سفر المزامير

سفر المزامير | 45 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلْخَامِسُ وَٱلأَرْبَعُونَ

لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. عَلَى ٱلسَّوْسَنِّ. لِبَنِي قُورَحَ. قَصِيدَةٌ. تَرْنِيمَةُ مَحَبَّةٍ

«١ فَاضَ قَلْبِي بِكَلاَمٍ صَالِحٍ. مُتَكَلِّمٌ أَنَا بِإِنْشَائِي لِلْمَلِكِ. لِسَانِي قَلَمُ كَاتِبٍ مَاهِرٍ. ٢ أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي ٱلْبَشَرِ. ٱنْسَكَبَتِ ٱلنِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ، لِذٰلِكَ بَارَكَكَ ٱللّٰهُ إِلَى ٱلأَبَدِ. ٣ تَقَلَّدْ سَيْفَكَ عَلَى فَخْذِكَ أَيُّهَا ٱلْجَبَّارُ، جَلاَلَكَ وَبَهَاءَكَ. ٤ وَبِجَلاَلِكَ ٱقْتَحِمِ. ٱرْكَبْ. مِنْ أَجْلِ ٱلْحَقِّ وَٱلدَّعَةِ وَٱلْبِرِّ، فَتُرِيَكَ يَمِينُكَ مَخَاوِفَ».

يذكر سفر العبرانيين ص ١: ٨ بأن هذا الكلام هو عن المسيح ابن الله. وبذلك يعدّ نبوءة عنه ووصفاً بارعاً لما سيكونه. يبقى هل كتب هذا المزمور لأجل ذلك أم هو ترنيمة محبة بشرية كما هو عنوانه وقد نظم لأجل ظرف خاص هو زواج الملك أو ابنه والشاعر معاصر لهما فيتكلم عن أمور جرت أمام عينيه. وهذا الملك هو من نسل داود ولذلك كان له المواعيد (٢صموئيل ٧). وقد تكون هذه القصيدة منظومة حينما اقترن يورام بعثليا لأنه من نسل داود. وليس لآخاب وإيزابل لأن هذا الأخير ابن عمري من إسرائيل مملكة الشمال.

العنوان يبين الكاتب أنه من بني قورح والأرجح أنه كان لهم مجموعة من الأناشيد والأشعار وهذه القصيدة إحداها. وهي تبحث أموراً مسرّة محبوبة.

(١) وبدء القصيدة يستلفت النظر فإن قلب الشاعر قد امتلأ أولاً حتى فاض بعد ذلك. وفيضه كان بأشياء صالحة لطيفة وجميلة. ويسره أن يكون له لسان يترجم ما في أفكاره من معان ويقدر أن يسرع في التعبير حتى يكاد يسابق قلم الكاتب الماهر. إن موضوعه جليل وأجلّ منه هو شخص الملك الذي يتكلم عنه لذلك لا عجب إن فاض في الكلام.

(٢) وموضوع كلامه هو جمال الملك وبهاؤه فقول الشاعر أنه بالرغم من كل مهارته في الكلام والتعبير ظل عاجزاً عن إيفاء الملك حقه في المديح. لا سيما وإن هذا الملك قد اشتهر ببلاغة الكلام لأنه بنعمة من الله يفعل ذلك وقد برهن على هذه الصورة أنه مبارك من الله (انظر لوقا ٤: ٢٢).

(٣) وبعد أن يصف مظهره الخارجي بالجمال والجلال وبالطبع لا يعني ذلك الشيء الفاني الزائل (أمثال ٣١: ٣٠) ولكنه جمال النعمة السماوية والبركة. يأتي الآن لكي يصفه كمحارب وإذا به يحمل سيفاً على جنبه يدل على العزة والجبروت. وببراعة يذكر الملك أن شجاعته هي أعظم مظاهر الجلال والبهاء.

(٤) ولا شك أن الجلال والشجاعة هما صنوان لا يفترقان في الملوك. وهذا السيف على جنبه ليس للزينة فقط بل عليه أن يقتحم به الأعداء ويركب أمام جنده ليقودهم للنضال والظفر. ولكنه في الوقت ذاته ظفر لأجل الحق والبر وبصورة وديعة متواضعة وإذا يمينه توقع في الأعداء رعباً ومخاوف لا قبل لهم على مجابهته.

«٥ نَبْلُكَ ٱلْمَسْنُونَةُ فِي قَلْبِ أَعْدَاءِ ٱلْمَلِكِ. شُعُوبٌ تَحْتَكَ يَسْقُطُونَ. ٦ كُرْسِيُّكَ يَا اَللّٰهُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. قَضِيبُ ٱسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ. ٧ أَحْبَبْتَ ٱلْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ ٱلإِثْمَ، مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ مَسَحَكَ ٱللّٰهُ إِلٰهُكَ بِدُهْنِ ٱلٱبْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ رُفَقَائِكَ. ٨ كُلُّ ثِيَابِكَ مُرٌّ وَعُودٌ وَسَلِيخَةٌ. مِنْ قُصُورِ ٱلْعَاجِ سَرَّتْكَ ٱلأَوْتَارُ».

(٥) وهنا ينتقل إلى نوع آخر من السلاح وهو رمي النبال. إن هذه النبال هي في حالة جيدة للغاية إذ تخترق إلى مسافات بعيدة حتى تصل إلى قلوب الأعداء. وحينما يستعمل هذين السلاحين الهامين في تلك الأيام وهما السيوف والنبال إذا الأعداء يندحرون ويسقطون ويتذللون أمام الملك ويكون موقعهم تحته لا مقابله قط. وقد رأى بعض المفسرين أن الإشارة هنا هي للمسيح (قابل إشعياء ٩: ٥ و١٠: ٢١).

(٦) يمكن الترجمة «كرسيك التي من الله» وحينئذ يكون المعنى أن الله قد ثبت هذا الكرسي ودعمه لنسل داود ملكاً أبدياً. أو تترجم أيضاً «كرسيك الإلهي» (انظر ٢ملوك ٢٣: ١٧). وأما شكل الخطاب هنا «يا الله» فقد يكون من باب كل سلطة حتى البشرية منها أيضاً (انظر خروج ٢١: ٦ و٢٢: ٧) وما بعده و(مزمور ٨٢ و١٣٨: ١) ذلك لأنهم يمثلون الله ويحملون اسمه بين الناس. ولأن الملك يمثل الله فإن صولجانه يجب أن يكون للاستقامة والبر.

(٧) من يحب البر يبغض الإثم وبالعكس. لذلك فإن الله قد مسحه سعيداً عزيزاً في ملكه أرقى رتبة وأعلى مقاماً ممن حوله (قابل مزمور ٨٩: ٢١ مع أعمال ١٠: ٣٨). وهذا هو العهد الذي عاهد به الله أنه يحب العدل ويؤسس ملكه عليه ولذلك فهو ممسوح من الله لأجل هذه الوظيفة العالية التي تتضمن المسؤوليات الجسام أكثر من الجاه والسطوة والسلطان. ولكنه بدهن الابتهاج لأنه حينما يتمم وظيفته ينال السعادة والتوفيق أكثر كثيراً من الملوك الآخرين رفقائه.

(٨) يصل هنا الشاعر بوصفه إلى الذروة العليا فبعد أن يصف ملكه المحبوب بالبطولة والرجولة وبأن ملكه من الله يأتي إليها لكي يصفه عريساً ملكياً في يوم أفراحه العظمى. وكذلك نجد الوصف في سفر الرؤيا فإنه بعد أن يضرب المسيح أعداءه بقضيب فمه ويركب على فرس أبيض واسمه ملك الملوك ورب الأرباب يتبع ذلك عرس الخروف (رؤيا ١٩: ٧). وهذه الثياب التي يلبسها الملك هي معطرة إلى درجة بعيدة كإنما نسجت بالعطور الثمينة. ومقامه هو في قصور ثمينة مملوءة بالأواني العاجية التي تدل على الغنى والرخاء العظيم.

«٩ بَنَاتُ مُلُوكٍ بَيْنَ حَظِيَّاتِكَ. جُعِلَتِ ٱلْمَلِكَةُ عَنْ يَمِينِكَ بِذَهَبِ أُوفِيرٍ. ١٠ اِسْمَعِي يَا بِنْتُ وَٱنْظُرِي وَأَمِيلِي أُذُنَكِ وَٱنْسَيْ شَعْبَكِ وَبَيْتَ أَبِيكِ، ١١ فَيَشْتَهِيَ ٱلْمَلِكُ حُسْنَكِ، لأَنَّهُ هُوَ سَيِّدُكِ فَٱسْجُدِي لَهُ. ١٢ وَبِنْتُ صُورٍ أَغْنَى ٱلشُّعُوبِ تَتَرَضَّى وَجْهَكِ بِهَدِيَّةٍ. ١٣ كُلُّهَا مَجْدٌ ٱبْنَةُ ٱلْمَلِكِ فِي خِدْرِهَا. مَنْسُوجَةٌ بِذَهَبٍ مَلاَبِسُهَا».

(٩) الحظيات أي المحظوظات المكرمات لدى الملك بالنسبة لما هن عليه من رفعة الشأن والمقام (انظر أمثال ٦: ٢٦) وأعلى من جميع هؤلاء كانت الملكة التي جلست على العرش معه والحلى الذهبية تزينها من قمة الرأس إلى أخمص القدم. وإذا كنا نفسر الكلام على نسبة المسيح فمن هن هؤلاء الحظيات؟ هن الأمم الوثنية وأما الملكة فهي كنيسة المسيح وجميع هؤلاء يجتمعن معاً حول الملك ابن الله لكي يجمع الكل إلى واحد بواسطته.

(١٠) وهنا يلتفت المرنم لكي يخاطب هذه العروس الملكية الواحدة ويقول لها أن تستعمل حاستيها الهامتين أولاً أن تسمع ثم أن ترى وبعد ذلك عليها أن تنسى كل ما ماضيها وما كانت فيه من عزّ وتذكر خضوعها للملك. هذا شيء طبيعي وقت الزواج فإن المرأة تترك بيت أبيها واسم عائلتها لكي تسكن بيت زوجها وتأخذ اسمه. فيتعهد الزوج بعهود العناية والاهتمام بزوجته كما أنها تتعهد بالطاعة والأمانة.

(١١) إن هذا الملك الزوج يرى في زوجته عندئذ كل ما يسرّه ويفرح قلبه (راجع ١بطرس ٣: ٦) ولأنه ملك فهو سيدها ومولاها. وعليها عندئذ أن تخضع له وتسجد لمقامه الرفيع بكل احترام. إن إظهار خضوع الأمم للمسيح هو دليل عظمتها الحقة ووحدتها وتقدمها.

(١٢) واختار «بنت صور» التي هي أغنى الشعوب لكي يزيد عظمة الملك فهي تطلب رضاه وتكون له حليلة شرعية وتقدم له هدية ثمينة دليل خضوعها كما فعل المجوس حينما قدموا الهدايا للطفل المولود. وعليها الآن أن تنسى شعبها وعبادتها الوثنية الأولى وتظهر نفسها أهلاً للحلة الملكية التي هي فيها الآن.

(١٣) وهنا وصف مفصل كيف تركت بيت أهلها نهائياً وهي في حللها الملكية الباهرة فهي لابسة أثمن الملابس ويجللها المجد والعزة والوقار من كل جانب. تدخل القصر بحاشية كبيرة معها. وملابسها فيها خيوط من ذهب أو مصنوعة بشكل مربعات في وسطها الألماس والحجارة الكريمة واللآلئ الثمينة.

«١٤ بِمَلاَبِسَ مُطَرَّزَةٍ تُحْضَرُ إِلَى ٱلْمَلِكِ. فِي أَثَرِهَا عَذَارَى صَاحِبَاتُهَا. مُقَدَّمَاتٍ إِلَيْكَ ١٥ يُحْضَرْنَ بِفَرَحٍ وَٱبْتِهَاجٍ. يَدْخُلْنَ إِلَى قَصْرِ ٱلْمَلِكِ. ١٦ عِوَضاً عَنْ آبَائِكَ يَكُونُ بَنُوكَ، تُقِيمُهُمْ رُؤَسَاءَ فِي كُلِّ ٱلأَرْضِ. ١٧ أَذْكُرُ ٱسْمَكَ فِي كُلِّ دَوْرٍ فَدَوْرٍ. مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ تَحْمَدُكَ ٱلشُّعُوبُ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ».

(١٤) في هذا المظهر الخلاب البهي تدخل إلى حضرة الملك كما جرى لأستير الملكة حينما أحضرت أمام أحشويروش (أستير ٢: ١٢). هو ملكها وزوجها الآن وتلبس الآن ثياباً مطرزة (٢أخبار ٢٠: ٢١) والعروس تلبس منذ قديم الزمان ثوباً أبيض دليل العفة والطهارة ولا مانع أن يطرز عليها على شرط أن يحتفظ ببياضها الناصع. ووراءها تتقدم بنات عديدات كخادمات ووصيفات لها ولكن جميعهن الآن مقدمات للملك إذ بحضرته حتى وصيفاتها يصبحن للملك أولاً.

(١٥) يكاد القارئ هنا يسمع حداء الشبان وزغاريد النساء والعذارى لدن هذا العرس الملكي البديع. إن جميع الأمم والشعوب يجب أن تتحد في إيمان واحد لكي تقاسم في مجد ابنة صهيون السماوية. وهنا نرى بالخيال ذلك الموكب قادماً بكل أبهة وجلال وأصوات الأهازيج والأفراح تتصاعد من كل جانب. ولا يبقى الفرح خارجاً بل يصل إلى داخل القصر وإلى قلب الملك بالذات.

(١٦) لقد كان الملوك عندئذ يشركون أولادهم في الحكم إن في يهوذا أو إسرائيل (انظر ٢صموئيل ٨: ١٨ و١ملوك ٤: ٧ وقابل مع ٢أخبار ١١: ٢٣ و١ملوك ٢٠: ١٥). إن هؤلاء البنين المولودين من نسل ملكي من الأمم يقصد به أن محبة المسيح والطاعة له والإيمان به ستنتشر في كل مكان حتى تعم معرفة المسيح الأرض كلها كما تغطي المياه البحر (انظر رؤيا ٥: ١٠).

(١٧) سيعطي للذين يخضعون لاسمه ويطيعون وصاياه ملكاً أبدياً دائماً وحينئذ يصبح اسم الرب على كل شفة ولسان. ويكون أن الأرض جميعها تظهر حمدها للرب لأنه يتسلط على الشعوب في كل مكان.

نعم إن المرنم يرى وحدة الأرض خاضعة فقط لرؤساء من نسل ملكي مقدس يعملون مشيئة الله ويتممون أوامره. ولذلك يختم بأن كل الشعوب سوف تشترك أخيراً في حمد الله وتمجيد اسمه القدوس إلى كل جيل ودهر.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى