سفر المزامير

سفر المزامير | 09 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ

لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. عَلَى «مَوْتِ ٱلٱبْنِ». مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ ولكن ديلتش يقول: ترنيمة للقاضي البار بعد انكسار الشعوب المعادية. ولايوجد ذكر لموت ابن قط.

«١ أَحْمَدُ ٱلرَّبَّ بِكُلِّ قَلْبِي. أُحَدِّثُ بِجَمِيعِ عَجَائِبِكَ. ٢ أَفْرَحُ وَأَبْتَهِجُ بِكَ. أُرَنِّمُ لٱسْمِكَ أَيُّهَا ٱلْعَلِيُّ. ٣ عِنْدَ رُجُوعِ أَعْدَائِي إِلَى خَلْفٍ يَسْقُطُونَ وَيَهْلِكُونَ مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ، ٤ لأَنَّكَ أَقَمْتَ حَقِّي وَدَعْوَايَ. جَلَسْتَ عَلَى ٱلْكُرْسِيِّ قَاضِياً عَادِلاً».

(١) إن العنوان «موت الابن» لا يدل قط على موضوع المزمور بل الأرجح هنا إشارة للحن ليس إلا. إذ المزمور يتناول موضوع تمجيد الرب لانتصاره على أعدائه.

الأرجح أنه مزمور وضع للابتهاج بانتصار أحرزه داود على أعداء الله وأعدائه. ويبدأ كل قسم من العددين الأولين بهمزة الوصل. يود المرنم أن يبتهج بكل جوارحه بهذا الحمد الذي يتلوه بل يود أن يحدث بجميع العجائب التي أجراها الرب وتممها.

(٢) قد يكون نظمه بمناسبة الحادثة المذكورة (٢صموئيل ٦: ٨). وقوله العلي هو نعت لاسم الله وليس كما ذهب البعض اسم علم للعزة الإلهية.

(٣) حينما نذكر حادثة رحمة جرت لنا في الوقت الحاضر علينا أن نذكر أيضاً مراحم كثيرة سابقة لأنه الله يديم مراحمه علينا ولا ينسانا.

(٤) يعطي المجد لله في الانتصار على الأعداء فالفضل بذلك كله لله. هو القاضي والحاكم بين البشر ما يشاؤه يكون وما لا يشاؤه فهو باطل من أساسه. علينا أن نعتمد على قضاء الله وعدله في الأحكام إذ نحن لا نستطيع أن نفهم أعماله كلها وعلينا أن نكتفي بالخضوع والطاعة فقط. قد ينسى المُساء إليه ولكن لا ينسى الله فهو بنفسه يقيم الدعوى على المسيء ويحكم عليه ويؤدبه على نسبة أفعاله الرديئة وهو قد يبطئ ولكنه أكيد سيأتي وسيفعل كل شيء في حينه.

«٥ ٱنْتَهَرْتَ ٱلأُمَمَ. أَهْلَكْتَ ٱلشِّرِّيرَ. مَحَوْتَ ٱسْمَهُمْ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ. ٦ اَلْعَدُوُّ تَمَّ خَرَابُهُ إِلَى ٱلأَبَدِ. وَهَدَمْتَ مُدُناً. بَادَ ذِكْرُهُ نَفْسُهُ. ٧ أَمَّا ٱلرَّبُّ فَإِلَى ٱلدَّهْرِ يَجْلِسُ. ثَبَّتَ لِلْقَضَاءِ كُرْسِيَّهُ، ٨ وَهُوَ يَقْضِي لِلْمَسْكُونَةِ بِٱلْعَدْلِ. يَدِينُ ٱلشُّعُوبَ بِٱلٱسْتِقَامَةِ».

(٥) يشير المرنم على ما يظهر إلى حادثة خلاص خاصة كتلك المذكورة في (٢صموئيل ٢٢). إن الله قد رفض شاول وأخذ لنفسه داود ورفعه إلى عرش إسرائيل بعد أن باد كل سلالة شاول تقريباً. وهكذا كان داود وسيلة للانتصار على الأمم المجاورة التي حاربها وانتصر عليها. وتم على يده إخضاع كل عدو خرب مدن إسرائيل أو حاول تخريبها. وقد كان عمل داود الحربي موفقاً إلى درجة بعيدة حتى انمحت هذه الأمم عن بكرة أبيها ولم يبق سوى ذكر ضئيل. كالعمونيين والعمالقة (١صموئيل ٨: ١٢).

(٦) كذلك في العدد السادس يوجد توكيد لما ورد في العدد الخامس السابق. وأعداء الله هم أعداء داود كما أن أعداء داود يحسبهم أعداء الله. وهكذا فإن أولئك الملوك العظام مع أمم شهيرة قد هدمت مدنهم وأصبح كل شيء خراباً بل أن السكان أنفسهم قد بادوا. وقد كان يسمح في شريعة الحرب في تلك الأيام أن يحرموا السكان حتى النساء والأطفال وهذا من الفظاعة والهول بمكان عظيم. ويظهر أن التاريخ يعيد نفسه اليوم وقد أصبحت الحروب الحديثة بما فيه من طائرات وقاذفات وقنابل ذرية تتناول المدنيين كما تتناول العسكريين على السواء.

(٧ و٨) وما أجمل المقابلة هنا فالعدو يذهب ولكن الله يبقى الأمم تمحى وتباد ولكن الله يجلس ويثبت كرسيه إلى الدهر. ولنا من هذا بعض الأفكار:

  1. إن الله أبدي الأيام.
  2. وله السلطة والقضاء على كل شيء.
  3. وهو العادل البار وكل تدبيراته هي بملء الحكمة ولا استثناء في ذلك البتة.
  4. ويتضمن القول عناية خاصة بشعبه المختار.

إن مجد الأمم وملوكها زائل لا محالة حتى أعظم الفاتحين والغزاة هم كالعشب يظهر قليلاً ثم يضمحل. ولكن الله الساكن في صهيون هو وحده يبقى متسربلاً بالمجد والجلال ويجلس حسب فكر المرنم في كرسي الرحمة فوق تابوت العهد في الهيكل. وهكذا فإن الخطاة من شعبه يستطيعون أن يقبلوا إليه بتقديم فروض العبادة والذبائح المختلفة وهو يقبلهم لأنه يعطي الخلاص وحينئذ عليهم أن يقدموا له المديح والثناء ويتعلموا أن يطلبوا وجهه ويخدموه.

«٩ وَيَكُونُ ٱلرَّبُّ مَلْجَأً لِلْمُنْسَحِقِ. مَلْجَأً فِي أَزْمِنَةِ ٱلضِّيقِ. ١٠ وَيَتَّكِلُ عَلَيْكَ ٱلْعَارِفُونَ ٱسْمَكَ. لأَنَّكَ لَمْ تَتْرُكْ طَالِبِيكَ يَا رَبُّ. ١١ رَنِّمُوا لِلرَّبِّ ٱلسَّاكِنِ فِي صِهْيَوْنَ. أَخْبِرُوا بَيْنَ ٱلشُّعُوبِ بِأَفْعَالِهِ. ١٢ لأَنَّهُ مُطَالِبٌ بِٱلدِّمَاءِ. ذَكَرَهُمْ. لَمْ يَنْسَ صُرَاخَ ٱلْمَسَاكِينِ».

(٩) كلمة ملجأ العبرانية «משגכ» تفيد معنى مكان مرتفع حصين. لا يزداد المعنى جمالاً بقوله هو ملجأ المنسحق الذي لا ملجأ له ولا معين. قد لا يظهر الله بعض الأحيان أنه مخلّص شعبه من كل ضيقاتهم ولا يظهر كأنه ينتقم لهم من أعدائهم. ولكن هنا مجال الإيمان يجب أن نؤمن بذلك ونتيقنه مهما ادلهمت الأحوال حولنا وتكاثرت الضيقات وحينئذ نشعر بتلك الطمأنينة المسكنة للنفوس.

(١٠) ولا يكفي أن نلتجئ إلى الله هاربين من الأعداء حولنا بل علينا أن نتكل عليه أيضاً. فليس المهم أن نختبئ بصورة سلمية بل أن نفعل بصورة إيجابية. وقوله العارفون اسمك أي المعترفون به جهاراً لا يخجلون من إذاعة فضله ونشر عوارفه المتواصلة لنا أجمعين. وهؤلاء المتكلون يصوّرهم أنهم يطلبون الله ويسيرون وراءه يفتشون عنه ويقرأون أسرار محبته وعظمته في كل ظواهر الحياة حولهم. إن فضل الله عميم ونعمته شاملة فمن جهته تعالى هو ذات الشيء للجميع ولكن يتوقف تمتعنا بنعمته على مقدار ما نأخذ منا. لا ذنب للشمس إذا لم تصل أشعتها للغرفة طالما الأبواب والنوافذ مقفلة علينا أن نفتحها لتدخل إلينا بنورها المحيي وحرارتها المنعشة. كلما اتكلنا على الرب كلما وجدنا أن اتكالنا كان في محله فهو الآب الأبدي الذي لا يتخلى عن أولاده المتكلين عليه والراجين رحمته.

(١١) هنا يمتلئ قلب المرنم بالشعور العميق ويشرع بالترنيم بل يطلب من الآخرين أن يرنموا أيضاً. هو شيء طبيعي إنه حينما نكون متأثرين بأية العواطف إن في الفرح أو الحزن إن في الفرج أو الضيق فإننا نحس بالموسيقى تنعشنا والترنيم يقلل همومنا. ولا يكفي أن نترنم سراً في صهيون حيثما الرب يسكن بل أن نرفع صوتنا عالياً ونخبر بما فعله الرب لنا من عظائم. كثيرون ينالون الفضل ولكن قلما يذكرون فلا يكن ذلك في المؤمنين علينا أن نخبر ونعيش شاكرين.

(١٢) لا بد للديان العادل من أن يدين العالمين. هو يطالب الحق الذي ديس والدم المراق والإثم الذي اقترف. منذ الخليقة حينما قال الله لقايين «أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ ٱلأَرْضِ» (راجع تكوين ٤: ٨ وأيضاً تثنية ٣٢: ٤٣ وأيضاً إشعياء ٢٦: ٢١ وأيضاً إرميا ٥١: ٣٥).ٍ إن الحياة كلها والروحية منها بالأخص مرتبطة بنظام لا تتعداه فكل من يخالفه يعاقب.

«١٣ اِرْحَمْنِي يَا رَبُّ. ٱنْظُرْ مَذَلَّتِي مِنْ مُبْغِضِيَّ، يَا رَافِعِي مِنْ أَبْوَابِ ٱلْمَوْتِ. ١٤ لِكَيْ أُحَدِّثَ بِكُلِّ تَسَابِيحِكَ فِي أَبْوَابِ ٱبْنَةِ صِهْيَوْنَ، مُبْتَهِجاً بِخَلاَصِكَ. ١٥ تَوَرَّطَتِ ٱلأُمَمُ فِي ٱلْحُفْرَةِ ٱلَّتِي عَمِلُوهَا. فِي ٱلشَّبَكَةِ ٱلَّتِي أَخْفَوْهَا ٱنْتَشَبَتْ أَرْجُلُهُمْ. ١٦ مَعْرُوفٌ هُوَ ٱلرَّبُّ. قَضَاءً أَمْضَى. ٱلشِّرِّيرُ يَعْلَقُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. (ضَرْبُ ٱلأَوْتَارِ). سِلاَهْ».

(١٣ و١٤) هنا ينصرف المرنم للصلاة وينتظر الرحمة من الله. أما ديلتش فلا يرى في هذين العددين صلاة بل متابعة طبيعية للموضوع ذاته. على كلٍّ فإن المرنم يلتمس أن ينقذ من لجة الموت أو هاويته ويرفع قبل أن تطبق عليه ويبتلع. لقد كانت الكنيسة في تاريخها مرات كثيرة مشرفة على أبواب الموت ولكن شكراً للمخلص الذي قال «وأبواب الجحيم لن تقوى عليها». وفي العدد الرابع عشر يذكر المرنم الغرض من هذا الخلاص وهو أن يحدث بمراحم الله ويذكر إحساناته العميقة. يطلب أن يرفع من أبواب الموت لكي يقف في أبواب أورشليم وشتان بين وقوف ووقوف. كان ساقطاً في الحفرة السفلى وإذا به يلتمس أن يرتفع للعلى. وذكر الأبواب هنا لأنها أول ما يرى ولا تزال العادة في بلاد المشرق أن يجلس الشيوخ على أبواب المدينة للحديث والمسامرات. والقصد أن الله يرفعه من ذلك ووحدته إلى الابتهاج والاجتماع مع جمهور الناس فرحاً بالخلاص. وهنا يطلب المرنم مجد الله وليس مجد نفسه إذ قصده أن يسبّح مبتهجاً بخلاص الرب.

(١٥) هؤلاء الأمم عملوا حفرة ولكنهم سقطوا فيها على حد المثل «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها». قال الدكتور كلارك «لا شيء يفعله الشرير وهو ليس ضد نفسه». إن الشر يصيب الشرير أولاً مهما حاول التهرب منه. يظهر أحياناً أن الشرير كإنما يستطيع أن يتغلب على مقاصد الله فيسرح ويمرح غير حاسب لشيء حساباً. ولكن هل هذا صحيح الآن؟ وهل سيبقى كذلك دائماً. يصوّر المرنم أن الشرير سقط في حفرته وكذلك نشبت رجله في الشبكة نفسها التي نصبها لغيره. فبدلاً من أن يصيد أصبح فريسة.

(١٦) ذلك لأن الرب سيقضي القضاء العادل على كل إنسان. وهو معروف أو معرّف نفسه (قابل حزقيال ٣٨: ٢٣) وإن الشرير ينال الجزاء الذي جنته يداه فهو فكر وارد في (أيوب ٣٤: ١١ وكذلك إشعياء ١: ٣١).

وينتهي العدد بموسيقى ضرب أوتار ثم سلاه.

«١٧ اَلأَشْرَارُ يَرْجِعُونَ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ، كُلُّ ٱلأُمَمِ ٱلنَّاسِينَ ٱللّٰهَ. ١٨ لأَنَّهُ لاَ يُنْسَى ٱلْمِسْكِينُ إِلَى ٱلأَبَدِ. رَجَاءُ ٱلْبَائِسِينَ لاَ يَخِيبُ إِلَى ٱلدَّهْرِ. ١٩ قُمْ يَا رَبُّ. لاَ يَعْتَزَّ ٱلإِنْسَانُ. لِتُحَاكَمِ ٱلأُمَمُ قُدَّامَكَ. ٢٠ يَا رَبُّ ٱجْعَلْ عَلَيْهِمْ رُعْباً، لِيُعْلَمَ ٱلأُمَمُ أَنَّهُمْ بَشَرٌ. سِلاَهْ».

(١٧ و١٨) هنا تكرار وتوكيد للمعنى الوارد في العدد السابع وما يليه. فالأشرار نصيبهم الموت أو الرجوع للهاوية والتراب (انظر تكوين ٣: ١٩) هم ينسون الله ويعيشون بدونه بينما في العدد الثامن عشر فالله لا ينسى الراجع إليه بل هو رجاء ثابت أكيد (انظر إشعياء ١٩: ٢٢).

يشجع المرنم شعب الله أن ينتظروا الرب أكثر وأن يصبروا له ولا يتذمروا من حالة هم فيها على رجاء حالة أفضل سيكونون فيها في المستقبل.

(١٩) يطلب أن تكون العزة لله وليس للإنسان مهما شمخ وتكبر وعظم. يود المرنم أن يرى الله يظهر قوته وجبروته فلا يسود الأشرار بل يخضعون لله العلي. لأنه إذا اعتز الإنسان أذل أخاه الإنسان واستعبده ولكن إذا اعتز الله في قلوب الناس أصبحوا أسياداً على أنفسهم بالحق وأحراراً. إن خير البشرية يتوقف على مقدار ما تستطيع أن تتذلل به أمام الله وبالعكس فإن الشر كله حينما ننسى الله. وقوله «قم يا رب» مأخوذة عن موسى (راجع عدد ١٠: ٣٥).

(٢٠) كذلك فالمرنم يطلب من الله أن يرعبهم ويخيفهم. إذا عاشوا بدون هيبة الله وسلطته عاثوا في الأرض فساداً ليس إلا. والإنسان يجب أن يعيش لا يعيث. وهنا بذور فكرة أن الله هو ديان العالمين. فالرعب هو الخوف الشديد (انظر ملاخي ٢: ٥) والقصد هو أن يعلموا أنهم بشر لا أكثر ولا أقل. إن كثيراً من الويلات مسببة لأن الناس يحسبون أنفسهم أكثر من عامة البشر أو أقل منهم. وهكذا نجد التفرقات العرقية والجنسية ومحاولة التفاوت وبسط السيادة باسم قومية أعلى من أخرى. ولكن الله واحد وقد خلق البشر من أبوين أولين والفروقات بين البشر طفيفة جداً وعليهم أن يشعروا بالأخوة البشرية ويعملوا في سبيلها وإلا يلقى عليهم رعب الديان العادل الذي سيطالهم ولو بعد حين.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى