سفر المزامير

سفر المزامير | 83 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّالِثُ وَٱلثَّمَانُونَ

تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ لآسَافَ

«١ اَللّٰهُمَّ لاَ تَصْمُتْ، لاَ تَسْكُتْ وَلاَ تَهْدَأْ يَا اَللّٰهُ، ٢ فَهُوَذَا أَعْدَاؤُكَ يَعِجُّونَ وَمُبْغِضُوكَ قَدْ رَفَعُوا ٱلرَّأْسَ. ٣ عَلَى شَعْبِكَ مَكَرُوا مُؤَامَرَةً وَتَشَاوَرُوا عَلَى أَحْمِيَائِكَ».

هذا هو المزمور الأخير من المزامير المنسوبة لآساف وفيه يستنجد الله لكي يصب نقمته على أعدائه وهم تلك الأمم المجاورة من نسل لوط مثل الموآبيين والعمونيين الذين قصدوا أن يهلكوا شعب الله وأن يقتلعوه لو استطاعوا من الأصول ويرموا به جانباً. يذهب بعض المفسرين أن زمان هذا المزمور ينطبق على ما ورد في (١مكابيين ص ٥) فيكون في منتصف القرن الثاني قبل المسيح ويفضله هؤلاء على أن يكون قد كتب في زمن نحميا لدى شروعه في بناء الهيكل وترميم أسوار أورشليم وما صادفه من مقاومة سنبلط وطوبيا وأتباعهما. كما أنه يوجد احتمال آخر وهو زمن يهوشافاط (راجع ٢أخبار ص ٢٠) حينما تألب عدد من الأمم لكي يجتثوا مملكة يهوذا من أصولها. وهنا نجد موآمرة مدبرة بينما في أيام المكابيين لا نجد شيئاً من ذلك. ولكن يوجد صعوبة هنا أيضاً إذ يذكر صور وفلسطين وأشور وهؤلاء لا شأن لهم في الموآمرة ضد يهوشافاط ولكن إذا وزنا كل الاعتبارات معاً نجد هذا الاحتمال الأخير هو أقرب إلى العقل من كل الاحتمالات الأخرى وحينئذ نتفق مع المزمور ٤٨ بأن هذه الموآمرة كانت موجهة ضد يهوشافاط وهذا يرتاح إليه العدد الأكبر من المفسرين.

(١) يطلب المرنم أن لا يبقى الله بين المتفرجين بينما شعبه يتحمل مثل هذا الاضطهاد ويستهدف لمثل هذا الخطر العظيم. يتمنى أن يكون الله في حالة الاستعداد للعمل ضد الأعداء لذلك يطلب إليه أن لا يصمت ولا يسكت ولا يهدأ لأن ذلك معناه استرسال هؤلاء الأعداء في غيهم وعدم تمهلهم في ما هم مقدمون عليه. هم يطلبون منه أن ينهض ويعمل سريعاً قبل فوات الأوان.

(٢) إن هؤلاء الأعداء يعجون ويضجون فهم يصخبون بكلامهم غير حاسبين للعلي أي حساب ويزعمون أنه باستطاعتهم أن يجروا ما يشاؤونه غير مهتمين بأي إنسان وكأن الله ذاته غير موجود. بل هم يرفعون رؤوسهم بالنسبة لسقوط شعبك إذاً هم مرتاحون للنتائج التي وصلوا إليها حتى يمكنهم أن يتشامخوا متكبرين ويكلموا غيرهم بصلف لا مزيد عليه.

(٣) وما هي مؤامرتهم هذه سوى أن يهلكوا شعبك ويبددوا ميراثك إذاً هم قوم لا حرمة عندهم ولا ذمام إذ يعملون أمورهم بالخفاء يقولون شيئا ويفعلون آخر يدعون بما ليسوا فيه صادقين. وأعظم الخطب هو أنهم يريدون أن يطالوا بشرهم حتى المحميين منك (احميائك) الذين وضعتهم تحت عنايتك الكاملة وهذا منتهى القحة وعدم الاكتراث بأي العهود.

«٤ قَالُوا: هَلُمَّ نُبِدْهُمْ مِنْ بَيْنِ ٱلشُّعُوبِ وَلاَ يُذْكَرُ ٱسْمُ إِسْرَائِيلَ بَعْدُ. ٥ لأَنَّهُمْ تَآمَرُوا بِٱلْقَلْبِ مَعاً. عَلَيْكَ تَعَاهَدُوا عَهْداً. ٦ خِيَامُ أَدُومَ وَٱلإِسْمَاعيلِيِّينَ. مُوآبُ وَٱلْهَاجَرِيُّونَ. ٧ جِبَالُ وَعَمُّونُ وَعَمَالِيقُ. فِلِسْطِينُ مَعَ سُكَّانِ صُورٍ. ٨ أَشُّورُ أَيْضاً ٱتَّفَقَ مَعَهُمْ. صَارُوا ذِرَاعاً لِبَنِي لُوطٍ. سِلاَهْ».

(٤) لقد صرّحوا عن الغاية من مؤامرتهم بقولهم «هلم نبدهم» وما أكثر ما تعرف النوايا بواسطة الكلام. يريدون أن يقضوا قضاء مبرماً على الشعب حتى لا تقوم له قائمة فيما بعد ولا يكون شعباً أو أمة (راجع إشعياء ٧: ٨ و١٥: ١ و٢٥: ٢ وإرميا ٤٨: ٤٢). ونلاحظ أن المرنم قد أخذ عن إرمياء (راجع إرميا ٤٨: ٢) بل يمكننا القول أنه قد أخذ عن عدد من الأنبياء (قابل ذلك مع إشعياء ٤٢: ٦ وما يتلوه مع العدد الثاني من هذا المزمور كذلك إشعياء ١٧: ٢ مع العدد الثالث منه).

(٥) لقد كان لهم قلب واحد في المؤامرة لأنه من السهل في هذه البلاد الشرقية منذ القديم أن يتفقوا مع العدو وأن يختلفوا مع الصديق لذلك فإن الخلاف هين حصوله وأما التعاون وحسن التفاهم شيء معدوم تقريباً. وكانت معاهدتهم العدائية هذه موجهة ضد الله لانه تعالى قد عاهد شعبه على الحفظ والحماية فكل من يخل بهما فهو عدو الله أولاً.

(٦) يذكر المرنم هؤلاء الأعداء بالتفصيل فهم الأدوميون والعمونيون وسكان جبل سعير وقبائل عربية سماها الإسماعيليين والهاجرين. كذلك منهم بنو موآب وجميع هؤلاء يقطنون الجهة الأخرى من نهر الأردن كما أن بعضهم يقطنون الجنوب والجنوب الشرقي من البحر الميت ولأنه ذكر أدوم أولاً فالأرجح أن هؤلاء الأعداء قد التقوا هناك حيثما حاكوا مؤامرتهم وأحكموا صنعها. وقوله خيام أدوم أي سكان الخيام فهم إذاً بدو رحل يعيشون كما اليوم أيضاً.

(٧) ثم يذكر الأعداء بشكل جغرافي فيعدد سكان «جبال» أي جبل سعير على الأرجح فهم سبعة أما عماليق فهم الذين بقوا بعد الحادثة المذكورة في (١أخبار ٤: ٤٢ وما يليه). وإذا راجعنا سفر التكوين ٢٥: ١٨ فهو يذكر الإسماعيليين أنهم سكنوا من الحجاز حتى شبه جزيرة سيناء. وأما الهاجريون فقد قطنوا الخيام من الخليج الفارسي حتى شرقي جلعاد (راجع ١خبار ٥: ١٠) وحتى نهر الفرات أيضاً.

(٨) وهؤلاء الأعداء يشملون الفلسطينيين وسكان صور أيضاً على ساحل البحر وأخيراً يذكر أشور التي لم تصبح عندئذ قوة عالمية جبارة تسود العالم إذ أن ذلك جرى بعد هذا التاريخ وإنما على ما يظهر قد أوعزت لهؤلاء الأعداء وهم بنو لوط وشددت أيديهم وقالت لهم أن يتمموا العمل الذي شرعوا به وهي سراً معهم.

«٩ اِفْعَلْ بِهِمْ كَمَا بِمِدْيَانَ، كَمَا بِسِيسَرَا، كَمَا بِيَابِينَ فِي وَادِي قِيشُونَ. ١٠ بَادُوا فِي عَيْنِ دُورٍ. صَارُوا دِمْناً لِلأَرْضِ. ١١ ٱجْعَلْ شُرَفَاءَهُمْ مِثْلَ غُرَابٍ وَمِثْلَ ذِئْبٍ. وَمِثْلَ زَبَحَ وَمِثْلَ صَلْمُنَّاعَ كُلَّ أُمَرَائِهِمِ. ١٢ ٱلَّذِينَ قَالُوا: لِنَمْتَلِكْ لأَنْفُسِنَا مَسَاكِنَ ٱللّٰهِ».

(٩) هنا إشارة إلى انتصار جدعون على المديانيين (راجع قضاة ٧) وحوادث جدعون بقيت من أعظم الذكريات في تاريخ بني إسرائيل ولطالما علق عليها آمال جسام وكانت سبب نهضة وتعزية للأجيال التي تلتها (انظر إشعياء ٩: ٣ و٤ و١٠: ٢٦ وقابل ذلك مع حبقوق ٣: ٧) فقد كان انتصاراً ساحقاً على يابين ملك المديانيين وعلى سيسرا قائد جنده بواسطة دبورة وباراق. وإذا راجعنا (قضاة ٥: ٢١) نرى أن نهر قيشون قد حمل جثث القتلى وقد كان هذا الأمر مألوفاً في تلك الأيام.

(١٠) عين دور هذه هي بالقرب من طابور وليست بعيدة عن تعنك ومجدو (قضاة ٥: ١٩) لأن تلك الأمكنة كانت مركزاً لتلك المعارك الطاحنة التي قررت مصير التاريخ الإسرائيلي لمدة طويلة. وقد درست معالم أولئك الأعداء حتى أصبحت دمناً للأرض تدل فقط على آثار ذهب أصحابها طعماً للسيف في وسط ذلك القتال.

(١١) فإذا كان هذا نتيجة الاعتداء على شعب الله في القديم فليكن مثل هذه النتيجة للمعتدين على شعب الله في هذا الوقت الذي يذكره. ليكن نصيبهم الخيبة والقتل مثل غراب وذئب أميري المديانيين وكذلك مثل نصيب زبح وصلمناع ملكي المديانيين (راجع قضاة ٨: ٥). وهذا دعاء عليهم بالخيبة والنكوص لأن ادعاءهم بالقوة لا يفيدهم شيئاً إذا كان الله مع شعبه وهكذا لا يكون شرفاء هؤلاء الأعداء ولا أمراؤهم أحسن حالاً وأجل نصيباً من أولئك الأقدمين. إذاً فلا شك التاريخ يعيد نفسه والأمور تجري بحكم الله فقط وعنايته وهو بيده مقادير كل شيء.

(١٢) أما السبب الذي يعززه لخيبة أولئك فهو أنهم أرادوا أن يمتلكوا لأنفسهم مساكن الله. أرادوا أن يحتلوا الأمكنة المقدسة ويستعبدوا شعبه ويزيلوا عبادته من البلاد. إذاً هم مستكبرون قساة عتاة يريدون أن ينفذوا مآربهم الشخصية ومصالح أممهم بقطع النظر عن الواجبات الإنسانية المفروضة نحو الله العلي الذي يجب أن يبقى فوق الجميع ولا يستطيع أحد أن يقول له ماذا تفعل. هذه البلاد المقدسة بالأصل أرض كنعان تصبح أرض إسرائيل ويحكمها الرب الإله (راجع ٢أخبار ٢٠: ١١ وأيضاً مزمور ٧٤: ٢٠). ولا يرغب عن بالنا أن هذا الادعاء ينطبق على بني إسرائيل في ذاك الحين ولكنه لا ينطبق على ادعاء الصهيونيين اليوم. فلقد ورث سكان البلاد من سبقوهم كما ورث اليهود من كان قبلهم.

«١٣ يَا إِلٰهِي ٱجْعَلْهُمْ مِثْلَ ٱلْجُلِّ، مِثْلَ ٱلْقَشِّ أَمَامَ ٱلرِّيحِ. ١٤ كَنَارٍ تُحْرِقُ ٱلْوَعْرَ، كَلَهِيبٍ يُشْعِلُ ٱلْجِبَالَ. ١٥ هٰكَذَا ٱطْرُدْهُمْ بِعَاصِفَتِكَ، وَبِزَوْبَعَتِكَ رَوِّعْهُمُ. ١٦ ٱمْلأْ وُجُوهَهُمْ خِزْياً فَيَطْلُبُوا ٱسْمَكَ يَا رَبُّ. ١٧ لِيَخْزَوْا وَيَرْتَاعُوا إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلْيَخْجَلُوا وَيَبِيدُوا ١٨ وَيَعْلَمُوا أَنَّكَ ٱسْمُكَ يَهْوَهُ، وَحْدَكَ ٱلْعَلِيُّ عَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ».

(١٣) الجِلّ بالكسر هو قصب الزرع إذا حصد ونجد «الجلة» في العامية وهو ما يصنعه الفلاحون من روث الماشية يخلطونه بالقش والتبن وينشفونه بالشمس لكي يستعمل وقوداً أيام الشتاء. وحسب القاموس فالجُلة بالضم هي البعر فيقال أن بني فلان وقودهم الجِلة والأفضل بالكسر ثم الفتح أيضاً. وهكذا يتابع المرنم دعاءه عليهم ويطلب من الله أن يبددهم تبديداً حتى لا يكون لهم أية قيمة ولا يعطى لهم أي وزن بل يذهبون مع الريح كما يذهب القش.

(١٤) ولا يكتفي لهم بالتبديد بواسطة الريح لئلا يتجمعوا مرة أخرى وينتج عن ذلك ضرر ملموس وهكذا يطلب لهم ناراً من السماء تحرق الوعر وتتصل بأشجار الجبال حتى العالية منها. إذاً مهما علا هؤلاء الأعداء ومهما ادعوا لأنفسهم فإن الله يستطيع أن يبددهم في الوقت الذي يراه أنسب وبالطريقة التي يشاؤها.

(١٥) الشيء المهم هو غضب الله عليهم ولا فرق عند المرنم أي أنواع هذا الغضب ينزل عليهم إذ هنا يطلب لهم أن تجتاحهم العاصفة وتحملهم الزوبعة مدحورين مروعين حتى لا تقوم لهم قائمة. حينما يكون هؤلاء الأعداء على غفلة من أنفسهم عندئذ تكون المصيبة عليهم أكبر وأروع (راجع إشعياء ١٠: ١٦ – ١٩ وتثنية ٣٢: ٢).

(١٦) إذاً فهؤلاء المخزيون المنهزمون أمام وجه الله تأكلهم نار غضبه وهذا يقابل عداوتهم لشعبه وكذلك تبددهم عاصفة سخطه على نسبة بعض هؤلاء الأعداء وحقدهم. وليظل هذا الغضب عليهم حتى يعودوا إلى الله بالتوبة والذل. قد لا يؤمنون به ولكن واجبهم أن يخضعوا لأحكامه وأن يستسلموا لمشيئته ويعرفوا أن الله موجود بين شعبه ليرعاهم ويحميهم.

(١٧ و١٨) يتابع المرنم في هذين العددين سلسلة اللعنات القوية على هؤلاء الأعداء فيطلب لهم مرة أخرى الخزي والرعب والخجل والإبادة. ومتى بادوا تماماً في وسط إبادتهم هذه تعلم كل الأرض اسم الرب يهوه الذي له وحده المجد والقدرة والسلطان. لذلك فأمجاد جميع الأمم تضمحل وأما مجد الرب فهو إلى أبد الآبدين. هو وحده العلي الذي لا يمكن أن يصيبهم أي شيء في الأرض الذي يخضعها دائما تحت قدميه ويسير بها حسب مشيئته السرمدية. ولا أرى كما يذهب بعض المفسرين أن المرنم يعني خضوع الأمم بالإيمان بالله بل هو يرينا أن الله سيخضعهم بجبروته وسلطته بقطع النظر عن إيمانهم به فهو وحده يبقى إلى الأبد يتصرف بالعالمين.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى