سفر المزامير

سفر المزامير | 79 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ وَٱلسَّبْعُونَ

مَزْمُورٌ. لآسَافَ

«١ اَللّٰهُمَّ، إِنَّ ٱلأُمَمَ قَدْ دَخَلُوا مِيرَاثَكَ. نَجَّسُوا هَيْكَلَ قُدْسِكَ. جَعَلُوا أُورُشَلِيمَ أَكْوَاماً. ٢ دَفَعُوا جُثَثَ عَبِيدِكَ طَعَاماً لِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ، لَحْمَ أَتْقِيَائِكَ لِوُحُوشِ ٱلأَرْضِ».

يظهر أن هذا المزمور يتصل صلة وثيقة مع المزمور الرابع والسبعين ليس فقط من جهة الناظم وهو آساف بل أيضاً بالنسبة لموضوع المزمورين. فإن كان الرابع والسبعون يدل على بدء الاضطهاد وتخريب الهيكل فلا شك أن هذا المزمور يرينا أن الخراب قد أكمل وهكذا فإن عبيد الرب وأتقياءه يحتملون أشد الاضطهاد في سبيل ديانتهم. كلا المزمورين يحملان طابع إرمياء النبي ويمتان إليه بصلة الفكر والتعبير. ويظن أن عصر هذا المزمور هو في أيام السلوقيين (راجع سفر المكابيين الأول ص ١: ٣١ و٣: ٤٥ والمكابيين الثاني ٨: ٣). وقد يكون عصره في أيام الكلدانيين حينما نُجس الهيكل وذبح الكثيرون من خدام الله. وفي هذا المزمور كما فيما سبقه (المزمور ٧٤) يقرأ الإنسان عن تلك الويلات التي أصابت الشعب ليس من جراء حرب اشتعل أوارها وذكت نارها بل بالأحرى فالشكوى تأتي من الاضطهادات والمظالم.

ومما يجدر ذكره أن العددين ٦ و٧ في هذا المزمور هما صورة مأخوذة طبق الأصل عن (إرميا ١٠: ٢٥). ويستبعد أن إرمياء أخذ من هذا المزمور والأرجح أن العكس قد حصل وهكذا يكون إرمياء هو المثال الذي احتذاه المرنم وسار على منواله لا سيما حينما كرر التاريخ تلك المأساة بخراب أورشليم كما حدث في أيام نبوخذ نصر.

(١) يبدأ المرنم كلامه بالشكوى فهو يشكو إلى الله ما توالى على الشعب من متاعب ومصائب وكلامه شبيه بما ورد في (مراثي إرميا ١: ١٠). بل هي شكوى شبيهة بما ورد في نبوءة (ميخا ٣: ١٢). ومما لا شك فيه أن نبوءة ميخا هذه قد أوجدت ثوراناً عظيماً في أفكار الشعب عندئذ (راجع إرميا ٢٦: ١٨ وأيضاً ٢ وثم تثنية ٢٨: ٢٦). الأمر المهم في نظر المرنم هو كيف تطاولوا على الدخول إلى البلاد التي هي ميراث من رب الجنود بل كيف نجسوا الهيكل واستباحوه وجعلوا خربه أكواماً وليس من ينقذ.

(٢) وقوله «دفعوا جثث عبيدك» أي جثث أولئك الشهداء الذين ماتوا في سبيل دينهم وبلادهم. لقد تركت تلك الجثث في العراء لا يهتم أحد بأن يجمعها ويدفنها حتى جاءت طيور السماء وأكلتها وهذا منتهى العار في نظر الأقدمين لا سيما إذا تذكرنا أن الله يجمع الجثث ويعيدها ذاتها للحياة ولكن الآن فإن هؤلاء القتلى لم يعد لهم أي أمل بالعودة والقيامة من الموت كما أن وحوش الأرض ذاتها قد شاركت في هذه الوليمة العظيمة.

«٣ سَفَكُوا دَمَهُمْ كَٱلْمَاءِ حَوْلَ أُورُشَلِيمَ وَلَيْسَ مَنْ يَدْفِنُ. ٤ صِرْنَا عَاراً عِنْدَ جِيرَانِنَا، هُزْءاً وَسُخْرَةً لِلَّذِينَ حَوْلَنَا. ٥ إِلَى مَتَى يَا رَبُّ تَغْضَبُ كُلَّ ٱلْغَضَبِ وَتَتَّقِدُ كَٱلنَّارِ غَيْرَتُكَ؟ ٦ أَفِضْ رِجْزَكَ عَلَى ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَكَ وَعَلَى ٱلْمَمَالِكِ ٱلَّتِي لَمْ تَدْعُ بِٱسْمِكَ. ٧ لأَنَّهُمْ قَدْ أَكَلُوا يَعْقُوبَ وَأَخْرَبُوا مَسْكَنَهُ».

(٣) بل قد استباحوا سفك دمائهم ومن كثرتها أصبحت تجري كالماء وهي مسفوكة حول أورشليم أي من كل جانب فإن هذا الويل العظيم قد أحاق بشعب الله فنكل بهم العدو أعظم تنكيل وجعلهم يحتارون كيف ينجون وفي أية جهة يذهبون لأنه قد سدت في وجوههم كل سبل الخلاص. وفي نظر المرنم كان هذا المصاب مؤثراً للغاية إذ لم يكن أحد يدفن هؤلاء القتلى بل قد تركوا معرضين لأبشع التعديات وأفظعها إن كان من طيور السماء أو من وحوش البرية ولا يوجد من يشفق.

(٤) وقد زاد في آلام المرنم صرخته بالعار واعتباره أن شعبه قد أصبح هزءاً وسخرة أمام الجميع. إن آلام الجسد لا تقاس شيئاً بالنسبة لآلام الروح. فقد سقطت الهمة وذهب العزم وفسد كل شيء أمامهم. وإذا بأولئك الجيران الذين كانوا بالأمس عبيداً أذلاء إذا بهم يتعظمون عليهم ويفتخرون وإذا حسبنا هذا الكلام ينطبق على الغزو الكلداني فالأعداء هم الأدوميون.

(٥) إلى متى؟ هذا هو السؤال الخطير إلى متى تشتعل كالنار غيرة الرب ضد شعبه الذين عصو أوامره وساروا في طرق رديئة وهكذا استحقوا مثل هذا الغضب (راجع تثنية ٣٢: ٢٢).

(٦) أما حان الوقت إن هذا الغضب الذي يظهره الرب ضد شعبه يتحول الآن ضد أولئك الأمم الذين قد عظموا الاضطهاد ضد مختاريه وأذاقوهم العذاب أشكالاً وألواناً. أليس هؤلاء الشعوب أنفسهم أحق بالقصاص والعقاب أكثر كثيراً من شعبك الذي أذللته. وكما قلنا سابقاً فإن هذا العدد والذي بعده مأخوذان من (إرميا ١٠: ٢٥).

(٧) هذه الممالك الغريبة التي لم تعرف اسمك ولم تدع به بل عاشت وثنية غريبة هل يجوز لهذه أن تصول وتطول على هذه الصورة المؤسفة. هوذا هم قد فتكوا بالشعب فتكاً ذريعاً وأكلوه كما يأكل الإنسان خبزاً أو بعض المأكولات وتجرأوا بعد ذلك على أن يخربوا مساكن الناس ويطردوهم ويشردوهم إلى كل ناحية (انظر إشعياء ٥: ٢٦ و١٧: ١٣). وإن يكن إن هذا القصاص الصارم قد جرى على شعب إسرائيل نتيجة عصيانهم وتعديهم على أوامر الله.

«٨ لاَ تَذْكُرْ عَلَيْنَا ذُنُوبَ ٱلأَوَّلِينَ. لِتَتَقَدَّمْنَا مَرَاحِمُكَ سَرِيعاً لأَنَّنَا قَدْ تَذَلَّلْنَا جِدّاً. ٩ أَعِنَّا يَا إِلٰهَ خَلاَصِنَا مِنْ أَجْلِ مَجْدِ ٱسْمِكَ، وَنَجِّنَا وَٱغْفِرْ خَطَايَانَا مِنْ أَجْلِ ٱسْمِكَ. ١٠ لِمَاذَا يَقُولُ ٱلأُمَمُ: أَيْنَ هُوَ إِلٰهُهُمْ؟ لِتُعْرَفْ عِنْدَ ٱلأُمَمِ قُدَّامَ أَعْيُنِنَا نَقْمَةُ دَمِ عَبِيدِكَ ٱلْمُهْرَاقِ. ١١ لِيَدْخُلْ قُدَّامَكَ أَنِينُ ٱلأَسِيرِ. كَعَظَمَةِ ذِرَاعِكَ ٱسْتَبْقِ بَنِي ٱلْمَوْتِ».

(٨) يمكننا أن نرى هنا بدء الارتداد للتوبة فالمرنم يرجو الله أن لا يحسب على الشعب ما ارتكبه آباؤهم. ذلك لأن هؤلاء الأبناء قد ارتدعوا عن غي آبائهم وتعديهم وعادوا يطلبون الله (انظر قضاة ٦: ٦) ولا يعني المرنم أن يبرر هؤلاء البنين من الذنب الموروث بل يطلب العفو والرحمة والرضا (انظر تثنية ٢٤: ١٦ و٢ملوك ١٤: ٦ وحزقيال ١٨: ٢٠). فهو يصلي صلاة التوبة كما يطلب المغفرة للأولين أيضاً.

(٩) إن الله في نظر المرنم لا يرضى أن تسود الأمم طويلاً على شعبه إذ هو يستعملهم كقضيب يضرب بهم أولاده لكي يرجعوا ويتوبوا ومتى تم له هذا الأمر يرمي هذا القضيب من يده جانباً ويعود لأولاده كالسابق. وهذا العدد يحرك العواطف القلبية بطلب العون والإسعاف ولا سيما فإن هذا الطلب ليس لأن الشعب يستحق بل لأن اسم الله وحده يستحق كل شيء. هو طلب لأجل غفران الخطايا ليس إلا ومتى تاب الشعب يعود الله راحماً.

(١٠) هل يسمح الله أن يتبجح هؤلاء الأمم العتاة الظالمون حتى يقولوا أين هو إلههم المعين؟ نعم إن الله يريد أن يقاص شعبه ولكنه تعالى لا يريد أن يتصرف هؤلاء بصلف زائد حتى يكفروا بالله ولا يعودوا للرشاد ويحسبوا له كل حساب أولاً. بل إن الله لا شك سيعود للرضا على شعبه وحينئذ فإنه ينتقم من أجل دم عبيده المهراق كأنه ماء مسكوب وليس دماً زكياً يريد الله الاحتفاظ به وتكريمه (راجع خروج ٣٢: ١٢ وقابله مع العدد ١٤: ١٣ – ١٧ وتثنية ٩: ٢٨ وأيضاً يوئيل ٢: ١٧).

(١١) إن هذا الاستعطاف يشبه كثيراً ما ورد في (مزمور ١٠٢: ٢١ وقابله مع مزمور ١٨: ٧). لا يزال عدد كبير من الأسرى في يد الأعداء وهم ينتظرون الموت ساعة بعد أخرى لذلك يسميهم «بني الموت». إذ لم يكن شيء من الرحمة في قلب المنتصر على الأسير المسكين. ولكن هوذا الله وحده يسمع أنينه ويرثي لحاله ويمد ذراعه وينتشله مما هو فيه ولا يبقيه قط في هذه الآلام العظيمة المبرحة. ذلك لأن ذراع الله وحدها تديره لذلك فلتقصر كل ذراع يمده العدو مهما طالت.

«١٢ وَرُدَّ عَلَى جِيرَانِنَا سَبْعَةَ أَضْعَافٍ فِي أَحْضَانِهِمِ ٱلْعَارَ ٱلَّذِي عَيَّرُوكَ بِهِ يَا رَبُّ. ١٣ أَمَّا نَحْنُ شَعْبُكَ وَغَنَمُ رِعَايَتِكَ نَحْمَدُكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ. إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ نُحَدِّثُ بِتَسْبِيحِكَ».

(١٢) يطلب أن يرد النقمة على رأس هؤلاء الجيران سبعة أضعاف. إذ قد يكون لهؤلاء الأعداء العتاة البعيدين بعض العذر في ظلمهم وتجنيهم على شعب الله ولكن هؤلاء الجيران الذين شاهدوا أعمال رب إسرائيل واختبروا قدرته مدى السنين فأي عذر لهم؟ هؤلاء بالحق يستحقون أن يقتص الرب منهم على نسبة شرورهم هذه. ولينالوا هذا القصاص في أحضانهم أي في أعز مكان لديهم. فبدلاً من أن ينالوا منهوبات الغنائم التي يضعونها في أحضانهم ويضمونها في صدورهم ليكن لهم العار فيرجع ما عيروا الله به إلى نحورهم وصدورهم لأنهم قد تطاولوا أكثر مما يستطيع الإنسان احتماله. والحضن هو المكان الذي يختزن به الإنسان ما يسلم إليه (انظر لوقا ٧: ٣٨ وأيضاً إشعياء ٦٥: ٦ و٧ وإرميا ٣٢: ١٨). والعدد سبعة هو عدد مقدس كامل (انظر تكوين ٤: ١٥ و٢٤).

(١٣) والسبب الذي يلتمس به هذا الالتماس برجوع الرب إلى شعبه هو بالنسبة لتلك العلاقة المتينة الكائنة بينه وبينهم والتي لا تتغير أبداً وإن مرّ الزمان وجرى ما لم يكن في الحسبان فهي أمور وقتية لا بد أن تزول بزوال أسبابها. هم غنم رعاية الرب فقد ضلوا وشردوا والآن يريدون الرجوع. لقد ابتعدوا عن الوطن زمناً ولكنهم يلجأون من براري الحياة ومجاهلها إلى مواطن الأمن والسلام. ذلك لأنهم يعودون للحمد الأبدي فهم الذين يعبدونه بالحق ويتسمون باسمه ويتبعون شريعته وإن كان في الماضي قد أغفلوها مهملين فليس ذلك إلا إلى حين. وليكن أن كل حديث يتناول موضوع التسبيح للرب حتى إلى دور فدور ولا نصمت إلى أن يكون القلب واللسان معاً في طاعة الله وحسب مشيئته.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى