سفر المزامير

سفر المزامير | 10 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلْعَاشِرُ

«١ يَا رَبُّ، لِمَاذَا تَقِفُ بَعِيداً؟ لِمَاذَا تَخْتَفِي فِي أَزْمِنَةِ ٱلضِّيقِ؟ ٢ فِي كِبْرِيَاءِ ٱلشِّرِّيرِ يَحْتَرِقُ ٱلْمِسْكِينُ. يُؤْخَذُونَ بِٱلْمُؤَامَرَةِ ٱلَّتِي فَكَّرُوا بِهَا. ٣ لأَنَّ ٱلشِّرِّيرَ يَفْتَخِرُ بِشَهَوَاتِ نَفْسِهِ، وَٱلْخَاطِفُ يُجَدِّفُ. يُهِينُ ٱلرَّبَّ. ٤ ٱلشِّرِّيرُ حَسَبَ تَشَامُخِ أَنْفِهِ يَقُولُ: لاَ يُطَالِبُ. كُلُّ أَفْكَارِهِ أَنَّهُ لاَ إِلٰهَ».

(١) إن الترجمة السبعينية تضم هذا المزمور مع المزمور التاسع وتجعلهما واحداً. أما التوراة العبرانية فتترك كل واحد على حدة ولا شك أن موضوع وتركيب الواحد يختلف عن الآخر اختلافاً كبيراً. يتساءل المرنم بعاطفة عظيمة لماذا يحجب الله نفسه في الشدائد كإنما يقف بعيداً ولا يلتفت للمسكين ولا يسمع صراخه. وهكذا فهو يعبّر عن تعلق شديد بالله الذي تفقده في كل حين ولا سيما في أزمنة الضيقات. ولكن هل الله بعيد؟ أم نحن الذين نبتعد عنه ليس إلا إذ نحن الذين نفقده بعدم إيماننا ثم ندعي أن الله يبتعد عنا.

(٢) لا شيء كالكبرياء تجعل الشرير يتوغل في شره ولا يحيد عنه إذ يفسد القلب ويتحجر الضمير. فالمتكبر الشرير يحسب أنه لا يحتاج لله وبالتالي لا يحتاج للتدين لأنه يعتقد بأن ذلك يحط من قدره كإنسان. فهو يتوغل في شره حتى يحرق الشرير به ولكن لا بد أن ما دبره من مكائد سوف يسقط فيها.

(٣) بل إن هذا الشرير يفتخر بما هو فيه بدلاً من أن يندم عليه ويتوب. هو لا يحسب شره كشيء يجب الرجوع عنه لأنه لا يعترف به أبداً ومما يساعد على ذلك هو وجود المتملقين حوله الذين يغشون أنفسهم بقبوله في جماعة الكرام الصالحين وقد يكون لهم مصالح شخصية معه حتى يتساهلون هكذا. وأما الخاطف فهو ذاك الذي يأخذ ما لغيره قسراً أو بالخداع بدون حق البتة لذلك فهو يهين خالقه بتعديه الصريح هكذا.

(٤) ويستمر هكذا على أفعاله المنكرة ويظل متشامخاً لأنه يحسب أن الله لا يطالب فهو يستفيد من حلم الله عليه ازدياداً في الغواية والفساد حتى أنه أخيراً يكفر بوجود الله الذي عصا أوامره من قبل. وهذه نتيجة لا شك فيها يصلها مثل هذا الإنسان الشرير.

«٥ تَثْبُتُ سُبُلُهُ فِي كُلِّ حِينٍ. عَالِيَةٌ أَحْكَامُكَ فَوْقَهُ. كُلُّ أَعْدَائِهِ يَنْفُثُ فِيهِمْ. ٦ قَالَ فِي قَلْبِهِ: لاَ أَتَزَعْزَعُ. مِنْ دَوْرٍ إِلَى دَوْرٍ بِلاَ سُوءٍ. ٧ فَمُهُ مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَغِشّاً وَظُلْماً. تَحْتَ لِسَانِهِ مَشَقَّةٌ وَإِثْمٌ. ٨ يَجْلِسُ فِي مَكْمَنِ ٱلدِّيَارِ، فِي ٱلْمُخْتَفَيَاتِ يَقْتُلُ ٱلْبَرِيءَ. عَيْنَاهُ تُرَاقِبَانِ ٱلْمِسْكِينَ».

(٥) في هذه الآية رأيت اختلافاً كبيراً في ترجمتها فيقول ديلتش «أكيدة هي كل سبله دائماً». وحسب الترجمة السبعينية وبالتالي اليسوعية «تنجح مساعيه في كل حين» وأما الترجمة الإنكليزية فتقول «كل سبله محزنه دائماً» ولدى المقابلة يصعب التوفيق بين هذه كلها ولكني أميل لترجمة ديلتش فإن الله لا يثبت سبل الشرير بل ذاك يحسبها ثابتة وأكيدة ليس إلا وقد يكون ذلك من قبيل الاعتداد بالنفس والغرور ولكن يعود فيقول المرنم إن أحكام الرب فوقه بعد لأنه هو وحده العالي فوق كل عالٍ. وإن يكن هذا الشرير إلى حين ينفث في أعدائه سماً كما يفعل الثعبان.

(٦) وفي هذا العدد تثبيت لمثل هذا المعنى إذ هذا الشرير يقول عن نفسه إنه لا يتزعزع فهو من فرط كبريائه أعمى ويدعي أن المصائب لا تطاله بسوء فهو يحسب أن يعيش مع ذريته من دور لدور خالياً عن كل أنواع الضيقات والمصائب.

(٧) ثم يصفه بأنه يلعن ويغش ويظلم ويفعل ذلك وهو يتظاهر بلسان حلو ولكن تحته سم قتال. لذلك فضرره غير ظاهر للعيان كل شيء عنده مبطن حتى حقده قد يظهر بقالب المحبة والصداقة (راجع أمثال ٢٦: ٢٦) وإذا وضع هدفاً يريد الوصول إليه لا يهمه عندئذ كم عهداً يخون أو كذباً يقترف أو شراً يرتكب.

(٨) في هذا العدد يصوره كالوحش المفترس الذي يكمن لفريسته. فهو يقصد الضرر ولكن لا يتظاهر به دائماً. فقد يكون قاطع طريق أو لصاً يهمه السلب والنهب ولا يسأل ممن فقد يكون الذي يقع به بريئاً تماماً لم يتعرف به من قبل. وهو يفعل ذلك ليس بدافع الانتقام بل يقترف هذه الجرائم غير مبال بأحد. ولا قيمة للحياة البشرية في عينيه كما أنه لا قيمة لمال الآخرين أو أرزاقهم يهمه أن يختلس ويغتصب غير حاسب لأيّ حساباً.

«٩ يَكْمُنُ فِي ٱلْمُخْتَفَى كَأَسَدٍ فِي عِرِّيسِهِ. يَكْمُنُ لِيَخْطُفَ ٱلْمِسْكِينَ. يَخْطُفُ ٱلْمِسْكِينَ بِجَذْبِهِ فِي شَبَكَتِهِ، ١٠ فَتَنْسَحِقُ وَتَنْحَنِي وَتَسْقُطُ ٱلْمَسَاكِينُ بِبَرَاثِنِهِ. ١١ قَالَ فِي قَلْبِهِ: إِنَّ ٱللّٰهَ قَدْ نَسِيَ. حَجَبَ وَجْهَهُ. لاَ يَرَى إِلَى ٱلأَبَدِ. ١٢ قُمْ يَا رَبُّ. يَا اَللّٰهُ ٱرْفَعْ يَدَكَ. لاَ تَنْسَ ٱلْمَسَاكِينَ. ١٣ لِمَاذَا أَهَانَ ٱلشِّرِّيرُ ٱللّٰهَ؟ لِمَاذَا قَالَ فِي قَلْبِهِ: لاَ تُطَالِبُ؟».

(٩) وفي هذا العدد توكيد لما ورد في العدد السابق ليس إلا. إذ يزيد المعنى في التشابه. فالأسد يهمه الفريسة وهذا الشرير يهمه أن يربح مالاً لا فرق من أي السبل جاء هذا المال وعادة يغتصبه بالحرام لأن الحرام والحلال عنده سيان كالوحش الكاسر.

(١٠) وهنا يتمم الصورة الفكرية التي بدأها فإن هذا الوحش يظل كامناً في مكانه إلى أن يقضي على فريسته قضاء تاماً وهكذا تسقط المساكين ببراثنه الممزقة الفتاكة وبين أشداقه القوية. وهؤلاء الأشرار عادة لايتورعون عن شيء في سبيل ما يريدونه فهم يتساهلون فقط على نسبة ما يضعونه أمامهم من ضرر يريدون إيقاعه بالآخرين: وهم يتسترون كثير الأحيان بالعطف والدعة إلى أن ينالوا مرامهم.

(١١) ويستمر في غوايته هذه إلى أبعد حدودها. فلا الهيئة الاجتماعية تطاله بسوء وكذلك يحسب أن الله ذاته لن يصله لأنه لا يؤمن به بل يحسب أن الله قد نسي وحجب وجهه حتى لا يرى ماذا يفعل وهكذا استمرت الحالة طويلاً حتى حسبها أنها للأبد. وهنا تجديف منه صريح على الله لأنه يرى وسوف يدينه لا محالة. وجيد لنا أن نعطف على المظلومين ونحتقر الظالمين ونقف في وجوههم قبل أن يستفحل شرهم كثيراً.

(١٢) هنا يلتفت إلى الرب ويستنهضه للدفاع عن حق مهضوم وعن بريء يُفترى عليه. فإن طول أناة الرب قد يجعل الظالم أكثر ظلماً ويجعل المظلوم أكثر تظلماً من حالة سيئة هو فيها لذلك يلتمس من الله أن ينصف ويوقف قسطاس العدل على الاثنين معاً ويرفع يده ويضرب ويبطش ولا ينسى. إنما على المؤمن أن يتكل على إلهه فإن الله أدرى متى ينتقم «لي النقمة أنا أجازي يقول الرب».

(١٣) وهنا تكرار لمعنى سابق ويتساءل المرنم كيف يسمح الله أن يتجاسر الشرير ويستهين بالعلي كإنما يحسب أنه لن يطالب. إذاً فالحياة فوضى ولا نظام أدبياً فيها بل الحق للقوة الغاشمة وكما يفعل السمك القوي يأكل الضعيف والحيوانات الكاسرة تفترس فرائسها فهل كذلك يكون الإنسان؟ ولكن شكراً لله ليس الأمر كذلك بل هنالك يوم الدين.

«١٤ قَدْ رَأَيْتَ. لأَنَّكَ تُبْصِرُ ٱلْمَشَقَّةَ وَٱلْغَمَّ لِتُجَازِيَ بِيَدِكَ. إِلَيْكَ يُسَلِّمُ ٱلْمِسْكِينُ أَمْرَهُ. أَنْتَ صِرْتَ مُعِينَ ٱلْيَتِيمِ. ١٥ اِحْطِمْ ذِرَاعَ ٱلْفَاجِرِ. وَٱلشِّرِّيرُ تَطْلُبُ شَرَّهُ وَلاَ تَجِدُهُ. ١٦ ٱلرَّبُّ مَلِكٌ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ. بَادَتِ ٱلأُمَمُ مِنْ أَرْضِهِ. ١٧ تَأَوُّهَ ٱلْوُدَعَاءِ قَدْ سَمِعْتَ يَا رَبُّ. تُثَبِّتُ قُلُوبَهُمْ. تُمِيلُ أُذُنَكَ ١٨ لِحَقِّ ٱلْيَتِيمِ وَٱلْمُنْسَحِقِ، لِكَيْ لاَ يَعُودَ أَيْضاً يُرْعِبُهُمْ إِنْسَانٌ مِنَ ٱلأَرْضِ».

(١٤) يؤمن بأن الله يرى «يهوه يرأه». والحق يقال أن المؤمنين يعانون آلاماً نفسية عظيمة من فكرة تجاسر الأشرار وتماديهم فهم يريدون الحق أن يمشي ويريدونه حالاً كإنما يفرضون ذلك على الله وهذا خطأ إذ له وحده جل جلاله الحق في إدانة الأشرار في الوقت الذي يريده هو. وعلينا أن نسلم ذواتنا تسليماً تاماً لله فهو معين أشقى الناس وأتعسهم «اليتيم» فهو عادة مهضوم الحق بل هو أيضاً محروم الحنان الوالدي ولكن الله يحتضنه كأب حنون.

(١٥) هنا اختلاف في الترجمة فيقول ديلتش «والشرير تقاص شره حتى يذهب هذا الشر من أمامك». وأظن هذا أقرب لقصد المرنم فهو يطلب من الرب أن يتداخل بالفعل في أمره. وقد كان اختبار المؤمنين حقيقياً كلما اتكلوا على الإله الحي فهو الحاكم أخيراً على البشر وعلى جميع ما يفعلونه.

(١٦) فليتمجد اسم الرب إذن لأنه وحده الملك وجميع البشر هم عبيد ولا يستطيعون أن يعصوا أوامره ويسلموا للأبد. هوذا الأفراد يقومون ويسقطون وهكذا الدول والأمم وأغلبها أصبحت في حكم التاريخ. لقد بادت الأمم ولكن إله الأمم يبقى.

(١٧) يتحول المرنم عن كلمة المسكين إلى الودعاء وفي هذا حكمة لأن صبر هؤلاء المؤمنين يجب أن يكون عن وداعة حقيقية أي أن يتكلوا على الله ولا يتذمروا قط وهو يفعل في حينه وحسب مشيئته السرمدية. فهو يقضي حق اليتيم والمسكين والبريء. ولا يترك دمهم يذهب هدراً كإنما هذا الوجود لا يحكمه سوى القوة الغاشمة العمياء. بل قد سمع الله.

(١٨) وعلينا أن لا نحكم متسرعين بأن نجاح الأشرار معناه أنهم على صواب فيما يفعلون. وابن آدم مهما عظم وتجبر فسيعود للتراب الذي منه أخذ. وهكذا يلتمس المرنم في الختام أن يثبت أن الحق على الأرض التي هي ملك لله حتى لا يعود هذا الإنسان الشرير فيسبب رعباً وتعاسة وويلاً وإن يكن إلى حين معين. وهكذا حينما نرى أن الدين وأنصاره في حالة الاضطهاد والضيق نطلب من الله أن يجري حكمه العادل فيعود الحق إلى نصابه.

 

زر الذهاب إلى الأعلى