسوح من الرب عليها وهو الآن في حالة الضيق والبعد عن الأوطان.
(١٠) يعود مرة أخرى لما شرع به من تمجيد لبيت الرب وحنين للرجوع إليه. وهو يرى مفضلاً أن يسكن يوماً واحداً في بيت الرب على أن يسكن ألفاً في غيره. بل يفضل أن يقف على العتبة حتى لا يستطيع الدخول لكثرة الازدحام من أن يسكن قرير العين في خيام الأشرار الذين ملّ عشرتهم ويتمنى البعد عنهم الآن.
(١١ و١٢) مما يلفت النظر في هذا العدد أن يذكر أن الرب شمس ثم يتبعه بقوله ومجن. وهذه هي المرة الوحيدة التي وردت في الكتابات المقدسة على هذه الصورة. نعم يوجد «شمس البر والشفاء في أجنحتها». فهو شمس بأنه لا يطال ولكنه يصل إليها فيعطي رحمة للناس كما يتمجد في الأعالي وهكذا فإنه يسكب خيراته بكل كرم على السالكين في شريعته والحافظين وصاياه. ثم ينتهي بتطويب آخر حينما يسلم لله ويتكل عليه لا سيما والرب الإله هو رب الجنود القوي السائر أمام شعبه حتى يدخلهم إلى دياره المقدسة بسلام إذ يحميهم في الطريق ويقودهم دائماً. إذاً لهم الطوبى لأنهم تعبوا ووجدوا بعد ذلك لكي يحيوا مرتاحين دائماً.
السابق |
التالي |