سفر المزامير | 19 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ عَشَرَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
«١ اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. ٢ يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَماً، وَلَيْلٌ إِلَى لَيْلٍ يُبْدِي عِلْماً. ٣ لاَ قَوْلَ وَلاَ كَلاَمَ. لاَ يُسْمَعُ صَوْتُهُمْ. ٤ فِي كُلِّ ٱلأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ، وَإِلَى أَقْصَى ٱلْمَسْكُونَةِ كَلِمَاتُهُمْ. جَعَلَ لِلشَّمْسِ مَسْكَناً فِيهَا»
في هذا المزمور يوجه المرنم نظر القارئ إلى وسيلتين بهما نتوصل لمعرفة الله. الأولى النظر للسماء والنجوم والأفلاك. والثانية النظر إلى شريعة الله ووصاياه ونواميسه. نعم إن الطبيعة وهي كتاب الله المفتوح تشبه لنا وجوده تعالى ولكن كتابه وحده هو الذي يخبرنا عن مشيئته ويعلّمنا كيف نسلك في هذه الحياة.
(١) السموات هي الفلك وما يحويه وأما الفلك فهو رقيع الجلد الأزرق وهنا تكرار من قبل التوازن ليس إلا ولا يريد المرنم أن يبحث في الفروقات بين الاثنين بل يهمه أن يخبر أن النظر للسماء يلهم الناظر أن يرى الله فيه. وهذه السموات تعلّمنا وتحدثنا بعمل يدي الله العلي الذي صنع كل شيء بحكمة تفوق العقول.
(٢) اليوم يقصد به الأرجح النهار فإن للنهار خدمته مما ترسله الشمس من شعاع ينعكس على الكائنات فترى جمالها وألوانها وذلك فإن الليل بقمره ونجومه يوحي للراصدين أعظم المعاني وأجمل الصور. وكلا الليل والنهار يتممان رسالتهما بدون صوت ولا كلام بل بهدوء وسكون. وهذا القول أو الكلام لا ينتمي إلى أي لسان خاص أو أية أمة خاصة ومع ذلك فهو مفهوم من كل الشعوب والألسنة.
(٣) إذاً هو كلام وفي نفس الوقت ليس بكلام. وهو حديث للإنسان ولكنه ليس من إنسان بل من الخالق العظيم الذي أبدع هذه الكائنات. هو حديث بغير كلام إذ هو أعلى من الكلام ولا يستطيع الكلام أن يعبر عن العواطف التي تختلج فينا فإن هذا حقيقي حينا نكون في روعة أو جلال.
(٤) وقد لاحظ المرنم هذا الدوران المتواصل في الفلك فقال إن منطقهم قد خرج إلى أقصى المسكونة وهكذا كلماتهم. الشمس تسكن في هذه السموات وليس فقط تدور كما تفعل بقية النجوم لأنها هي نبع الحياة وبدونها لا يمكن أن يعيش أي الأحياء من نبات أو حيوان.
«٥ وَهِيَ مِثْلُ ٱلْعَرُوسِ ٱلْخَارِجِ مِنْ حَجَلَتِهِ. يَبْتَهِجُ مِثْلَ ٱلْجَبَّارِ لِلسِّبَاقِ فِي ٱلطَّرِيقِ. ٦ مِنْ أَقْصَى ٱلسَّمَاوَاتِ خُرُوجُهَا، وَمَدَارُهَا إِلَى أَقَاصِيهَا، وَلاَ شَيْءَ يَخْتَفِي مِنْ حَرِّهَا. ٧ نَامُوسُ ٱلرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ ٱلنَّفْسَ. شَهَادَاتُ ٱلرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ ٱلْجَاهِلَ حَكِيماً».
(٥) إن العروس أو العريس (المذكر) له احتفالاته الخاصة في وقت الزفاف فتحمل أمامه المشاعيل ويرافقه الأصدقاء والأقارب بكل بهجة وأبهة إلى بيت عروسه حيثما يعود بها إلى مكان الإكليل وهذا ما يسمى (الزفة). وكان الأقدمون يحسبون السيارات الدائرة حول الشمس كأنها وصائف وأخدان لخدمتها وهكذا حسب الشمس كأنها خارجة إلى زفافها اليومي وهي تشرق بأنوارها الساطعة على العالمين. بل يجتاز من ذلك إلى القول بأنه كالجبار المسرع في جريه للسباق كإنما يتسابق مع الناس في انصراف النهار فلا تكاد تشرق الشمس حتى تغيب ولا تكاد تغيب حتى تشرق من جديد في يوم آخر (راجع أيوب ٣٨: ٣١ و٣٢).
(٦) ويصف مدى دورانها اليومي المعتاد والذي هو عجيبة أبدية قلما نحفل بها أو نعيرها أقل اهتمامنا. وهي تطال كل مكان وتملأه بالنور والحرارة إذ لا حياة ولا لون ولا جمال بدونها. ولفظة الشمس مع أنها في العربية مؤنث هي في العبرانية والآرامية مذكر بوجه العموم.
وفي العدد (٥) الحجلة هي تلك القبة التي تصنع خصيصاً للعروسين وقت الإكليل لذلك فالعروس يخرج من حجلته هذه بتمام الجلال والجمال والكلمة بالعبرانية تأتي من «حفّ» أي تعتبر القبة والقوم الذين يحفون بالعروسين ويحتفون بهما.
(٧) وهنا يأتي للقسم الثاني من هذا المزمور وهو الحديث عن ناموس الرب هو «كامل» لا خطأ فيه لذلك يمكن أن يعتمد عليه في هدايتنا إلى الصواب. والنفس قد تبتعد وتقع في الشطط وتحتاج إلى ما يردعها ويرجعها ولا شيء يفعل ذلك سوى هذا الناموس الإلهي السديد. والشهادات هنا معناها التحذيرات والتنبيهات والمواعظ التي تجعلنا نفهم وندرك العواقب. وهي صادقة لا تغشنا قط لأنها تحوي الاختبارات التي تزيد الحكيم حكمة وتجعل الجاهل الذي يتبنى الحكمة أن يصير حكيماً أيضاً. ويمكن ترجمة «صادقة» أمينة أي يمكن الوثوق بها فهي محققة وثابتة وليست من قبيل الكلام يلقى على عواهنه بل كلام الحق الأبدي.
«٨ وَصَايَا ٱلرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ ٱلْقَلْبَ. أَمْرُ ٱلرَّبِّ طَاهِرٌ يُنِيرُ ٱلْعَيْنَيْنِ. ٩ خَوْفُ ٱلرَّبِّ نَقِيٌّ ثَابِتٌ إِلَى ٱلأَبَدِ. أَحْكَامُ ٱلرَّبِّ حَقٌّ عَادِلَةٌ كُلُّهَا. ١٠ أَشْهَى مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلإِبْرِيزِ ٱلْكَثِيرِ، وَأَحْلَى مِنَ ٱلْعَسَلِ وَقَطْرِ ٱلشِّهَادِ. ١١ أَيْضاً عَبْدُكَ يُحَذَّرُ بِهَا، وَفِي حِفْظِهَا ثَوَابٌ عَظِيمٌ».
(٨) هي مستقيمة لأنها تعني أسمى الأفكار وتتضمن دائماً خير الجنس البشري لذلك على هذا القلب أن يفرح بها (راجع ٢تيموثاوس ٣: ١٥). وهي مستقيمة لأن مشيئة الله صالحة دائماً. ويجب أن يفرح القلب بها لأنها تعزيه في الضيقات وتنير له الطريق في التجارب. أمره طاهر أي لا شيء من الأنانية فيه فهو يأمرنا من أجل خيرنا فقط وليس ليتمجد هو بل لنترقى ونتهذب نحن. لذلك فعلينا أن نفتح عيوننا وننظر إلى ما حولنا ونسترشد ولا نبقى في ظلمة قط. يقود باليد ويسدد الخطى وينبه الضمير.
(٩) خوف الرب أي هيبته ووقاره يجب أن تملأ قلوبنا هو نقي لأنه ليس لإرهابنا بل لتهذيبنا وهو ثابت لأنه لا يمكن أن يتزعزع لجهالة بعض الجاهلين الذي يكفرون بالله ويعصون أوامره وهو يطيل أناته عليهم ويحتملهم. وهؤلاء إذا لم يخافوا الله الآن فسوف يخافونه يوم الدين حينما تقدم كل نفس جزاء ما فعلت إن خيراً فخيراً أو شراً فشراً. و «أحكامه» أي ما يأمر به ويقضي علينا هو العدل بعينه وخوف الرب معنا. التدين بعينه أي أن نكون على أنفسنا رقباء ونلاحظ سيرنا بحسب ما يأمر به الدين.
(١٠) وإذا كانت كذلك فيجب أن يطلبها الإنسان ويشتهيها لأن العقل يقضي بها الذهب هو المال وأثمن ما يقتنيه الإنسان وأجمله والإبريز هو الذهب الخالص وتكراره من قبيل التوكيد والمبالغة.
وكذلك هي لذيذة لأنه يشبهها بأحلى شيء عرفه الإنسان القديم أي العسل. وقطر الشهاد هو ما ينفثه الشهد من كثرة ما هو مملوء به دون ضعط أو كبس عليه. وهكذا فإن كلام الله لذيذ الطعم ولكن على شرط أن نأكله. ولا نستفيد معرفة بالعسل وشهده إن سمعنا سماعاً بلذة طعمه بل علينا أن نستطعمه نحن وهكذا كلام الله علينا أن نقرأه نحن.
(١١) ويلخص كلامه عن هذه الشريعة بأنها موضوعة للتحذير والتنبيه كأنها تنادينا لنا لكي نقبل إليها ونسترشد بأنوارها. وهنيئاً لمن يحفظها ويتمشى بموجب تعاليمها وحينئذ يكون الجزء عظيماً على نسبة عظمة هذا الاهتداء.
«١٢ اَلسَّهَوَاتُ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا! مِنَ ٱلْخَطَايَا ٱلْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي. ١٣ أَيْضاً مِنَ ٱلْمُتَكَبِّرِينَ ٱحْفَظْ عَبْدَكَ فَلاَ يَتَسَلَّطُوا عَلَيَّ. حِينَئِذٍ أَكُونُ كَامِلاً، وَأَتَبَرَّأُ مِنْ ذَنْبٍ عَظِيمٍ. ١٤ لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ، صَخْرَتِي وَوَلِيِّي».
(١٢) لأن الشريعة هي ليست نسخة طبق الأصل عن المشيئة الإلهية بل هي مرآة تعكس ذات الإنسان أيضاً. وهكذا من ينظر في هذه المرآة يجب أن يعرف نفسه وعليه أن يصلي لكي ينقيه الله من كل السهوات التي لم يقترفها عمداً بل لعدم تقديره الحق في مشيئته تعالى. والمرنم يلتمس أن يبرأ حتى من الخطايا التي لا يراها الناس ولكن الله يراها.
(١٣) والمتكبرون هم الخطاة الذين يفخرون بخطاياهم ويتواقحون على الله ويدعون الكمال. وهؤلاء لهم سلطتهم أما من جهة عقلية فلهم العلم ربما المعارف أو من جهة مدنية فلهم المقام الاجتماعي والنفوذ لذلك نتهيبهم ونستحيي منهم ويؤثرون علينا التأثير السيء. بل قد يكون لهم أكثر من التأثير علينا فيتسلطون علينا ويتحكمون بنا كما يشاؤون. وهكذا حينما أحفظ الوصايا تماماً وأتوقى السهوات وأنجو من سلطة المستكبرين المستهترين الذين لا يرعون حرمة الدين أصبح عندئذ كاملاً لا غبار على الخلق الذي أتخلق به وأنجو وأسلم. فهو يريد أن يحتفظ بعلاقة وثيقة مع الله ولا يريد أن يسمح لأي الخطايا أو السهوات أن تقف حاجزاً عن الرضا الإلهي.
(١٤) وأخيراً يلتمس المرنم أن يكون قد أحسن أداء التسبيح والسجود لله بالفم كما أنه قد أحسن الخلوص له تعالى بالقلب فينال الرضا التام وحسن القبول. وشفيعه في ذلك هو إيمانه الحي بإلهه. والصلاة بكمال معانيها يجب أن تحوي الاثنين اي ظاهر التعبد الذي يذيعه هذا الفم العجيب من هذا الإنسان الحيوان الناطق وينضم مع هذا هو فكر القلب والنية المخلصة لأن هذه هي الأساس لتلك وبدونها فاللسان وحده لا ينفع شيئاً بل يتحول من آلة التسبيح والحمد إلى آلة تضرم من جهنم. والله هو الصخرة التي عليها يرتكز في حياته وهو الولي في كافة أموره لأنه مهما بلغ من كمال يظل ضعيفاً قاصراً إلى أن ينور الله عليه بنوره ويكلأه بعنايته وحينئذ يتم كل الوصايا ويفهم يقيناً كيف يتعبد.
السابق |
التالي |