سفر المزامير

سفر المزامير | 136 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلسَّادِسُ وَٱلثَّلاَثُونَ

«١ اِحْمَدُوا ٱلرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢ ٱحْمَدُوا إِلٰهَ ٱلآلِهَةِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٣ ٱحْمَدُوا رَبَّ ٱلأَرْبَابِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٤ ٱلصَّانِعَ ٱلْعَجَائِبَ ٱلْعِظَامَ وَحْدَهُ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ».

يوجد ثلاثة أراء بخصوص تقسيم ما يسمونه مزامير التسابيح التي نجد هذا المزمور المئة والسادس والثلاثين يبلغ الأوج فيها. ونلاحظ أن العبارة «لأن إلى الأبد رحمته» تتكرر ستاً وعشرين مرة مما فسح المجال للقول أن هذا المزمور هو مزمور الحمد الأكمل من نوعه. وإذا حسبنا مزامير التسابيح أو الحمد تتناول المزامير ١٢٠ – ١٣٦ فلا يفوتنا أيضاً أن المزامير ١١٣ – ١١٨ هي مزامير حمد من طبقة مشابهة. وهذا التكرار مما يستلفت الأنظار وربما انقسم أجواق المرنمين إلى قسمين فكان يرد واحدهما على الآخر أو ربما أن الشعب نفسه كان يردد العبارة «لأن إلى الأبد رحمته». ولا شك أن هذا المزمور يستعير الكثير من أفكاره من مصادر مختلفة ولا سيما من العدد ١٧ فما فوق. وكأن المزمور ينقسم إلى عمودين متوازيين شبيه بما ورد في (تثنية ٢٣).

لا شك أن ناظم هذا المزمور قد اطلع على سفر التثنية فهو من هذا القبيل مثل المزمور سابقه ١٣٥ يستوحي الكثير من معاني سفر التثنية وتعابيره. وهوذا قوله إله الآلهة ورب الأرباب فمأخوذ من (تثنية ١٠: ١٧). كما أن ما ورد في العدد ١٢ «بيد شديدة وذراع ممدودة» فمأخوذة من (تثنية ٤: ٣٤ و٥: ١٥ وأيضاً قابله مع إرميا ٣٢: ٢١. وأيضاً العدد ١٦ هو يشابه تثنية ٨: ١٥ ويقابل مع إرميا ٢: ٦) وأيضاً فإن الأعداد ١٩ – ٢٢. فهي شبيهة بما رود في (تثنية ٣٥: ١٠ – ١٢). وأيضاً قوله إسرائيل عبده فتذكرنا بما ورد في إشعياء في (الأصحاحات ٤٠ – ٥٦) ومن جهة أخرى فإن هذا المزمور يحمل طابعاً قديماً إذ يعيد للذاكرة عبارات صقلتها الألسنة على مدة التكرار خلال سني التعبد الطويلة في مختلف الأجيال.

«٥ ٱلصَّانِعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِفَهْمٍ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٦ ٱلْبَاسِطَ ٱلأَرْضَ عَلَى ٱلْمِيَاهِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٧ ٱلصَّانِعَ أَنْوَاراً عَظِيمَةً، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٨ ٱلشَّمْسَ لِحُكْمِ ٱلنَّهَارِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٩ ٱلْقَمَرَ وَٱلْكَوَاكِبَ لِحُكْمِ ٱللَّيْلِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٠ ٱلَّذِي ضَرَبَ مِصْرَ مَعَ أَبْكَارِهَا، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١١ وَأَخْرَجَ إِسْرَائِيلَ مِنْ وَسَطِهِمْ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٢ بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَذِرَاعٍ مَمْدُودَةٍ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ».

(١٠٤) أول شيء يذكره هو صلاح الرب الذي لا يجوز أن يشك فيه أي إنسان. ثم يبدأ بعد ذلك بتمجيد هذا الإله الذي هو إله الآلهة ورب الأرباب ولأنه كذلك فهو الذي صنع العجائب العظيمة حينما أخرج شعبه من عبودية مصر بل هو يعود إلى بدء الحقيقة فهو طالما إله الآلهة لذلك فكل شيء قد صنع بيده الإلهية الكريمة.

(٥ – ١٢) إن هذه القدرة مقترنة بالفهم الكامل لذلك بجنب عمل الخالق العظيم قد أوجد نظامات لا يمكن لأي المخلوقات أن تتعداها وفي هذه الأعداد التالية لا يحاول المرنم أن يشرح لنا عملية الخلق كما وردت في سفر التكوين بل يهمه في الدرجة الأولى أن يدعم كلامه من جهة عظمة هذا الخالق وجلاله. وهذا الإنسان يستطيع أن يفهم نواميس الله هذه تدريجياً ولو كان عقله محدوداً فقد أعطاه الخالق قدرة يستطيع بها أن يكشف هذه النواميس ويستخدمها بما هو في مقدوره وحسب منفعته. يرى المرنم هذه المياه والينابيع تتفجر من قلب الأرض أيضاً. بل يرى الشمس والقمر والنجوم فيذهله جمالها البديع ويقسم خدمتها إلى النهار والليل. ولم يكن من علم للفلك كاف حتى يفسر هذه الظواهر الباهرة أكثر مما ورد في (تكوين ١: ١٦).

وهو يسرع حالاً إلى التاريخ ويذكرنا بمنشأ الأمة الإسرائيلية حينما أخرجهم الله من أرض مصر فضرب أبكارهم وأخرج إسرائيل من بينهم وقد فعل ذلك بالقدرة التي ظهرت في خلقه للعالمين. فهو يستطيع أن يخلق أمة من لا شيء كما يخلق هذه الكائنات من لا شيء أيضاً.

«١٣ ٱلَّذِي شَقَّ بَحْرَ سُوفٍ إِلَى شُقَقٍ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٤ وَعَبَّرَ إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِهِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٥ وَدَفَعَ فِرْعَوْنَ وَقُوَّتَهُ فِي بَحْرِ سُوفٍ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٦ ٱلَّذِي سَارَ بِشَعْبِهِ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٧ ٱلَّذِي ضَرَبَ مُلُوكاً عُظَمَاءَ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ١٨ وَقَتَلَ مُلُوكاً أَعِزَّاءَ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ: ١٩ سِيحُونَ مَلِكَ ٱلأَمُورِيِّينَ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ ٢٠ وَعُوجَ مَلِكَ بَاشَانَ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ».

(١٣ – ٢٠) هذا هو إله التاريخ المقدس. هذا هو تاريخ الخلاص والفداء. ويتكلم مطولاً عن عجيبة البحر الأحمر وكيف قد شق الله هذا البحر وجعل منه معابر يستطيع شعب الله أن يجتازوها بسلام إلى الشاطئ الآخر بينما لم يكن الأمر كذلك مع قوم فرعون العتاة. فقد ظلموا الشعب وسخروه مدى السنين الطويلة وهم الآن ينالون جزاء ما جنته أيديهم «وما ظالم إلا سيبلى بأظلم». ويذكرنا العدد ١٣ بما ورد في (مزمور ٧٨: ١٣ وخروج ١٤: ٢١ ونحميا ٩: ١١). وقوله إلى شقق يجعلنا نتصور أنه كان هناك عدة معابر صغيرة اجتمعت حتى كونت ذلك المعبر العظيم الذي نجا الإسرائيليون به وقطعوا البحر بسلام بينما لم يكن حظ المصريين مثل حظهم. ويرينا أن القدرة هي لله وليس لفرعون فإن هذا الأخير قد حاول جهد المستطاع أن يرجع الإسرائيليون إلى عبوديتهم فما تم له ما أراد بل اندحر شر اندحار.

بعد ذلك يصور لنا بإيجاز كلي ماذا حدث في البرية فقد سار الرب نفسه بهم في تلك البرية القاحلة المهلكة ولم يهلك إلا الذين استحقوا الهلاك. وكانت النتيجة أن سار الشعب من قوة إلى قوة وتغلبوا على ملوك الأرض وقتلوا من قتلوا منهم بيد شديدة غير هيابين. فقد انتصروا على الأموريين بشخص ملكهم سيحون كما انتصروا على سكان باشان (حوران وجوارها) بشخص ملكهم عوج واستتب لهم الأمر منتصرين ظافرين (راجع مزمور ١٣٥: ١٠ – ١٢).

«٢١ وَأَعْطَى أَرْضَهُمْ مِيرَاثاً، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ ٢٢ مِيرَاثاً لإِسْرَائِيلَ عَبْدِهِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢٣ ٱلَّذِي فِي مَذَلَّتِنَا ذَكَرَنَا، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢٤ وَنَجَّانَا مِنْ أَعْدَائِنَا، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢٥ ٱلَّذِي يُعْطِي خُبْزاً لِكُلِّ بَشَرٍ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢٦ ٱحْمَدُوا إِلٰهَ ٱلسَّمَاوَاتِ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ».

(٢١ – ٢٦) ولقد ورثوا ما خلفه أولئك الأقوام فهم أصحاب الأرض بالفتح لأنهم دخلوا عليها غرباء. وبالتالي فإذا طرد اليهود منها بعد ذلك بواسطة أقوام أشد منهم وأصلب كاليونانيين والرومانيين فلا يجوز لهم أن يدعوها لأنهم قد اشتروا الأرض بالثمن الذي دفعه الإسرائيليون تماماً أي بقوة الفتح ليس إلا. وهكذا حينما جاء العرب واستولوا على البلاد فقد فعلوا ذلك بقوة الفتح أيضاً وهذا فالأرض ملك الفارس المستأسد. والذي يلفت النظر هو قوله «ميراث» وعادة فالميراث يأتي من الوالدين والأقربين وليس بقدرتهم. وهنا نقف أمام فكرة شعب الله الخاص فهو قد أعطاهم ما هو ملكه (ملك الله) وليس ملك أي الشعوب. فإذن الله قد اختار شعب إسرائيل لمهمة خاصة أن يخرج منهم الرسل والأنبياء ومتى أتموا هذه المهمة فلا ادعاء لهم بملكية الأرض بعض ذلك. هذا ومن جهة ثانية فإن المسيحيين الحقيقيين الذين هم إسرائيل الله قد ورثوا بسكنهم في الأرض المقدسة ما ادعاه الإسرائيليون من قبل. وكل ما يدعيه اليهود الآن هو من قبيل الرجوع إلى نبوآت قديمة قد تمت منذ زمان طويل ولسكان الأرض الأصليين الحق الشرعي والطبيعي في ادعاء كل شبر فيها.

يذكر المذلة التي يتحملها الشعب وكيف ينجي من الأعداء وبالتالي يعطي خبزاً وشبعاً لكل المستنجدين به (راجع الجامعة ١٠: ٦ وأيضاً مراثي إرميا ٥: ٨). ويعود في ختام المزمور لكي يذكرنا بما بدأ به وهو الحمد لإله السموات مصدر كل رحمة وإحسان. والاسم المضاف إله السموات هو من وضع حديث كما في (نحميا ١: ٤ و٢: ٤). وبالإجمال فهو مزمور شكر لمراحم الله الجزيلة الحقيقية.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى