سفر المزامير

سفر المزامير | 78 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّامِنُ وَٱلسَّبْعُونَ

قَصِيدَةٌ لآسَافَ

«١ اِصْغَ يَا شَعْبِي إِلَى شَرِيعَتِي. أَمِيلُوا آذَانَكُمْ إِلَى كَلاَمِ فَمِي. ٢ أَفْتَحُ بِمَثَلٍ فَمِي. أُذِيعُ أَلْغَازاً مُنْذُ ٱلْقِدَمِ. ٣ ٱلَّتِي سَمِعْنَاهَا وَعَرَفْنَاهَا وَآبَاؤُنَا أَخْبَرُونَا».

يسمّي أحد المفسرين هذا المزمور المرآة التاريخية لشعب إسرائيل منذ أيام موسى إلى داود إذ فيه قائمة مفصلة للآيات والعجائب التي صنعها مع شعبه. يختم المزمور السابق كلامه بأن إسرائيل هو رعية الله ويرعاها موسى وهارون أما في هذا المزمور فإن الراعي هو داود الذي أخذه الله من وراء الغنم وأقامه على شعبه ليرعاهم ويهديهم. وهذا المزمور مثل كل المزامير التي كتبها آساف يجعل الأفرايميين ذوي مكانة خاصة مرموقة من جميع الشعب. ومما هو جدير بالذكر أن المرنم ينبه الذهن للتخلص من خطايا الآباء والأجداد وتمردهم ويطلب من الجيل الحاضر يكونوا أفضل من أولئك. كما وأنه يذكر ذهاب خيمة شيلو إذ قام عوضاً عنها بيت داود وهكذا انتهى مجد بنيامين إلى الأبد ويوجد إشارة في العدد التاسع إلى انقسام المملكة بذهاب العشرة أسباط وهوذا الآن تعود هذه الأسباط لداود ونسله خاضعة ذليلة.

ينقسم المزمور إلى قسمين من العدد ١ – ٣٧ ثم من العدد ٣٨ إلى الآخر. ففي القسم الأول يذكر كثيراً من النقاط التاريخية والعجائب التي أتمها الله مع شعبه قديماً. ثم في القسم الثاني يذكر بني إسرائيل في حياتهم وسكناهم أرض كنعان وفي كلا القسمين نجد قلم كاتب ماهر جريء لا يتهيّب أن يسرد الحوادث ويعلق عليها بكل صرامة.

(١) هنا يبدأ الكلام كما يبدأه كاتب المزمور ٤٩ فيتقدم أمام الشعب خطيباً ونذيراً ويطلب منهم أن يصغوا لكلامه لئلا يفوتهم ما يريد أن يقوله لهم بفم الله ذاته. يطلب منهم أن ينتبهوا للشريعة (توراة) التي يقولها لهم. هو كلام الحكمة الإلهية والنبوة التي لا تتهيب إنساناً ولا تطلب مرضاة من أي منهم لذلك عليهم أن ينتبهوا ويستفيدوا.

(٢) إن آساف لنبي حقاً ونجد متّى ١٣: ٣٥ يقتبس منه «سَأَفْتَحُ بِأَمْثَالٍ فَمِي، وَأَنْطِقُ بِمَكْتُومَاتٍ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ». وأما قوله بمثل أي بوقائع الأيام والألغاز أي بأحداثها وعبرها فهي إذاً ليست تعاليم بل حوادث جارية مرت على الشعب وتمر كل يوم. وهي منذ القدم لأنها قد بني عليها تاريخ الشعب الإسرائيلي وأمجاده.

(٣) هي أحاديث غير مبتكرة بل قد جرت على الألسنة منذ فجر وجودهم فقد أخبر الآباء أبناءهم عنها وهؤلاء بدورهم قد أخبروها أولادهم إذ لم تكن الكتابة معروفة فجرت مجرى الأمثال والأحاديث. وعادة لا يرسخ في الذهن على مرور الأيام سوى الأحاديث الهامة الخطيرة.

«٤ لاَ نُخْفِي عَنْ بَنِيهِمْ إِلَى ٱلْجِيلِ ٱلآخِرِ، مُخْبِرِينَ بِتَسَابِيحِ ٱلرَّبِّ وَقُوَّتِهِ وَعَجَائِبِهِ ٱلَّتِي صَنَعَ. ٥ أَقَامَ شَهَادَةً فِي يَعْقُوبَ، وَوَضَعَ شَرِيعَةً فِي إِسْرَائِيلَ، ٱلَّتِي أَوْصَى آبَاءَنَا أَنْ يُعَرِّفُوا بِهَا أَبْنَاءَهُمْ، ٦ لِكَيْ يَعْلَمَ ٱلْجِيلُ ٱلآخِرُ. بَنُونَ يُولَدُونَ فَيَقُومُونَ وَيُخْبِرُونَ أَبْنَاءَهُمْ، ٧ فَيَجْعَلُونَ عَلَى ٱللّٰهِ ٱعْتِمَادَهُم، وَلاَ يَنْسَوْنَ أَعْمَالَ ٱللّٰهِ، بَلْ يَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ».

(٤) كيف يمكنهم أن يخفوا هذه الأخبار الخطيرة عما صنعه الله معهم منذ الأزمنة القديمة أيام الآباء والجدود (راجع قضاة ٦: ١٣). ولا يجوز أن تخفى عن الأولاد مثل هذه الأخبار لئلا ينسوا الإنسان مطبوع على النسيان ولئلا يفوتهم مثل هذه الأمجاد التي تهز القلوب بالفخار وتحمس الضمائر وترشدها في سبل أفضل (راجع أيوب ١٥: ١٨) يخبرونهم معلمين بتسابيح الرب أي تلك القصص القديمة الموضوعة بقالب شعري مثل ترنيمة مريم ونشيد دبورة. وكذلك يخبرونهم قصصاً واقعية عما حدث وعن تلك العجائب التي بواسطتها استطاع الشعب أن يدخلوا الأرض ويمتلكوها ولأنها امتلكت بقدرة الله فهي ملك أبدي لله.

(٥) وكانت النتيجة أن أقام شهادة له في ذرية أولئك الآباء الأقدمين. وأي الناس أولى أن يخبروا مثل هذه الأخبار أكثر من الذين صنعت معهم هذه العظائم هم أهلها يجب أن يتذكروها على الدوام بل عليهم أن يعيشوا شهوداً مستحقين لمثل هذه الأحداث العظيمة. بل أن الله قد سلّم شريعته المقدسة لكي يحفظوها ويرعوها ويتمشوا عليها دوماً. ولا حجة لهم أن يقولوا هي للآباء فقط بل هي لهم بحكم الوراثة أيضاً.

(٦) وهكذا فإن هذه الأخبار يجب أن يتناقلها الخلف عن السلف ثم هؤلاء بدورهم يسلمونها للذين يأتون بعدهم. هي سلسلة متصلة الحلقات فلا يجوز أن تنفرط أية حلقة منها لأن قوة السلسلة كما هو معلوم تقاس بقوة أضعف حلقاتها (راجع حزقيال ١٣: ٨ و١٤ وتثنية ٤: ٩). ولا شك أن التاريخ المقدس لا يحفظ فقط في بطون الكتب بل بالأحرى في صدور الأبناء والأحفاد الذين يتعلمون من السلف الصالح ويتبعون مثالهم.

(٧) وأما الغاية من هذا جميعه فهو أن يكون لهم تلك الحاسة الروحية التي تجعلهم متكلين على الله ومعتمدين على اسمه القدوس. إن الغاية هي لأجل الإرشاد وإيجاد روح التدين الصحيح لئلا يبتعد هؤلاء البنون عن تلك المعرفة التاريخية المقدسة ويكون لهم مجال للاعتذار ربما بقولهم ليس لنا المعرفة وليس لنا الاختبار وهكذا تذهب عبادة الله الحي من قلوبهم مع السنين. أما إذا قام الآباء بواجباتهم وعلموا أولادهم ما تعلموه هم أنفسهم حينئذ تنتقل هذه المعرفة من جيل إلى جيل وتبقى خالدة.

«٨ وَلاَ يَكُونُونَ مِثْلَ آبَائِهِمْ جِيلاً زَائِغاً وَمَارِداً، جِيلاً لَمْ يُثَبِّتْ قَلْبَهُ وَلَمْ تَكُنْ رُوحُهُ أَمِينَةً لِلّٰهِ. ٩ بَنُو أَفْرَايِمَ ٱلنَّازِعُونَ فِي ٱلْقَوْسِ ٱلرَّامُونَ، ٱنْقَلَبُوا فِي يَوْمِ ٱلْحَرْبِ. ١٠ لَمْ يَحْفَظُوا عَهْدَ ٱللّٰهِ وَأَبَوْا ٱلسُّلُوكَ فِي شَرِيعَتِهِ ١١ وَنَسَوْا أَفْعَالَهُ وَعَجَائِبَهُ ٱلَّتِي أَرَاهُمْ. ١٢ قُدَّامَ آبَائِهِمْ صَنَعَ أُعْجُوبَةً فِي أَرْضِ مِصْرَ بِلاَدِ صُوعَنَ».

(٨) بل هوذا المرنم ينتظر من هؤلاء الأبناء أن يفوقوا أسلافهم ولا يكتفوا قط بما وصل إليه أولئك. لا سيما ولهم تاريخ أسود من نواحيه الكثيرة المتعددة فليس كل ما فيه للفخار بل كثير منه ما هو مخزي ومدعاة للعار والشنار فقد زاغوا عن السبل المستقيمة مرات كثيرة وتمردوا على الله وعصوا أوامره الصريحة ولنا من هذا أن نقتدي بالآباء القدوة الصالحة فقط ولا نتعامى عن الشر ولا نخفيه مع مرور السنين حاسبين أن الماضي فاضل كله. بل ليكن هدفنا الصلاح الحقيقي وهذا يثبت القلب بالله ونكون أمناء في عهوده (راجع ٢أخبار ٢٠: ٣٣).

(٩) لماذ يلتفت المرنم الآن لبني أفرايم بصورة خاصة فهذا لا ندريه يقيناً على كلٍّ ليس هؤلاء ليقوموا مقام بني إسرائيل جميعاً إذ في العدد ٦٧ وما بعده ما ينفي مثل هذا الزعم. على كل فإن مزامير آساف طالما تذكر قبائل يوسف ولكن الذكر هنا لكي يضع المرنم أمامنا أمثولة خالدة فيضرب بهم مثلاً كيف كانت مملكة الشمال ثم كيف صارت. أولئك الأشداء في استعمال القوس والرامون بالنبال في يوم الحرب إذا بهم يرتمون مندحرين.

(١٠) ويعزو هذا السقوط لأنهم لم يحفظوا عهد الله ولم يمشوا حسب شرائعه ووصاياه ولا عجب أن يصيبهم ما أصابهم. من ركبوا الأسباب عليهم أن يتحملوا النتائج ولا حق لهم أن يلوموا غير أنفسهم. ونلاحظ أن حفظ العهد معناه السلوك في الشريعة والتمشي بحسب الوصايا. إن هؤلاء الأفرايميين الأقوياء كان من واجبهم أن يفعلوا أكثر جداً مما فعلوه فقد كانوا أشداء في الحروب ولو تابعوا غزواتهم لاستطاعوا إخضاع أرض كنعان كلها ولكنهم فشلوا وفشلهم في الدرجة الأولى لأنهم لم يرعوا عهود الله ولا تمسكوا به إلى المنتهى.

(١١) لقد نسوا ذلك التاريخ الحافل بجلائل الأعمال ولم يبرهنوا أنهم أهل لمواصلة ذلك الجهاد في سبيل الله فقد خارت عزائمهم وسقطت هممهم لا سيما وقد رأوا أنفسهم محاطين بالأمم الغريبة حولهم وهي تفوقهم مدنية ورقياً وهكذا تسربت إليهم العبادة الوثنية وخضعوا لها ونسوا إله أبائهم. لم يعتبروا أن لله عهداً عليهم وهم شعبه بواسطة ذلك التاريخ منذ أيام موسى ويشوع.

(١٢) هذا الإله العظيم الذي صنع أعجوبة منذ القديم يوم كانوا في أرض مصر مع بقية إخوانهم الإسرائيليين. ويذكرهم بما أنهم أحفاد يوسف الذي كان له ذلك الشأن في مصر إذا بالمصريين يعاملون آباءهم أسوأ معاملة ولا نجاة لهم بعد ذلك إلا بقدرة الله التي خلصتهم من أرض العبودية.

«١٣ شَقَّ ٱلْبَحْرَ فَعَبَّرَهُمْ، وَنَصَبَ ٱلْمِيَاهَ كَنَدٍّ. ١٤ وَهَدَاهُمْ بِٱلسَّحَابِ نَهَاراً، وَٱللَّيْلَ كُلَّهُ بِنُورِ نَارٍ. ١٥ شَقَّ صُخُوراً فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَسَقَاهُمْ، كَأَنَّهُ مِنْ لُجَجٍ عَظِيمَةٍ. ١٦ أَخْرَجَ مَجَارِيَ مِنْ صَخْرَةٍ وَأَجْرَى مِيَاهاً كَٱلأَنْهَارِ. ١٧ ثُمَّ عَادُوا أَيْضاً لِيُخْطِئُوا إِلَيْهِ، لِعِصْيَانِ ٱلْعَلِيِّ فِي ٱلأَرْضِ ٱلنَّاشِفَةِ».

(١٣) يشرع هنا في سرد التاريخ باختصار ويذكر واقعة بعد أخرى. وأول شيء يذكره هو كيف شق البحر الأحمر حتى عبروا بالرجل (راجع خروج ١٥: ٨) وجعل المياه كندّ أي ككومة واحدة من كل جانب (راجع مزمور ٣٣: ٧). ويظهر أن المرنم كان أمامه التوراة تقريباً بكتبها الخمسة الأولى إذ نجده يعيد للذاكرة ما ورد من تلك الحوادث.

(١٤) هنا يقتبس مما ورد (خروج ١٣: ٢١). وكذلك في العدد ١٥ وما يليه يلخص حادثة خروج الماء من الصخرة في السنة الأولى من خروج بني إسرائيل من أرض مصر (خروج ١٧). كما وأنه يضم إليها حادثة السنة الأربعين (العدد ص ٢٠).

(١٥) لم يكن خروج الماء بصورة بسيطة بل قد سقاهم الله كإنما من لجج عظيمة هي مياه متدفقة غزيرة فإذاً هي عجيبة تستوقف الفكر وتلهبه بالتأملات العميقة. إن الله إذا أعطى فعطاياه كلها بكرم وغزارة هو الذي يعطي ولا يعيّر ويمنح مراحمه ولا يطلب مقابلها لأنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين (متّى ٥: ٤٥).

(١٦) لقد كانت مياهاً مروية للغاية فهي ليست كثيرة بالنسبة لحاجتهم الماسة إليها لأنهم كانوا في البرية وأي مقدار من المياه يكون سبباً للدهشة أو أي نوع منها حتى ولو كانت ذات طعم ومعدنية تصبح ذات قيمة عظيمة. لا ليس الأمر كذلك هنا فهي مجاري مياه جبارة هي أشبه بالأنهار التي تتدفق زاخرة وتنعش كل ما حولها وهنا أكبر مدعاة للتفاخر بقدرة الله العظيمة.

(١٧) ولكن رغماً عن كل ذلك عادوا يخطئون ولم يذكروا الرحمة التي رحمهم بها. وقوله عادوا لأنهم من قبل فعلوا مثل ذلك وتمردوا وعصوا لذلك فهم قد رجعوا إلى سابق ما كانوا فيه وليس غريباً عليهم أن «يعود الكلب إلى قيئه». نعم إن هذا الإنسان الكنود الناكر للجميل لهو في كفر دائم لنعمة الله طالما لا يذكر الرحمة أبداً. إنه قد يذكر الله ولكن لكي يأخذ منه خيراً وبركة ليس إلا ومتى أخذهما فهو ينسى حتى أعظم المراحم لأنه تعوّد أن يعيش لنفسه وليس فيما لله خالقه (راجع العدد ص ٢٠: ١٣ وقابله مع ٢٧: ١٤ وتثنية ٣٢: ٥١).

«١٨ وَجَرَّبُوا ٱللّٰهَ فِي قُلُوبِهِمْ بِسُؤَالِهِمْ طَعَاماً لِشَهْوَتِهِمْ. ١٩ فَوَقَعُوا فِي ٱللّٰهِ. قَالُوا: هَلْ يَقْدِرُ ٱللّٰهُ أَنْ يُرَتِّبَ مَائِدَةً فِي ٱلْبَرِّيَّةِ؟ ٢٠ هُوَذَا ضَرَبَ ٱلصَّخْرَةَ فَجَرَتِ ٱلْمِيَاهُ وَفَاضَتِ ٱلأَوْدِيَةُ. هَلْ يَقْدِرُ أَيْضاً أَنْ يُعْطِيَ خُبْزاً أَوْ يُهَيِّئَ لَحْماً لِشَعْبِهِ؟ ٢١ لِذٰلِكَ سَمِعَ ٱلرَّبُّ فَغَضِبَ، وَٱشْتَعَلَتْ نَارٌ فِي يَعْقُوبَ، وَسَخَطٌ أَيْضاً صَعِدَ عَلَى إِسْرَائِيلَ، ٢٢ لأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِٱللّٰهِ وَلَمْ يَتَّكِلُوا عَلَى خَلاَصِهِ».

(١٨) وقوله «جربوا الله في قلوبهم» أي أنهم أخذوا يتذمرون سراً في داخلهم قبلما باحوا به للآخرين. هنا المرنم يلخص تلك التذمرات المتكررة التي نفثوها قبلما أعطاهم الله المن والسلوى (خروج ١٦) بل وأعطاهم الله السلوى مرة أخرى (العدد ص ١١). فكما أعطاهم الماء مرتين كذلك أعطاهم طعاماً مرتين لكي يشبعوا تماماً كما ارتوا من قبل. ولكن هل يشبع الإنسان ويكتفي وهنا جيد لنا أن نراجع اكتفاءنا فقط بخبر الحياة ليس إلا (انظر متّى ٥: ٥).

(١٩) هكذا كانت التجربة شديدة عليهم فسقطوا وأنكروا الله ولم يحسبوا قدرته كافية لسد احتياجاتهم فقالوا هل يقدر الله أن يهيء طعاماً في البرية القاحلة حيثما الجدب والعوز من كل جانب هل يستطيع الله أن يعطي نعمة في ظرف هو أبعد ما يكون عن النعمة. لقد قللوا إيمانهم بالله إلى درجة محزنة ووضعوه تحت الامتحان وهنا منتهى القحة.

(٢٠) وبدلاً من أن يكون اختبارهم في الماضي سبباً جديداً للإيمان والرجاء إذا بهم وهم يذكرون ما فعله بالصخرة وكيف فاضت المياه من كل جانب يعودون فيقولون ولكن هل يقدر الله أن يعطي طعاماً. قد تكون أن هذه المياه موجودة هناك ولكن هل بالإمكان أن يوجد الطعام أيضاً. ما أقل الإيمان في قلوبهم وهكذا تصبح الآية التي عملها الله سبباً جديداً للشك (راجع خروج ١٦: ٣ والعدد ١١: ٤ وما بعده و٢١: ٥).

(٢١) عرف الله هذه النوايا الباطلة وهذا الكنود المستحكم فغضب عليهم غضباً شديداً. وكان غضبه مثل نار مشتعلة تحرق كل ما هو أمامها. وإذا قابلنا هذا العدد ٢١ بما ورد في سفر العدد ١١: ١ نجد تماثلاً تاماً. وهكذا فإن ناراً قد اشتعلت في خيام أولئك القوم الظالمين لأن الله لم يكن راضياً عليهم فكيف هو لمن يتوخى السلام ويعمل في سبيله. وأي حق لهم على الله بعد ذلك.

(٢٢) والسبب الجوهري لمثل هذا الغضب هو عدم الإيمان. ذلك الإيمان الذي يجعلهم متكلين على قدرة العلي ثابتين في عهده مخلصين في محبته. لا شيء من ذلك كان عندهم فقط أصبحوا ريشة في مهب الرياح وسط البرية القاحلة. لقد أظلمت الدنيا أمام عيونهم لأنهم قد أظلموا في الإيمان من قبل (انظر العدد ١٤: ١١) لقد نسوا كل شيء ولم يذكروا ما خلصهم به الله ويا للأسف.

«٢٣ فَأَمَرَ ٱلسَّحَابَ مِنْ فَوْقُ، وَفَتَحَ مَصَارِيعَ ٱلسَّمَاوَاتِ ٢٤ وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ مَنّاً لِلأَكْلِ، وَبُرَّ ٱلسَّمَاءِ أَعْطَاهُمْ. ٢٥ أَكَلَ ٱلإِنْسَانُ خُبْزَ ٱلْمَلاَئِكَةِ. أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ زَاداً لِلشِّبَعِ. ٢٦ أَهَاجَ رِيحاً شَرْقِيَّةً فِي ٱلسَّمَاءِ وَسَاقَ بِقُوَّتِهِ جَنُوبِيَّةً ٢٧ وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ لَحْماً مِثْلَ ٱلتُّرَابِ، وَكَرَمْلِ ٱلْبَحْرِ طُيُوراً ذَوَاتِ أَجْنِحَةٍ».

(٢٣) في هذه الأعداد ٢٣ – ٢٥ يوجد وصف كيف أن الله قد أرسل المن من السماء. ويتبادر للذهن لأول وهلة حينما قال أمر السحاب وفتح مصاريع السموات أن القصد من ذلك هو المطر ولكن لا يطول انتظارنا حتى يخبرنا بما جرى. ولا يهتم المرنم كثيراً لتعاقب الحوادث من جهة تاريخية إذ أن نزول المن كان قبل أن اشتعلت النيران في المحلة. وإنما اقتضى السرد الشعري أن يضع النار بعد الغضب الإلهي. ولكن الله الحنان الرحيم لم يهتم بقلة إيمانهم ولم يجازهم على أعمالهم بل أظهر رحمته مرة أخرى وفتح أبواب السموات لهم لكي يشبعوا.

(٢٤) وإذا المن ينزل عليهم مثلما ينزل المطر دافقاً غزيراً لا شيء يعيق سبله طالما مصاريع السموات قد انفتحت وطالما رحمة الله تسعنا رغماً عن كل نكراننا وخطايانا. وقوله مصاريع السموات تعبير قديم يدل على ما اعتقده العبران الأقدمون من وجود مياه فوق السموات تنزل على الأرض متى فتحت الأبواب لذلك (راجع تكوين ٧: ١١ و٢ملوك ٧: ٢ وملاخي ٣: ١٠) ويدعو هذا المن براً أي ذرة من السماء أو كما (خروج ١٦: ٤) هو خبز السماء. بل كما نجد في العدد الذي يليه خبز الملائكة.

(٢٥) كان ينزل من السماء مثل حبوب الذرة على الأرض فيجمعونه ويحفظونه قوتاً لهم ولعيالهم. وحتى الآن لا يزال يسمى في اللغة العربية «منّ السماء». ولا يزال يوجد في برية سيناء نوع من الخضار اسمه Coccus Manniparus ينز سائلاً ثميناً لسكان شبه جزيرة سيناء إذا فزر من جهة يخرج منه عصير يستعمله الناس قوتاً طيباً.

(٢٦) ثم هنا يصف كيف أرسل لهم الله السلوى والكاتب يذكر كما ورد (خروج ١٦) وهذا حدث قبل إعطاء المن. وإذا رياح مختلطة بين شرقية وجنوبية آتية من الخليج (راجع العدد ١١: ٣١).

(٢٧) وأمطر عليهم دليل الكثرة المتناهية فهي لا تعد من غزارتها وكثرتها. هي مثل التراب أصبحت بدون قيمة لأنها كانت عادية لم يتعبوا في تحصيلها ولم يصطادوها بأنفسهم بل ارتمت عليهم من السماء من منبع كل خير وبركة ونعمة. وهي كثيرة كرمل البحر (راجع تكوين ٢٢: ١٧). وهذه التشابيه موجودة بكثرة في الكتابات المقدسة.

«٢٨ وَأَسْقَطَهَا فِي وَسَطِ مَحَلَّتِهِمْ حَوَالَيْ مَسَاكِنِهِمْ. ٢٩ فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جِدّاً، وَأَتَاهُمْ بِشَهْوَتِهِمْ. ٣٠ لَمْ يَزُوغُوا عَنْ شَهْوَتِهِمْ. طَعَامُهُمْ بَعْدُ فِي أَفْوَاهِهِمْ، ٣١ فَصَعِدَ عَلَيْهِمْ غَضَبُ ٱللّٰهِ وَقَتَلَ مِنْ أَسْمَنِهِمْ. وَصَرَعَ مُخْتَارِي إِسْرَائِيلَ. ٣٢ فِي هٰذَا كُلِّهِ أَخْطَأُوا بَعْدُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِعَجَائِبِهِ».

(٢٨) وإن رحمة الله هذه قد شملتهم إلى التمام فهي التي جاءت إليهم وهم لم يذهبوا إليها ولا حركوا ساكناً في سبيل الحصول عليها. إن تلك المحلة المتذمرة الجائعة التي عرفت دائماً كيف تعترض على ترتيبات الله وتتغاضى عن مراحمه إذا بها الآن تنال الخير والنعمة في وسطها حيثما كانوا ساكنين. هي محلة إسرائيل (راجع العدد ١١: ٣١ وقابله مع خروج ١٦: ١٣).

(٢٩) ولم يبطئ الشعب بأن ينال هذا الخير فيأكل منه ويشبع. لقد اشتهوا هذه الشهوة وصاحوا متذمرين من أجلها ولكن الله قد أعطاهم سؤل قلوبهم ولم يبخل عليهم قط. هم لا يستحقونه ولكن محبته لهم تستحق كل شيء. نتساءل طالما كانوا في جوع فلماذا غضب الله عليهم حينما أكلوا وشبعوا ألا يريد الله إشباعهم يا ترى؟ بالطبع لا ولكن غضبه هو بالنسبة لكنودهم المتواصل ولأنهم شهوانيون لا يهمهم شيء سوى أن يملأوا بطونهم.

(٣٠ و٣١) بينما هم غارقون في هذه اللذة الوقتية وهم غير شكورين لنعمة أسبغت عليهم بل بينما كانوا لا يزالون يمضغون الطعام في أفواههم إذا بالغضب يأتي عليهم ولا يهنأون طويلاً. وهنا يتبع المرنم الكلام نفسه الذي ورد في (العدد ١١: ٣٣). فنجد مقابلة شيقة لكي يلفت نظر أولئك الآكلين أن الأهمية ليس بالطعام الذي وضعوه في أفواههم بل عليهم أن يشكروا الله ويحمدوا اسمه لأجل عنايته الدائمة الحنونة. ويظهر أن غضب الله هذا قد ظهر في الشعب لدن سقطوا مرضى من جراء تلك التخمة التي أصابتهم بعد جوعهم في الماضي. فهم لم يوفروا شيئاً للمستقبل بل تناولوا هذا الخير وتمتعوا به غير حاسبين لحوادث الزمان أي حساب. ولكن النتيجة كانت سريعة ومؤلمة وإذا بعدد كبير منهم يسقط صرعى الأدواء والأوجاع التي انتابتهم.

(٣٢) وهنا يعود مرة أخرى للتوبيخ والتأنيب فإن هذا الشعب الذي تكررت معه هذه الحوادث لم يتعظ شيئاً ولم يتعلم وكانوا مثل الحديد الذي يضربه الحداد مرة بعد أخرى فلا يزداد سوى شدة وصلابة. ذلك لأن الشيء المهم ليس الحوادث ذاتها بل كيف نقابلها وماذا نفعل في تفسيرها ثم تطبيقها على حياتنا اليومية. إن الدروس موجودة ولكن المهم أن يفتح الإنسان ذهنه ويتعلمها ويستفيد منها أكمل استفادة.

«٣٣ فَأَفْنَى أَيَّامَهُمْ بِٱلْبَاطِلِ وَسِنِيهِمْ بِٱلرُّعْبِ. ٣٤ إِذْ قَتَلَهُمْ طَلَبُوهُ، وَرَجَعُوا وَبَكَّرُوا إِلَى ٱللّٰهِ، ٣٥ وَذَكَرُوا أَنَّ ٱللّٰهَ صَخْرَتُهُمْ، وَٱللّٰهَ ٱلْعَلِيَّ وَلِيُّهُمْ. ٣٦ فَخَادَعُوهُ بِأَفْوَاهِهِمْ وَكَذَبُوا عَلَيْهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ. ٣٧ أَمَّا قُلُوبُهُمْ فَلَمْ تُثَبَّتْ مَعَهُ، وَلَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي عَهْدِهِ».

(٣٣) هكذا ذهبت الدروس باطلاً ومرت الأيام بلا جدوى. لأن مرور الأيام والسنين وحده لا يعطي الإنسان حكمة بل الحكمة أن نتعلم ما تلقيه تلك السنون من دروس قيمة وعبر ذات معنى عظيم الأثر في نفوسنا. بل أن مرور السنين قد تجعل الإنسان يرتعب من اقتراب الأجل وإذا كل شعرة شائبة تصبح كالسيف المصلت على الرأس تنذر صاحبه بالموت المحتوم. وهنا إشارة لانتقام الله من هؤلاء الخارجين من مصر (العدد ١٤: ٢٨ – ٣٤).

(٣٤) ولكن في هذه المحنة العظيمة بينما ملاك الموت يحصد أرواحهم حصداً أخذوا يعودون إلى رشدهم الروحي ويندمون. لقد رجعوا إلى الله الآن وبكروا إليه قبل فوات الأوان وقبلما يأتي ملاك الموت عليهم أيضاً. هم كالأولاد العصاة لا يتوبون حتى يقاضوا أعظم القصاصات فإذا توبتهم النجاة الآن لا الهلاك الذي يجرف رفاقهم وعيالهم بلا رحمة ولا هوادة.

(٣٥) وسبيل نجاتهم الوحيد هو أن يذكروا إذ أنهم حينما نسوا إصابتهم البلايا فإذا ذكروا يعودون إلى الرحمة والرضوان. ذكروا أن الله صخرتهم (تثنية ٣٢: ١٥ و١٨ و٣٧). ذكروا أن الله وليهم وفاديهم ومخلصهم (تكوين ٤٨: ١٦). وهو عليّ رب السموات يتعطف عليهم من علو مجده ولا ينساهم وإن كانوا في وهدة الهلاك والموت.

(٣٦) ولكن رجوعهم على ما يظهر لم يكن عن توبة قلبية. ولم يكن التفاتهم إلى الله سوى تهرب من الآلام الحاضرة التي يعانونها. يحتمون بالله إلى أن تمر عليهم موجة الغضب هذه وتهدأ حدة الضربة ثم يعودون إلى ما كانوا عليه. هم مخادعون كاذبون. يقولون شيئاً ويفعلون آخر وهكذا فإن ألسنتهم ليست للحمد والتسبيح بل للكذب والبهتان.

(٣٧) هل الله يهتم فقط أليس أن نظره هو للقلب فيقول لنا «يا ابني أعطني قلبك» (راجع مزمور ٥١: ١٠) ذلك لأن الخلوص لله هو أهم ما تتطلبه التقوى الحقيقية. ولكن الذي يخادع ويكذب فهو بعيد عن الله ولا يعرف طريق النجاة التي أعدها لأتقيائه الحقيقيين. وهكذا فقد خانوا عهده المقدس الذي قطعوه على أنفسهم ولم يعيشوا أهلاً لتلك العلاقة الكريمة المقدسة التي هي درع المؤمنين وسبب نجاتهم.

«٣٨ أَمَّا هُوَ فَرَؤُوفٌ يَغْفِرُ ٱلإِثْمَ وَلاَ يُهْلِكُ، وَكَثِيراً مَا رَدَّ غَضَبَهُ وَلَمْ يُشْعِلْ كُلَّ سَخَطِهِ. ٣٩ ذَكَرَ أَنَّهُمْ بَشَرٌ. رِيحٌ تَذْهَبُ وَلاَ تَعُودُ. ٤٠ كَمْ عَصَوْهُ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَأَحْزَنُوهُ فِي ٱلْقَفْرِ! ٤١ رَجَعُوا وَجَرَّبُوا ٱللّٰهَ وَعَنُّوا قُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ. ٤٢ لَمْ يَذْكُرُوا يَدَهُ يَوْمَ فَدَاهُمْ مِنَ ٱلْعَدُوِّ، ٤٣ حَيْثُ جَعَلَ فِي مِصْرَ آيَاتِهِ، وَعَجَائِبَهُ فِي بِلاَدِ صُوعَنَ».

(٣٨) هنا يبدأ القسم الثاني من هذا المزمور التاريخي الشيق الذي يسرد الوقائع ويأخذ منها عبراً ودروساً لكل الأجيال. نعم إن الله حنان ورؤوف ولا تتوقف رحمته على أعمال البشر وتصرفاتهم وإذا أظهر غضبه فهو لأجل القصاص لا الاقتصاص والإهلاك. لقد رد حمو غضبه وعاد للرضا والعفو. هو إله الحق والعدالة ولكنه هو إله الحنان والمغفرة أيضاً.

(٣٩) فمن جهة طبيعة الله هو يغفر ويرحم ويعود للرضا وأما من جهة البشر فقد ذكر أنهم بشر مثل ريح يعبرون ولا يوجدون فيما بعد. إذاً يوجد مجال للعفو والغفران ولا يطول غضبه عليهم ولا يلومهم كثيراً. لأنهم بشر فهم يستحقون أن يرأف الله بهم ولا يعاملهم حسب أعمالهم (إشعياء ٤٢: ١٣).

(٤٠) يراجع المرنم بصورة سريعة تلك الحوادث التي ذكرها سابقاً كيف أن هذا الشعب قد عصا إلهه وكان الأحرى به أن يطيع وقد أحزنه في البرية حيث لا أنيس ولا عضد غير الله نفسه. فكان عصيانهم كبيراً وقبيحاً لأنهم فعلوا ذلك في وقت كانوا أحوج فيه لعون الله وإرشاده. بل تمردوا في مكان غير آهل بالناس ونسوا سبب التعزية الحقة لأنهم إذا كانوا مع الله فلا خوف عليهم من أي المخاطر والشرور.

(٤١) ولكنهم رجعوا وجربوا الله بل سببوا أتعاباً عظيمة للإله القدوس. فبدلاً من أن يشكروا كانوا جاحدين منكرين لكل فضل. ومرة أخرى يستعمل كلمة جربوا الله أي وضعوه في الامتحان بسبب قلة إيمانهم.

(٤٢) وسبب ذلك كله مرة أخرى يعود للقول لأنهم لم يذكروا فهم دائماً ينسون الله ولا يقرون بمراحمه الواسعة ونعمه السابغة (راجع خروج ١٠: ٢). وقد يكون يوم فداهم إشارة هنا إلى (خروج ٧: ١٤ – ٢٥).

(٤٣) يذكر تلك الآيات التي جرت في مصر في أرض صوعن. لأن هناك يبدأ التاريخ المقدس فقد أراد الله أن يخرج شعبه بيد قوية وذراع ممدودة لذلك أعطى موسى تلك القدرة والصلابة حتى يستطيع أن يقف أمام فرعون ولا يهاب ذلك المكان العظيم ويتفوق على كل ما كان لديه من أعوان إذ ظهرت قدرة الله أعظم من قدرة أولئك السحرة الذين استعان بهم فرعون. فكانت آيات وعجائب لا ترد مطلقاً.

«٤٤ إِذْ حَوَّلَ خُلْجَانَهُمْ إِلَى دَمٍ وَمَجَارِيَهُمْ لِكَيْ لاَ يَشْرَبُوا. ٤٥ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ بَعُوضاً فَأَكَلَهُمْ، وَضَفَادِعَ فَأَفْسَدَتْهُمْ. ٤٦ أَسْلَمَ لِلْجَرْدَمِ غَلَّتَهُمْ وَتَعَبَهُمْ لِلْجَرَادِ. ٤٧ أَهْلَكَ بِٱلْبَرَدِ كُرُومَهُمْ وَجُمَّيْزَهُمْ بِٱلصَّقِيعِ. ٤٨ وَدَفَعَ إِلَى ٱلْبَرَدِ بَهَائِمَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ لِلْبُرُوقِ. ٤٩ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حُمُوَّ غَضَبِهِ سَخَطاً وَرِجْزاً وَضِيقاً، جَيْشَ مَلاَئِكَةٍ أَشْرَارٍ».

(٤٤) يذكر هنا الضربة الأولى التي ضرب بها الله أرض المصريين (راجع خروج ٧: ١٤ – ٢٥). وكان من باب مخالفة النظير أن يذكر هذه الضربة بعد أن ذكر كيف أن الله قد أعطى شعبه ماء من الصخرة حتى شربوا بينما أولئك المصريون الذين لهم الماء بوفرة بواسطة نهر النيل إذا بهم يعطشون لأن تلك المياه قد تحولت إلى مياه غير صالحة للشرب يعافها الإنسان والحيوان.

(٤٥) ثم نجد المرنم يقفز من هذه الضربة الأولى إلى الرابعة حينما يذكر البعوض وهو نوع من البرغش على ما يظهر أو الذباب (راجع خروج ٧: ١٦ – ٢٨). ويذكر مع هذه الضربة الضفادع التي هي الضربة الثانية حسب ترتيبها في سفر الخروج. وهي تلك الضفدعة المصرية الصغيرة الموجودة ربما حتى الآن واسمها Rana Mosaica .

(٤٦) وينتقل بعد ذلك للجردم والجراد. أما الجردم فهو أقرب للجندب وهو إذا كثر يؤذي المزروعات كثيراً ولكنه لا يقاس بشيء بالنسبة إلى الجراد شر أنواع الحشرات وأفتكها بكل أنواع النباتات على صورة مخيفة للغاية. فإذا كان حتى اليوم يخيف الناس في هذه البلدان وطرق المكافحة قد ترقت كثيراً فهل نلوم خوف القدماء. ولا أزال أذكر حينما هاجم الجراد البلاد السورية واللبنانية سنة ١٩١٥ مما زاد في ويلات الحرب شدة وفي أقوات الناس قلة وجوعاً.

(٤٧) ثم ينتقل إلى ضربة البرد (خروج ٩: ١٣ – ٣٥) وقابل ذلك مع (حزقيال ٨: ٢). وهذه ضربة لا شك فيها حينما تأتي في منتصف الربيع إذ تكون الأشجار في كامل براعمها وزهورها لا سيما إذا عقب ذلك الصقيع الذي ييبس ما تبقى بعد البرد حتى لا تكون مواسم تقريباً.

(٤٨) أما المواشي وهي إذا كانت في طور الولادة فإنه لا شك يموت الكثير منها بسبب شدة البرد. لا سيما وأغلبها يكون في الأرض العراء كما هي الحالة حتى الآن وحينئذ تتعرض لعوامل الطبيعة القاسية بل قد تصاب أيضاً بالبروق والصواعق من السماء وهذه كثيرة الحدوث في أشهر الخريف أو الربيع وتقل في الشتاء.

(٤٩) ثم يلخص هذه كلها بأنها ضربات من الله إذ يرسل ملائكته بهذه الضربات القاسية الشريرة. ولنا من هذا أن المرنم يرى أن عند الله نوعين من الملائكة أما هؤلاء فهم أشرار إذا يتممون الضربات.

«٥٠ مَهَّدَ سَبِيلاً لِغَضَبِهِ. لَمْ يَمْنَعْ مِنَ ٱلْمَوْتِ أَنْفُسَهُمْ بَلْ دَفَعَ حَيَاتَهُمْ لِلْوَبَإِ. ٥١ وَضَرَبَ كُلَّ بِكْرٍ فِي مِصْرَ. أَوَائِلَ ٱلْقُدْرَةِ فِي خِيَامِ حَامٍ. ٥٢ وَسَاقَ مِثْلَ ٱلْغَنَمِ شَعْبَهُ، وَقَادَهُمْ مِثْلَ قَطِيعٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ. ٥٣ وَهَدَاهُمْ آمِنِينَ فَلَمْ يَجْزَعُوا. أَمَّا أَعْدَاؤُهُمْ فَغَمَرَهُمُ ٱلْبَحْرُ. ٥٤ وَأَدْخَلَهُمْ فِي تُخُومِ قُدْسِهِ، هٰذَا ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي ٱقْتَنَتْهُ يَمِينُهُ. ٥٥ وَطَرَدَ ٱلأُمَمَ مِنْ قُدَّامِهِمْ وَقَسَمَهُمْ بِٱلْحَبْلِ مِيرَاثاً، وَأَسْكَنَ فِي خِيَامِهِمْ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ».

(٥٠) ولأن الله غاضب على هؤلاء الناس فقد أظهر غضبه بشكل مخيف. ولم يكتف بما تقدم بل أرسل عليهم الوباء فجرف حياة الكثيرين ونستطيع فهم عمله الذريع عندئذ طالما لم يكن للناس أي الوسائط الألوف منهم صرعى كلما زاد المرض فيما بينهم انتشاراً. ولم يستطيعوا أن يتقوا النتائج المرعبة التي صادفتهم بسبب ذلك وهذا كله لأن الله غضب عليهم ولم يرتد حتى أنزل عقابه بهم تماماً.

(٥١) وهوذا كل بيت فيه مأتم ومناحة إذ قد أصيب أعز الأولاد هم الأبكار سند العيال ومبعث عزها ومجدها (راجع خروج ١١ و١٢). وقد ذكر هنا خيام حام كما في (المزمور ١٠٥ و١١١) وهذا ينطبق على ما ورد في (تكوين ١٠: ٦). بل قد دعا المصريون أنفسهم (كامي أو خامي).

(٥٢) وحينما تمت هذه الضربات المتكررة العظيمة إذ بفرعون قد فارقته قوته ولم يشاء أن يتمسك بشعب إسرائيل بعد بل سمح لهم أن يتركوا البلاد بسلام وهكذا قاد الله شعبه من أرض مصر كما يقود الراعي الغنم إلى مواطن الأمن والمراعي الخصبة (انظر إرميا ٣١: ٢٤). وهذا التشبيه وارد كثيراً في مزامير آساف يقود قطيعه في البرية.

(٥٣) إن هذا الراعي قد سار أمامهم مرشداً هادياً فلم يتركهم وحدهم ولم يتكل فقط على موسى وهارون أن يتمما العمل وحدهما بل اصبع الله القديرة هي التي فعلت كل شيء إلى التمام. وأما الأعداء فقد أصابهم مرة أخرى انخذال عظيم فهم قد ضربوا في عقر دارهم فهل يسلمون وقد خرجوا منها ليظلموا بعد.

(٥٤) ولم يزل يسير معهم مرافقاً هادياً يدلهم على الطريق ويعزيهم ويشددهم إلى أن أوصلهم إلى جبل الله سيناء. إن يمين الله هي التي فعلت ذلك ببأس. واليمين هي دليل اليمن والبركة إذاً فالعمل كان بكل اهتمام وجد فلا يتركهم الله إلى تحكم الظروف والأحوال الطارئة والمخاطر بل هو معهم في كل المواقف إلى أن يتمم لهم كل أسباب الفوز والنجاة. وأما تخوم قدسه فيقصد ربما كل أرض الموعد (تثنية ١١: ١١ والعدد ٣٤: ٢ و٣٦: ٢).

(٥٥) وقد رافقهم بعد ذلك إلى أن استتب لهم الأمر في الأرض التي سكنوا فيها. فطرد الأمم من قدامهم وأصبحت الأرض ملكاً لهم واقتسموها بالحبل (انظر مزمور ١٠٥: ١١) إذاً هم الآن في راحة واطمئنان لا يستطيع أحد أن يعكر صفوهم على شرط أن يبقوا ممسكين بيد الله القديرة ومستعدين أن يتعاونوا بعضهم مع بعض.

«٥٦ فَجَرَّبُوا وَعَصَوْا ٱللّٰهَ ٱلْعَلِيَّ، وَشَهَادَاتِهِ لَمْ يَحْفَظُوا، ٥٧ بَلِ ٱرْتَدُّوا وَغَدَرُوا مِثْلَ آبَائِهِمْ. ٱنْحَرَفُوا كَقَوْسٍ مُخْطِئَةٍ. ٥٨ أَغَاظُوهُ بِمُرْتَفَعَاتِهِمْ وَأَغَارُوهُ بِتَمَاثِيلِهِمْ. ٥٩ سَمِعَ ٱللّٰهُ فَغَضِبَ وَرَذَلَ إِسْرَائِيلَ جِدّاً، ٦٠ وَرَفَضَ مَسْكَنَ شِيلُوهَ، ٱلْخَيْمَةَ ٱلَّتِي نَصَبَهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ. ٦١ وَسَلَّمَ لِلسَّبْيِ عِزَّهُ وَجَلاَلَهُ لِيَدِ ٱلْعَدُوِّ».

(٥٦) ولكن هوذا الأحوال تتبدل معهم وإذا بهم بعد أن استقروا في الأرض يعودون ليجربوا الله ويعصوا أمره كأنه لم يكن شيء من ذلك التاريخ الحافل بجلائل الأعمال. بل إن شهادات الرب والحوادث التي جرت وكل تلك الذكريات لم تساو في نظرهم شيئاً يُذكر. والأرجح أن عصر الارتداد هذا كان بعد موت يشوع وأليعازر وفي بدء أيام القضاة.

(٥٧) لقد ارتدوا غادرين ولا عجب إذ هكذا عمل آباؤهم من قبلهم لقد انحرفوا عن الهدف الذي أمامهم كما تنحرف القوس إذا أخطأت ولم تصب بسهمها المكان المعين (انظر هوشع ٧: ١٦). لقد كان ارتدادهم بغدرٍ وخيانة فهم قد عبدوه بالظاهر ربما ولكنهم تركوه بالحقيقة فكانوا أنذالاً جبناء لأنهم كانوا مرائين كاذبين.

(٥٨) وهنا يذكر السبب لماذا غضب الله عليهم. فقد عبدوا البعليم كما كان يفعل الكنعانيون لذلك فقد ذهبوا وراء عبادة الأمم التي تغلبوا عليهم وامتلكوا أرضهم ولكن هؤلاء غلبوهم بتلك العبادات الوثنية النجسة. ولم يكتفوا بالمرتفعات بل أقاموا التماثيل وعبدوها وتركوا إلههم الحقيقي (انظر إرميا ٢: ٢١).

(٥٩) لقد كانوا يصرخون للبعليم كإنما هي الآلهة الحقيقية (قضاة ٢: ١١) ولكن هذه لا تسمع إنما الله قد سمع وهكذا غضب عليهم من جراء هذه الأعمال الرديئة وكانت النتيجة أنه تركهم ورذلهم لأنهم لا يستحقون تلك العناية الحنونة التي أحاطهم بها وليسوا أهلاً أن يكونوا خاصته. ثم يكرر القسم الأول من العدد ٢١ بصورة مؤثرة.

(٦٠) لقد رفض الله مسكن شيلو والخيمة التي نصبوها لعبادته. لأنهم قد خصصوا مكان العبادة ولكنهم لم يحفظوا عهودها ولم يتمموا ما قطعوه على أنفسهم ولا يغرب عن البال أن في شيلوه خيمة الاجتماع (يشوع ١٨: ١) هناك مركز العبادة في أيام عالي وصموئيل (١صموئيل ١ – ٣). حتى أنه كان مسكن للرب هناك وليس مجرد خيمة فقط توضع وتنقل.

(٦١) إذا راجعنا (قضاة ١٨: ٣٠ وما بعده وقابلنا ذلك مع إرميا ٧: ١٢ – ١٥) نجد أن شيلوه لم تبطل أن تكون مركزاً للعبادة حتى عند الغزو الأشوري وعند سقوط مملكة السامرة يذكر المرنم تلك النكبة التي حلت وكيف سبي الشعب وذهب جلال تلك الأمكنة المقدسة بسبب ذلك.

«٦٢ وَدَفَعَ إِلَى ٱلسَّيْفِ شَعْبَهُ وَغَضِبَ عَلَى مِيرَاثِهِ. ٦٣ مُخْتَارُوهُ أَكَلَتْهُمُ ٱلنَّارُ وَعَذَارَاهُ لَمْ يُحْمَدْنَ. ٦٤ كَهَنَتُهُ سَقَطُوا بِٱلسَّيْفِ وَأَرَامِلُهُ لَمْ يَبْكِينَ. ٦٥ فَٱسْتَيْقَظَ ٱلرَّبُّ كَنَائِمٍ، كَجَبَّارٍ مُعَيِّطٍ مِنَ ٱلْخَمْرِ. ٦٦ فَضَرَبَ أَعْدَاءَهُ إِلَى ٱلْوَرَاءِ. جَعَلَهُمْ عَاراً أَبَدِيّاً. ٦٧ وَرَفَضَ خَيْمَةَ يُوسُفَ وَلَمْ يَخْتَرْ سِبْطَ أَفْرَايِمَ».

(٦٢) لا ندري إذا كانت هنا الإشارة إلى تلك المعركة الدامية مع الفلسطينيين في أفيق (راجع ١صموئيل ٤: ٢١ وما بعده). فقد سقط في تلك المعركة نحو ثلاثين ألفاً من العبرانيين وقتل حفني وفينحاس ابنا عالي الكاهن بل الأعظم من ذلك أن فقد بنو إسرائيل تابوت العهد. ذلك لأن الرب قد غضب على ميراثه فدفعهم للسيف يهلكون ولا من معين.

(٦٣) أما النار التي أكلتهم فهي نار الحرب (راجع العدد ٢١: ٢٨) هوذا الرجال المختارون أهل البأس والقوة قد قتلوا ولذلك فإن العذارى لم يعد لهن أن يترنموا بالأناشيد. «لم يحمدن» أي لا يغنين تلك الأغاني الدارجة في الأعراس القديمة إذ أن النكبة عظيمة والشعب غير مستعد لغير النوح والبكاء.

(٦٤) بينما من الجهة الأخرى قد سقطت الكهنة بحد السيف أولئك الذين عملهم أن ينهضوا بالشعب لعبادة الله فيضطرون للقتال ويموتون. بينما نجد أن الأرامل قد قست قلوبهن فلا يبكين نادبات أزواجهن الذين ماتوا. ذلك لأن المصيبة كانت مداهمة حتى أفقدت الناس رشدهم ولم يعوا ماذا يفعلون (راجع أيوب ٢٧: ١٥). والبكاء الذي يقصده المرنم هو تلك العادة القديمة في بلاد الشرق (انظر تكوين ٢٣: ٢) ثم أن هؤلاء الأرامل لم يسمح لهن بالبكاء كما يحدث في الحروب حينما يعم القتل والتشتيت ولا يستطيع أحد أن يبكي رافعاً صوته من الخوف.

(٦٥) بعد كل هذه الضربات عاد الرب إلى شعبه فاستيقظ بعد نوم طويل وصرخ كما يصرخ جبار مهتاج. وهي صورة بدائية بالنسبة لله تدل على بساطة كلية ولكن المعنى الذي يقصده أن الله لم يتخل عن شعبه للأبد.

(٦٦) وهكذا ضرب أعداءه الذين اعتدوا على شعبه وأذلوهم وقد يكون هذا الحادث إشارة إلى ما ورد في (١صموئيل ٥: ٦ وما بعده). وهنا إشارة إلى العصر الذي عاش فيه شاول وداود وتلك الانتصارات التي أحرزاها (راجع ١صموئيل ٥ وما بعده).

(٦٧) ولكن الله بعد أن تمت هذه الانتصارات على الأعداء بواسطة داود عبده على الأخص فقد رفض من أجل ذلك يوسف وسبط أفرايم. لذلك فقد اختار عوضاً عنهما سبط يهوذا ومكان سكناه أورشليم (راجع تثنية ٣٣: ١٢). وبالنسبة لتوزيع الأرض (راجع مزمور ٦٨: ٢٧) نجد يهوذا يبدأ بالأهمية والظهور.

«٦٨ بَلِ ٱخْتَارَ سِبْطَ يَهُوذَا جَبَلَ صِهْيَوْنَ ٱلَّذِي أَحَبَّهُ. ٦٩ وَبَنَى مِثْلَ مُرْتَفَعَاتٍ مَقْدِسَهُ، كَٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أَسَّسَهَا إِلَى ٱلأَبَدِ. ٧٠ وَٱخْتَارَ دَاوُدَ عَبْدَهُ وَأَخَذَهُ مِنْ حَظَائِرِ ٱلْغَنَمِ. ٧١ مِنْ خَلْفِ ٱلْمُرْضِعَاتِ أَتَى بِهِ لِيَرْعَى يَعْقُوبَ شَعْبَهُ وَإِسْرَائِيلَ مِيرَاثَهُ. ٧٢ فَرَعَاهُمْ حَسَبَ كَمَالِ قَلْبِهِ وَبِمَهَارَةِ يَدَيْهِ هَدَاهُمْ».

(٦٨) إن الله قد اختار يهوذا بعد أن رفض بنيامين بشخص شاول الذي قتل مع ابنه بيد الفلسطينيين وقد رثاهما داود بتلك المرثاة الخالدة (راجع ٢صموئيل ١: ١٧ – ٢٧). إن الله القدير يختار لنفسه ما يشاء ومن يشاء ذلك لأنه بحكمته الكلية يريد أن يصل بشعبه إلى ملء النجاح ومن يتمم مقاصده فهو مقبول عنده.

(٦٩) حينئذ بدلاً من تلك المرتفعات التي عبدها الشعب آخذينها من الكنعانيين بعباداتهم البعليم وأوثانهم الكثيرة إذ الهيكل المقدس يرتفع على جبل الموريا لكي يعبد الرب عبادة حقة دائمة ما دام الشعب متمسكاً بإلهه ويتمم نواميسه بكل أمانة واستقامة (راجع إشعياء ٦٥: ١٧) إذاً هنا يشير ليس فقط للهيكل العظيم بل للعبادة التي تستمر فيه بدون انقطاع بواسطة شعب متعبد غيور يعبد إلهه بورع ويحيا للأبد.

(٧٠) هكذا يقع الاختيار على داود ذلك الراعي الصغير يصبح راعياً لشعب الله بدلاً من الغنم. لقد بقيت له الوظيفة ذاتها ولكن قد تغير القطيع وبالتالي عظمت المسؤولية أضعافاً كثيرة. وهنا نجد أن هيكل الله موجود كما أن نسل داود الملكي سيحتفظ بمقامه لأجيال كثيرة.

(٧١) لقد تسلّم داود تلك المسؤولية وسلمها إلى بنيه من بعده إرثاً أبدياً. ذاك داود ابن يسىّ الراعي الملك فليكن ملكه وطيداً على نسبة حسن رعايته لشعب الله والقيام بعبادته المقدسة. لقد أخذ من خلف المرضعات وهي التي تعتني بأولادها أتم عناية وهكذا عليه أن يعتني بشعب الله بمثل تلك العناية ولا يخون العهد الذي قطعه على نفسه كما فعل شاول من قبله. وحينئذ فإن الشعب كله معه. هو ميراث رب الجنود وما الملك سوى خادم يرعى شعب الله ويهديهم في الطريق المستقيم.

(٧٢) وهكذا فإن داود لم يخن الأمانة التي وضعت في عنقه بل قد قام بالواجب خير قيام. فقد كان طاهر القلب يرعى شعبه بحنو ومحبة (تكوين ٣٣: ١٣ وقابله مع ١صموئيل ١٦: ١١ و١٧: ٣٤) وكذلك كان ماهراً في الإدارة وحكيماً في الحكم على شعبه. وبمثل هذه الخاتمة الجميلة ينتهي من هذا المزمور الجامع ولا يتركه إلا والأصداء المدوية تظن في الآذان فقد جمع التاريخ وهو يصلح للاعتبار اليوم كما كان في القديم.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى