سفر المزامير | 25 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلْخَامِسُ وَٱلْعِشْرُونَ
لِدَاوُدَ
«١ إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَرْفَعُ نَفْسِي. ٢ يَا إِلٰهِي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، فَلاَ تَدَعْنِي أَخْزَى. لاَ تَشْمَتْ بِي أَعْدَائِي. ٣ أَيْضاً كُلُّ مُنْتَظِرِيكَ لاَ يَخْزَوْا. لِيَخْزَ ٱلْغَادِرُونَ بِلاَ سَبَبٍ. ٤ طُرُقَكَ يَا رَبُّ عَرِّفْنِي. سُبُلَكَ عَلِّمْنِي. ٥ دَرِّبْنِي فِي حَقِّكَ وَعَلِّمْنِي. لأَنَّكَ أَنْتَ إِلٰهُ خَلاَصِي. إِيَّاكَ ٱنْتَظَرْتُ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ».
هذا المزمور أيضاً يجيب بكل وضوح على سؤال المزمور السابق من يصعد إلى جبل الرب وفي الوقت ذاته هو صلاة هادئة عميقة يطلب فيه المرنم الغلبة على الأعداء بإرشاد الله وغفرانه ونعمته التي تقودنا. وهو مزمور من المزامير التسعة المرتبة حسب أحرف الهجاء في كتاب المزامير. كذلك من جهة موضوعه ومحتوياته فهو عام ويتناول فكرة الفداء ويتناسب بهذا المعنى مع المزامير التي كتبت بعد السبي.
(١) يرفع نفسه لأنه يشعر أنه في أسفل وعليه أن ينهض وكذلك يشعر أنه يحتاج أن يصلح ذاته ويترقى. ولا يمكنه أن يصل لغايته بدون الله. و هكذا في العدد (٢) يتمم الطلب ويقول أنه بالاتكال يستطيع ذلك. هو يسندنا فلا نفشل ولا نتراجع وهكذا فإن أعداءنا يغلبون على أمرهم. هو يؤمن إيماناً وطيداً ولذلك يثق ويتكل على إلهه ويتحد به اتحاداً كاملاً.
(٣) في هذا يصل للجواب بأن الذين ينتظرون الرب لا يخزون أبداً. هذا شعور المؤمنين الحقيقيين (انظر رومية ٥: ٥). إن الرجاء هو العين التي بواسطتها يستطيع رجل الإيمان أن يرى لأنه يتطلع بثبات وجلاء في المستقبل. فالمستقبل ليس مخيفاً ولا مجهولاً طالما الله فيه لذلك يصبح منيراً سعيداً ولا نخاف من أي المصاعب والضيقات تعترضنا. وهنا مقابلة بديعة بين أعدائه وبين الله فإن الأعداء الغادرين يتمنون له الهلاك والدمار ولكن الله ينتشله وينجيه ويرد إليه نفسه ويشجعه حتى لا يهاب أي شيء مهما كان. وهنا يطلب نجاته من الذين يغدرون لغير سبب. يلتذون بالأذية ولا سيما إذا كانت في الخفاء بل قد يدعون الصداقة ولكنهم لا يطبقونها ولا يمشون بموجبها في حياتهم اليومية.
(٤) ولأنه في خطر بالنسبة لما هو فيه يطلب من الله أن يهديه في الطريق المستقيم. إن الله قد أعطانا كلامه لنهتدي به ولكننا لا نقدر أن نفهم بدون إرشاده الإلهي. لذلك يطلب المرنم أن يتعلم فيعرف كيف يتصرف في مختلف سبل الحياة ومنعطفاتها في همومها وأحزانها كما في مسراتها وأفراحها. والنور لا يكفي إذا لم يكن لنا النعمة لكي نتبع النور ونبتعد عن الظلام.
(٥) يطلب أن يتدرب في معرفة الحق الذي هو إعلان نعمة الله في قلوب المؤمنين. إن خلاصه هو الرب بل هو إله خلاصه ولا نجاة له إلا به لذلك هو لا يعدم صبراً وانتظاراً وقد يكون حسب الظاهر أن النجاة بعيدة ولكن ليس الأمر كذلك في الحقيقة. ولا نعمة ولا رحمة تصل للإنسان بدون أن تخرج من لدن الله أولاً فهو المحب العطوف علينا فهو يتنازل بأن يرفعنا إليه وينهضنا لنكون معه كل حين.
«٦ ٱذْكُرْ مَرَاحِمَكَ يَا رَبُّ وَإِحْسَانَاتِكَ، لأَنَّهَا مُنْذُ ٱلأَزَلِ هِيَ. ٧ لاَ تَذْكُرْ خَطَايَا صِبَايَ وَلاَ مَعَاصِيَّ. كَرَحْمَتِكَ ٱذْكُرْنِي أَنْتَ مِنْ أَجْلِ جُودِكَ يَا رَبُّ. ٨ اَلرَّبُّ صَالِحٌ وَمُسْتَقِيمٌ، لِذٰلِكَ يُعَلِّمُ ٱلْخُطَاةَ ٱلطَّرِيقَ. ٩ يُدَرِّبُ ٱلْوُدَعَاءَ فِي ٱلْحَقِّ، وَيُعَلِّمُ ٱلْوُدَعَاءَ طُرُقَهُ. ١٠ كُلُّ سُبُلِ ٱلرَّبِّ رَحْمَةٌ وَحَقٌّ لِحَافِظِي عَهْدِهِ وَشَهَادَاتِهِ. ١١ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِكَ يَا رَبُّ ٱغْفِرْ إِثْمِي لأَنَّهُ عَظِيمٌ».
(٦) إن مراحمه عظيمة وقديمة منذ أن يولد الإنسان بل قبل أن يولد وهو في أحشاء أمه فإن عناية الله تظهر حينئذ وتعضد وتشدد. والإحسان هو أن يعطي شيء بدون مقابل سوى المحبة. ونحن لا نستطيع أن نعطي الله شيئاً لذلك فكل ما نناله من يده هو من قبيل الإحسان ليس إلا. ولأن رحمتك وإحسانك قديمان لذلك أرجو يا الله أن تبقيهما نحوي.
وهذا العدد هو مقدمة للتالي لأنه في العدد السابع (٧) يرجو الله لأنه غفور رحيم أن يصفح ويسامح. فإن كانت الخطيئة تقف ضدنا فإن محبة الله ورحمته تقفان معنا وتتشفعان بنا. ولا سيما خطايا أيام الصبا والجهل فإن الإنسان كلما تقدم في السن يجب أن يعود عن طريق الجهل والغواية إلى الرشاد. هي معاصي لأنها في جوهرها تعصى أوامر الله تعالى وتتعدى شرائعه الإلهية والغفران هو أن لا يذكر الله هذه الخطايا. من أجل جودك من أجل رحمتك وهذا باب الغفران الوحيد إذ بدونه لا نجاة لنا ورحمة الرب ومحبته العظيمة ظهرت بالأحرى بصليب المسيح.
(٨) يعلمهم طريق النجاة الطريق الصالحة (أيوب ٣١: ٧) وهنا موضوع التعليم الذي يلتمس من الله أن يعلمه إياه (انظر مزمور ٣٢: ٨ وأمثال ٤: ١١ وأيوب ٢٧: ١١). إن الله يتنازل من أجل الخطاة لكي يعلّمهم الطريق التي تقودهم للحياة وعلينا أن نثق ثقة تامة بما يفعله الله نحونا ونخلص له ولا نحيد عن طريقه قط لكي لا نهلك بل نحيا.
(٩) ذاك من جهة الله وأما من جهة الإنسان فعليه بالوداعة أي قبول الإرشاد والتدريب والامتثال للأمر والخضوع التام لمشيئته تعالى. والودعاء هم اللطفاء بالحق الذين لهم قابلية التعليم. فالرب يريد تلاميذ يصغون للنصح ويقبلونه ويضعونه في قلوبهم للحاضر والمستقبل أيضاً.
(١٠) وهنا تكرار للتوكيد عن سبل الرب. وهؤلاء الودعاء اللطفاء هم الذين يحفظون عهد الله ومواعيده. فكل ما يقوله لهم الله هو حق وعدل إذاً فليس من المستطاع أن ينال الرحمة سوى الذين يسلكون سلوكاً مرضياً ومقبولاً أمام الله. وعلى هذا النحو يختم بالدعاء الحار الذي يلي.
(١١) يطلب غفران الإثم لأنه يشعر بثقل الخطايا عليه. لأجل اسم الرب. وقد علمنا يسوع أن نأتي للآب بواسطته «مهما طلبتم من الآب باسمي…» (انظر إرميا ١٤: ٧ وإشعياء ٤٣: ٢٥) إذاً كم يجب أن يفرح ذلك الشخص الذي يترجى رحمة الله ويقترب إليه بطلب العفو والغفران. وكلما عظمت خطيئتنا عظمت أيضاً محبة الله وغفرانه لكي يمحوها عنا.
«١٢ مَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ ٱلْخَائِفُ ٱلرَّبَّ؟ يُعَلِّمُهُ طَرِيقاً يَخْتَارُهُ. ١٣ نَفْسُهُ فِي ٱلْخَيْرِ تَبِيتُ، وَنَسْلُهُ يَرِثُ ٱلأَرْضَ. ١٤ سِرُّ ٱلرَّبِّ لِخَائِفِيهِ وَعَهْدُهُ لِتَعْلِيمِهِمْ. ١٥ عَيْنَايَ دَائِماً إِلَى ٱلرَّبِّ، لأَنَّهُ هُوَ يُخْرِجُ رِجْلَيَّ مِنَ ٱلشَّبَكَةِ».
(١٢) هنا سؤال وجواب. الخائف الرب هو الذي يتعلم طريق الرب ويسلك فيها. بل يفرح بالذهاب فيها. هو لا يتردد كثيراً في الاختيار ولا يقف محتاراً على مفترق الطرق وفي منعطفاتها ولا يضيع وقته وجهوده في مذل هذا الذهول غير المجدي. لذلك فهو يختار الطريق والرب نفسه يعلمه كيف يسلك فيها. والرب لا يكتفي أن يدله عليها بل يقوده ويهديه لئلا يضيعها مرة ثانية وتكون الضلالة الأخيرة شراً من الأولى. فخائف الرب المتكل عليه لا يطيل الوقت في ضعفه البشري لأنه يتقوى بالله فقط.
(١٣) إن البار يشبه هنا كأنه مسافر يقطع براري الحياة وإذا به يقاد بيد علوية إلى ملجأ الخير وهناك يبيت ليلته هانئاً مطمئناً. قد يصادفه الشر مصادفة ولكنهه يهرب منه ويتغلب عليه أخيراً وأما مكوثه الطويل ففي البر والصلاح. ولأنه كذلك فإن نسله موفقون سعداء وأولاده وأحفاده وذراريه لهم العز والكرامة لهم المقام العالي والصيت الحسن بين الناس. أمور كثيرة قد تزعجنا وتكدرنا ولكن لنا رحمة الله فيه وحدها يجب أن تكفينا وحينئذ يذهب كل انزعاجنا ويضمحل كالبخار.
(١٤) هنا صورة لطيفة للعلاقة الكائنة بين الله والبار فهي علاقة قلبية سرية وليست بالأولى علنية وفي الظاهر فقط. وإذاً فإن ماء الحياة عنده ينبع من خفايا الله غير المنظورة ويهمه السريرة. ويجد في عهد الله ووصاياه سبيلاً للتعليم. والتعليم هنا ليس لأمور عقلية فحسب بل ذلك التعليم الاختباري الذي يفهمه شعب الله كلما مرت بهم السنون يزدادون معرفة وورعاً وتقوى. إنه لعهد مجيد عميق ووافر الغنى لأنه يفيد الإنسان هذه الفائدة العظيمة.
(١٥) من عيناه دائماً نحو الرب فهو إذا يتعبد له ويتخشع أمامه. فهو دائماً في موقف الصلاة التي لا تذهب ضياعاً. وهذه المرة نجد غرض العبادة أن الله يخرج أرجلنا من شبكة الأعداء التي نصبوها لكي يوقعونا فيها. هو الذي يستطيع ويريد أن ينجينا من شبكة التجارب التي تعترض سبيلنا. وهذه الشبكة هي ليست من وضعه ولا من ترتيبه ولكنها موجودة لا شك. والذين هم في هذه الحالة يبتعد عنهم الأصحاب والخلان ويتركونهم ولا يبقى لهم ملجأ سوى إلههم. لذلك يجلسون وحدهم ويبكون ويتذكرون أموراً سالفة (مراثي ٣: ٢٨).
«١٦ اِلْتَفِتْ إِلَيَّ وَٱرْحَمْنِي لأَنِّي وَحْدٌ وَمِسْكِينٌ أَنَا. ١٧ اُفْرُجْ ضِيقَاتِ قَلْبِي. مِنْ شَدَائِدِي أَخْرِجْنِي. ١٨ ٱنْظُرْ إِلَى ذُلِّي وَتَعَبِي وَٱغْفِرْ جَمِيعَ خَطَايَايَ. ١٩ ٱنْظُرْ إِلَى أَعْدَائِي لأَنَّهُمْ قَدْ كَثُرُوا. وَبُغْضاً ظُلْماً أَبْغَضُونِي. ٢٠ ٱحْفَظْ نَفْسِي وَأَنْقِذْنِي. لاَ أُخْزَى لأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. ٢١ يَحْفَظُنِي ٱلْكَمَالُ وَٱلٱسْتِقَامَةُ لأَنِّي ٱنْتَظَرْتُكَ. ٢٢ يَا اَللّٰهُ ٱفْدِ إِسْرَائِيلَ مِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ».
(١٦) يلتمس من الرب أن لا يهمله ولا يتخلى عنه بل يلتفت إليه (راجع مزمور ٨٦: ١٦ ولاويين ٢٦: ٩) وذلك لأنه يشعر بالوحدة والانفراد والناس لا يهمهم أن يكون لهم أي علاقة به. لمن يشكو همومه؟ لمن يبث لوعته ويطلعه على حالته السيئة؟ لله وحده الذي يستطيع أن يسمع كل شكواه ويصغي لصلاته ودعائه.
(١٧) وبالعبرانية تفيد كلمة «أفرج» الرحب والسعة أي أن يكبر الله نفسه حتى يستطيع أن لا ينحصر في الضيقات بل يسمو عليها ويتركها جانباً (انظر ٢ملوك ٨: ٦ وقابل مع مزمور ١٠٩: ٦ و٢كورنثوس ٦: ١١) إن شعوره بالخطيئة هي التي جعلته في ضيق قلبي. وهو يلتمس أن يخرج من الشدائد فهي ثقيلة الوطأة عليه حتى لا يستطيع معها الحركة.
(١٨) أما ذلّه فهو بسبب حالته السيئة وأما تعبه فبسبب كثرة جهاده لكي يتغلب على الصعوبات التي يجتازها. ولذلك فهو يلتمس غفران الخطايا.
(١٩) لا سيما يلتمس من الله أن ينقذه من أولئك الأعداء المبغضين الظالمين الذين يبدأون بالظلم وينتهون به. فهم يظلمون بأفكارهم وبأفعالهم أيضاً. وهو لا يريد أن ينتقم منهم بل يترك ذلك للرب.
(٢٠) لذلك يلتمس من الرب أن يحفظ نفسه وينجيه من كل شر. ويلتمس من الله أن لا يفشل (انظر ١أخبار ٢١: ١٣). ولأنه يتكل على إلهه لذلك فلا يتزعزع ولا يمكن لهؤلاء الأعداء أن يطالوه بسوء.
(٢١) إن أساس الحفظ هو ما فيه من كمال واستقامة. والإنسان الكامل هو المخلص لله بالسر والعلن ويتمم مشيئة الرب في حياته اليومية. أما الاستقامة فهي السلوك بدون عوج والتواء. هو قريب أن يصلح نفسه ويعود عن غيه. هو ملتمس وجه الرب دائماً يستنير بالنور الداخلي لكي يستمر على سيره في هذه الحياة ويصل أخيراً للأحضان الأبدية. وكإنما الكمال والاستقامة ملاكان صادران من عند الله ويخدمانه بتخليص شعبه.
(٢٢) وهنا يختم المرنم بدعاء ليس لذاته الضيقة بل ينساها تماماً ويسمو عليها ويمتد ببصره إلى إسرائيل كشعب الله. وهكذا يعبر عن ضيقات الشعب كله وفي الوقت ذاته يلفت نظرهم أنه لا خلاص لأحد منهم إلا برحمة الله ولطفه. وما أجمل كلمة الفداء هنا فإنه يعطي شركة الله في ضيقة شعبه فهو معهم دائماً إذا كانوا معه.
السابق |
التالي |