سفر المزامير

سفر المزامير | 119 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلتَّاسِعُ عَشَرَ

– أ –

«١ طُوبَى لِلْكَامِلِينَ طَرِيقاً، ٱلسَّالِكِينَ فِي شَرِيعَةِ ٱلرَّبِّ. ٢ طُوبَى لِحَافِظِي شَهَادَاتِهِ. مِنْ كُلِّ قُلُوبِهِمْ يَطْلُبُونَهُ. ٣ أَيْضاً لاَ يَرْتَكِبُونَ إِثْماً. فِي طُرُقِهِ يَسْلُكُونَ».

هذا المزمور هو أكثر المزامير صناعة لفظية فهو مرتب حسب أحرف الهجاء العبرانية أي أبجد هوز الخ وكل حرف من هذه الحروف يحوي ثمانية أدوار فيكون المجموع مئة وستة وسبعين دوراً أو عدداً. وقد أطلقت التوراة الجرمانية عليه اسم «مزمور الألفباء» للمؤمن الذي يستعمل الكتاب المقدس للحمد ونيل القوة والنجدة. وهو لا يخلو من التكرار الممل حى ذهب أحد المفسرين إلى القول أنه مزمور صلاة طويلة لمعلم شيخ مختبر. ولكن يتضح لنا من العدد التاسع أن الناظم هو شاب ويصف حالته في العددين ٩٩ و١٠٠ فنجده منكوباً مضطهداً ولا سيما من الذين يحتقرون كلمة الله ولا يعيرونها انتباههم. ويجد ارتداد الناس عن الله في كل ما يحيط به لا سيما يوجد حكومة معادية لروح الدين الحقيقي (راجع الأعداد ٢٣ و٤٦ و١٦١) والمزمور كله صلاة لكي يمنح الله نعمة الثبات وسط جيل شرير وهكذا يرجو خلاص الرب فينتظر ويكرر القول المأثور يا رب حتى متى؟ وإذا أخذنا هذه الفكرة عن المزمور بعين الاعتبار فلن يطول بنا الوقت حتى نفهمه ونتابع ناظمه في انتقاله من فكر إلى آخر. يبدأ المرنم بحرف الألف ونلاحظ أن كل جملة من هذا المقطع تبدأ بهذا الحرف أيضاً وهكذا في بقية الحروف على التوالي. ولا شك أن هذه صناعة لفظية من الطبقة الأولى ويجب أن يكون الناظم من العارفين بأساليب الكلام والمقتدرين في اللغة فإذا حسبنا أنه شاب فيجب أن يكون متعلماً متهذباً كما أنه يفهم أصول الديانة حق الفهم. بحرف الألف يمجد الأمانة لكلمة الله وبالباء ينصح بها للشاب وبالجيم يطلب نوراً علوياً وبالدال قوة وبالهاء حفظاً وبالواو اعترافاً كما أنه يجبد في الزاي أن يتمسك بها وبالحاء يتمسك بحافظيها وبالطاء يتواضع وبالياء يعرب عن حاجته للتعزية وبالكاف يقول حتى متى؟ ولولا كلمة الله القديرة الأكيدة لفقد الرجاء هذا ما يقوله باللام ويراها حكمة في الميم ويقسم بالأمانة لها في النون وبالسين يكره ويحتقر المرتدين عن الإيمان وبالعين يعترف باضطهاده ولكنه لن يذل لهم وهذا يتابع الفكرة في الفاء وفي الصاد يرى أن غير المؤمنين يضمحلون. وفي القاف يصرخ لله طالباً أن يرحمه في الراء وينجيه من الظالمين في الشين وأن يرعاه بصلاح في التاء.

وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا المزمور قد كتب في العصر المكابي بينما جرى الاضطهاد على المتمسكين بالتوراة وشريعة الله من اليهود أنفسهم الذين جاروا الحكومة اليوناينة التي احتلت البلاد في عهد الدولة السلوقية وعادوا إخوانهم من أبناء البلاد. وقد ذهب هتزج إلى القول أن الناظم هو إسرائيلي شهيد قضى مدة من الزمن في السجن مضطهداً مظلوماً. ولما أطلق سراحه أطلق لنفسه عنان التفكير الروحي العميق وصوّر حالة المظالم التي عاناها هو نفسه ويعانيها الناس الأتقياء في ذاك الحين. أو أنه كتب هذا المزمور وهو في السجن لذلك اتخذ هذه الصناعة اللفظية سبيلاً للتسلية ولا شك أن من يطالع هذا المزمور من أوله إلى آخره يجد فيه تصريحات من قلب معترف بالله رغم جميع الاضطهادات فكان له بذلك تعزية قدسية قوته لكي يتابع جهاده الشريف المشكور في سبيل الإيمان.

(١ – ٣) في هذه الأعداد كما في بقية هذه القطعة «ألف» يطوب المرنم جميع الذين يسلكون بموجب شريعة الرب ويرجو أن يكون هو نفسه واحداً منهم. وهو يبدأ بتطويبة تكاد تكون مزدوجة إذ تتكرر في العدد الثاني. يطوب الكاملين في طريقهم لأنهم يسلكون بموجب شريعة الرب هم الذين يحفطون شهادات الرب أي يخبرون جهراً عما فعله الرب معهم من العظائم. هم لا يستحقون قط من أن يزكوا شهاداتهم بالواقع وما جريات الأحوال. وأقوالهم تنطبق على ما في قلوبهم لأنهم قوم مؤمنون حقيقيون مخلصون في عقائدهم ويعتزون في إتمام شعائر دينهم بغير مواربة ولا رياء. بل هم عمليون يبتعدون عن الإثم فلا يقولون شيئاً لا يتممونه في حياتهم اليومية.

«٤ أَنْتَ أَوْصَيْتَ بِوَصَايَاكَ أَنْ تُحْفَظَ تَمَاماً. ٥ لَيْتَ طُرُقِي تُثَبَّتُ فِي حِفْظِ فَرَائِضِكَ. ٦ حِينَئِذٍ لاَ أَخْزَى إِذَا نَظَرْتُ إِلَى كُلِّ وَصَايَاكَ. ٧ أَحْمَدُكَ بِٱسْتِقَامَةِ قَلْبٍ عِنْدَ تَعَلُّمِي أَحْكَامَ عَدْلِكَ. ٨ وَصَايَاكَ أَحْفَظُ. لاَ تَتْرُكْنِي إِلَى ٱلْغَايَةِ».

– ب –

«٩ بِمَ يُزَكِّي ٱلشَّابُّ طَرِيقَهُ؟ بِحِفْظِهِ إِيَّاهُ حَسَبَ كَلاَمِكَ. ١٠ بِكُلِّ قَلْبِي طَلَبْتُكَ. لاَ تُضِلَّنِي عَنْ وَصَايَاكَ».

(٤ – ٨) في هذا العدد الرابع يخبرنا لماذا يجب على الإنسان المؤمن أن يتصرف هكذا فيقول لأن الرب قد أوصى بها لذلك يجب على الإنسان أن يحفظها. بل يتمنى بعد ذلك أن جميع طرقه تكون غير متزعزعة ولا متقلقلة لأن من يحفظ فرائض الرب تحفظه هذه بدورها. وعلى الإنسان الحكيم أن يرى الهدف أمامه واضحاً فإن هذا الحفظ هو لخير الإنسان وفلاحه. ويتأكد المرنم من حقيقة ماثلة أمام عينيه بأن انتصاره لا شك محقق لأنه ينظر إلى وصايا الرب ويحفظها. وهكذا يحمد الرب بقلب طاهر شريف ويرى في كل ما يجريه الرب أحكاماً عادلة ويرجو أخيراً في العدد الثامن أن يحفظ الوصايا وهكذا يعضده الرب ولا يتركه أبداً.

ب

(٩ – ١٠) يبدأ الآن الآيات التي تبتدئ بحرف الباء يصور لنا شاباً يريد أن يسلك باستقامة وأمانة وهكذا يسأل هذا السؤال الخطير الذي يضعه أمام كل شاب فيطلب التزكية والتطهير في حياته وسلوكه. وفي الوقت ذاته يضع السؤال بصورة مختصرة مؤثرة وهكذا يجيب بالطريقة ذاتها وبالسرعة ذاتها ويرى أن لباب الأمر هو أن يمشي بحسب كلام الله. ولأنه قد طلب الله بكل قلبه لذلك يرجو أن يهتدي إلى هذا الحق ولا يضل عن الوصايا يأمل مساعدة النعمة الإلهية على إتمام هذا الأمر ولا يشك قط أنه ينالها.

«١١ خَبَّأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْكَ. ١٢ مُبَارَكٌ أَنْتَ يَا رَبُّ. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ. ١٣ بِشَفَتَيَّ حَسَبْتُ كُلَّ أَحْكَامِ فَمِكَ. ١٤ بِطَرِيقِ شَهَادَاتِكَ فَرِحْتُ كَمَا عَلَى كُلِّ ٱلْغِنَى. ١٥ بِوَصَايَاكَ أَلْهَجُ وَأُلاَحِظُ سُبُلَكَ. ١٦ بِفَرَائِضِكَ أَتَلَذَّذُ. لاَ أَنْسَى كَلاَمَكَ».

(١١ – ١٦) ويراجع نفسه في ما هي الوسيلة لهذه التزكية (راجع مزمور ٧٣: ١٣ وأمثال ٢٠: ٩) فيراها بأن يخبئ كلام الله في قلبه ويخزنه كشيء ثمين في حياته. ويرى في كلام الله قوة باطنة فعالة لا شيء خارجياً يظهر تأثيره قليلاً ثم يضمحل بل هو الدافع على تجنب الشر والمقوي لعمل الخير وإذ لم يكن كذلك فهو مظهر من مظاهر حب الذات والمباهاة وليس من التدين الحقيقي في شيء. ويردد قوله كلامك وفرائضك مرات كثيرة وهو يجتاز من التعبد إلى السؤال.

وفي العدد ١٣ يقول «حسبت» ولا يقصد بها أنه أخذ يعدد هذه الأحكام بمقدار أنه يذيعها وينشرها على الناس (راجع تثنية ٦: ٧). وهي أحكام من فم الرب لكي يزيدها قوة وتأثيراً. وهو يحسب أن شهادات الرب هي طريق يتوجب عليه سلوكها ولكنه واجب الفرح والسرور هو حمل ولكنه خفيف وهو واجب ولكنه يندفع من تلقاء ذاته في سبيل إتمامه. ويراه أنه مفضل على كل غنى الأرض لأنه سماوي روحي. بينما الأمور الأخرى هي مادية علوية. وهكذا فإنه يلهج بهذه الوصايا الإلهية ويهذبها في الأسحار ويحاول أن يتبين طريق الرب لكي يسير فيها بل يجد في تلك الفرائض لذة وغبطة ويحاول أن يذكرها فلا تغرب عن باله كما لا تفوت نظره. كثير الأحيان ما نضل الطريق لأننا لم نلاحظ كيف ندخل فيها وكيف نخرج منها. وعلى الذين يضعون أمامهم الذهاب أن يحسبوا حساب الإياب أيضاً لئلا يضيعوا في طريقهم ويكونوا بين القوم الخاسرين.

– ج –

«١٧ أَحْسِنْ إِلَى عَبْدِكَ فَأَحْيَا وَأَحْفَظَ أَمْرَكَ. ١٨ ٱكْشِفْ عَنْ عَيْنَيَّ فَأَرَى عَجَائِبَ مِنْ شَرِيعَتِكَ. ١٩ غَرِيبٌ أَنَا فِي ٱلأَرْضِ. لاَ تُخْفِ عَنِّي وَصَايَاكَ. ٢٠ ٱنْسَحَقَتْ نَفْسِي شَوْقاً إِلَى أَحْكَامِكَ فِي كُلِّ حِينٍ. ٢١ ٱنْتَهَرْتَ ٱلْمُتَكَبِّرِينَ ٱلْمَلاَعِينَ ٱلضَّالِّينَ عَنْ وَصَايَاكَ. ٢٢ دَحْرِجْ عَنِّي ٱلْعَارَ وَٱلإِهَانَةَ لأَنِّي حَفِظْتُ شَهَادَاتِكَ. ٢٣ جَلَسَ أَيْضاً رُؤَسَاءُ تَقَاوَلُوا عَلَيَّ. أَمَّا عَبْدُكَ فَيُنَاجِي بِفَرَائِضِكَ. ٢٤ أَيْضاً شَهَادَاتُكَ هِيَ لَذَّتِي، أَهْلُ مَشُورَتِي».

(١٧ – ٢٢) في كل هذه الأعداد أيضاً نجد أنها تبدأ بحرف الجيم. وأما الموضوع الذي تدور حوله فهو غاية الحياة فهو يريد أن يحيا الحياة الطاهرة المقدسة ويبتعد عن طرق المرتدين الذين فقدوا إيمانهم ويطلب أول كل شيء أن يعطي البصر حتى يرى عجائب الله. قد يكون أنه احتمل الاضطهاد وحاول بعض الناس أن يجعله يضع غشاء على عينيه حتى لا يرى حقائق الأمور. ومما زاد في بليته أنه يرى ذاته وحيداً فريداً كأنه غريب بين أهله ولم تعد الأرض تخصه وفي الحالة السيئة هذه يريد أن يرفع الله وصاياه أمامه حتى لا تختفي عن عينيه فيما بعد. وقد ظهر أمام عينيه قط أن أحكام الله قد توارت من الأرض وساد الأشرار والمضطهدون ولذلك يجد نفسه منسحقاً ولكنه يعود فيرجو الله أن ينتهر المتكبرين الذين أساءوا إليه وأهانوه ورذلوه. مع أنهم هم الذين قد ضلوا عن وصايا الله وجزاؤهم أن يرذلوا تماماً. وكانت النتيجة المعكوسة عليه أن أصبح عاراً عند الناس لا سيما وسبب هذا العار هو أنه حفظ الشهادات وأداها إلى النهاية. وقوله «دحرج» كإنما صخرة يجب أن تزول.

(٢٣ – ٢٤) ومما يزيد في آلامه أن هذه المعاملة السيئة لم تصدر من قوم بسطاء غير فاهمين ولا هم من عامة الشعب غير المسؤولين بل هم الذين قد قادوا الشعب وتسلطوا عليه. هؤلاء هم الذين أظهروا عداوتهم ولكن كان تأثيرهم عليه معكوساً إذ ازداد في مناجاته بفرائض الله. وهام ملتذاً بتلك الشهادات التي أداها علناً وكإنما أصبحت له سبب مشورة صالحة يهتدي بها في أعماله القادمة.

– د –

«٢٥ لَصِقَتْ بِٱلتُّرَابِ نَفْسِي، فَأَحْيِنِي حَسَبَ كَلِمَتِكَ. ٢٦ قَدْ صَرَّحْتُ بِطُرُقِي فَٱسْتَجَبْتَ لِي. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ. ٢٧ طَرِيقَ وَصَايَاكَ فَهِّمْنِي فَأُنَاجِيَ بِعَجَائِبِكَ. ٢٨ قَطَرَتْ نَفْسِي مِنَ ٱلْحُزْنِ. أَقِمْنِي حَسَبَ كَلاَمِكَ. ٢٩ طَرِيقَ ٱلْكَذِبِ أَبْعِدْ عَنِّي، وَبِشَرِيعَتِكَ ٱرْحَمْنِي. ٣٠ ٱخْتَرْتُ طَرِيقَ ٱلْحَقِّ. جَعَلْتُ أَحْكَامَكَ قُدَّامِي. ٣١ لَصِقْتُ بِشَهَادَاتِكَ. يَا رَبُّ لاَ تُخْزِنِي. ٣٢ فِي طَرِيقِ وَصَايَاكَ أَجْرِي لأَنَّكَ تُرَحِّبُ قَلْبِي».

(٢٥ – ٢٨) يبدأ الآن بحرف الدال وهنا أيضاً ثمانية أعداد كسابقاتها. هو الآن في ضيقة عظيمة حتى لم يستطع النهوض فهو مرتم في التراب ولا يرى له رجاء إلا بكلام الله ذلك المعزي المطيّب للخواطر الذي يمنح حياة (راجع مزمور ٤٤: ٢٦) ولكن رجاءه قوي متين (راجع مزمور ٧١: ٢٠ و٨٥: ٧) وقوله «صرّحت بطرقي» أي أنه أخبر الرب بكل مكنونات قلبه فهو لا يخفي شيئاً عنه. وهو إله يستجيب الدعاء ويعلّم الإنسان ماذا يجب عليه أن يفعل. ولأنه كان وطيد الإيمان فإن الله قد استجاب له وتكلم معه وأفهمه السبيل الذي يجب أن يمشي فيه. هو يطلب فهماً فإن بعض الأمور قد مرّت وهو لم يكن ينتظرها هكذا ولكنه بعد أن يفهم عليه أن يحدث بما فعله الله نحوه. وحينئذ حتى الحزن العميق الذي أصابه سينهض منه ويقف على رجليه قوياً نشيطاً بعد.

(٢٩ – ٣٢) يؤلمه أن يرى طرق الكذب والخداع تسود بين الناس ولكنه يعود إلى الله كما في (العدد ٢٥) طالباً النهوض والحياة الكريمة. ولا يجد سبيلاً لذلك إلا بشريعة الرب واتباع وصاياه. ويعتز بأن يجاهر بأنه يحب الحق ويريد أن يسلك طريقه لذلك قد وضع أحكام الرب التي هي حق كلها نصب عينيه لئلا يضل في أي الأشياء. ويعاهد نفسه بأن يلتصق بشريعة الرب وبشهاداته بدلاً من أن يلصق بالتراب فهي وحدها التي يستطيع أن يثبت حياته عليها ويظل سعيداً كريماً. وحينئذ فهو يسرع جرياً ولا يسلك سلوكاً فقط باتباع الوصايا ويرى أن قلبه قد أصبح كبيراً واسعاً على نسبة هذه الأفكار النبيلة المقدسة.

– هـ –

«٣٣ عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَ فَرَائِضِكَ فَأَحْفَظَهَا إِلَى ٱلنِّهَايَةِ. ٣٤ فَهِّمْنِي فَأُلاَحِظَ شَرِيعَتَكَ وَأَحْفَظَهَا بِكُلِّ قَلْبِي. ٣٥ دَرِّبْنِي فِي سَبِيلِ وَصَايَاكَ لأَنِّي بِهِ سُرِرْتُ. ٣٦ أَمِلْ قَلْبِي إِلَى شَهَادَاتِكَ لاَ إِلَى ٱلْمَكْسَبِ. ٣٧ حَوِّلْ عَيْنَيَّ عَنِ ٱلنَّظَرِ إِلَى ٱلْبَاطِلِ. فِي طَرِيقِكَ أَحْيِنِي. ٣٨ أَقِمْ لِعَبْدِكَ قَوْلَكَ ٱلَّذِي لِمُتَّقِيكَ. ٣٩ أَزِلْ عَارِي ٱلَّذِي حَذِرْتُ مِنْهُ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ طَيِّبَةٌ. ٤٠ هَئَنَذَا قَدِ ٱشْتَهَيْتُ وَصَايَاكَ. بِعَدْلِكَ أَحْيِنِي».

(٣٣ – ٣٧) نأتي الآن إلى حرف الهاء وهو يتابع صلاته لكي يمنحه الله قوة ونعمة حتى لا ينخدع بمظاهر الغرور الذاتي ولا يتحول عن طريقه في منعطفات أخرى تشرد به بعيداً. يطلب أن يتعلم طريق الفرائض وأن يفهم ويلاحظ الشريعة وأن يتدرب في إتمام الوصايا وهكذا يميل قلبه بجملته إلى الشهادة باسم الرب وتتحول عينه عن أي باطل ولا يرى أمامه سوى الحق. كلها مطالب شريفة يحدوها شوق للأفضل الذي اختبره في الماضي ولا يريد أن ينساه الآن. من مميزات هذا الناظم أنه يسرع في استنتاجه فلا يقول عبارة مختصرة حتى يخبرنا ما هي نتائجها له أولاً ولحياة الآخرين أيضاً.

(٣٨ – ٤٠) يذكر الآن أن للرب مواعيد معه بالنسبة لأنه يحسب نفسه أنه يتقي الرب لذلك يطالب بأن تتمم معه كما كانت تتمم مع أولئك الأقدمين. يحسب أنه كان في عار ويتمنى أن يزول. أو أنه يخشى أن يكون في عار نكران الله بدلاً من الاعتراف به وإذاعة حمده وشكره. ويمكن ترجمة العدد ٣٩ أزل عاري الذي حذرت منه بقولنا أزل عاري الذي اختشيه أو أخافه. ويرى أن أحكام الرب طيبة صالحة لا ظلم فيها البتة لذلك يأمل أن يذهب عنه خطر السقوط في الارتداد الذي يسبب له أعظم العار والمذلة. لا يكتم نفسه أنه قد اشتهى وصايا الرب لأن بها تنجيته وسلامه. ولا يرى حياة إلا بأن يجري الله عدله بين الناس حينئذ سيعلم الظالمين أنهم سينالون جزاء ما اقترفته أيديهم.

– و –

«٤١ لِتَأْتِنِي رَحْمَتُكَ يَا رَبُّ، خَلاَصُكَ حَسَبَ قَوْلِكَ، ٤٢ فَأُجَاوِبَ مُعَيِّرِي كَلِمَةً، لأَنِّي ٱتَّكَلْتُ عَلَى كَلاَمِكَ. ٤٣ وَلاَ تَنْزِعْ مِنْ فَمِي كَلاَمَ ٱلْحَقِّ كُلَّ ٱلنَّزْعِ، لأَنِّي ٱنْتَظَرْتُ أَحْكَامَكَ. ٤٤ فَأَحْفَظَ شَرِيعَتَكَ دَائِماً إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ، ٤٥ وَأَتَمَشَّى فِي رُحْبٍ لأَنِّي طَلَبْتُ وَصَايَاكَ، ٤٦ وَأَتَكَلَّمُ بِشَهَادَاتِكَ قُدَّامَ مُلُوكٍ وَلاَ أَخْزَى، ٤٧ وَأَتَلَذَّذُ بِوَصَايَاكَ ٱلَّتِي أَحْبَبْتُ، ٤٨ وَأَرْفَعُ يَدَيَّ إِلَى وَصَايَاكَ ٱلَّتِي وَدِدْتُ وَأُنَاجِي بِفَرَائِضِكَ».

(٤١ – ٤٨) هوذا أمامنا الآن حرف الواو وهذه القطعة أيضاً هي ذات ثمانية أعداد كالمعتاد. يتابع صلاته أيضاً لكي يمنحه الله أن يعترف بالحق غير هيّاب ولا وجل. يطلب من الرب رحمته حتى يستطيع أن يجيب من يعيّره ويحقره. هو اتكل على الرب ولذلك فلن يخزى ولن يسكت أمام هؤلاء الأعداء الذين يسيئون فهم سكوته. وهو يرجو أن يتكلم الكلام فلا يسكت. يريد أن يحفظ الشريعة لئلا ينسى. إذا لم يتكلم فإنه يخشى أن يحسبه الأعداء عيباً عن الكلام وهكذا يزدادون في تحقيره وامتهانه وبالتالي يتمادون في غوايتهم وشرهم أكثر كثيراً من الماضي. يتمنى أن يتمشى في رحب أي في سعة وبحبوحة من أمره فلا يبقى محبوساً عن الكلام إما بالضغظ أو بالإكراه. يريد فقط الحرية لكي يعبر عن محبته لله ويشهد أمام الناس جميعاً بما فعله الله نحوه من العظائم. يريد أن يشهد بالأخص أمام أولئك العظماء المستبدين وقدام الملوك الذين لم يثبتوا على الإيمان ويرجو أن لا يخزى بشهاداته بل يثبت على الدوام. بل يطلب أكثر من ذلك أن يلتذوا بها مثله ويتمشوا بموجبها. واتخذ مؤتمر اغسبرج الإنجيلي شعاره هذا العدد ٤٦ «وَأَتَكَلَّمُ بِشَهَادَاتِكَ قُدَّامَ مُلُوكٍ وَلاَ أَخْزَى». وأما العدد ٤٨ فقوله «ارفع يديّ» فيفيد التعبير عن اشتهاء شديد ملح يتملك عواطفه القلبية ويتغلب على مشاعره. فهو يريد أن يتذكر الوصايا الغالية ولا ينسى الفرائض بل يناجي نفسه بها على مدى الحياة.

– ز –

«٤٩ اُذْكُرْ لِعَبْدِكَ ٱلْقَوْلَ ٱلَّذِي جَعَلْتَنِي أَنْتَظِرُهُ. ٥٠ هٰذِهِ هِيَ تَعْزِيَتِي فِي مَذَلَّتِي، لأَنَّ قَوْلَكَ أَحْيَانِي. ٥١ ٱلْمُتَكَبِّرُونَ ٱسْتَهْزَأُوا بِي إِلَى ٱلْغَايَةِ. عَنْ شَرِيعَتِكَ لَمْ أَمِلْ. ٥٢ تَذَكَّرْتُ أَحْكَامَكَ مُنْذُ ٱلدَّهْرِ يَا رَبُّ فَتَعَزَّيْتُ. ٥٣ ٱلْحَمِيَّةُ أَخَذَتْنِي بِسَبَبِ ٱلأَشْرَارِ تَارِكِي شَرِيعَتِكَ. ٥٤ تَرْنِيمَاتٍ صَارَتْ لِي فَرَائِضُكَ فِي بَيْتِ غُرْبَتِي. ٥٥ ذَكَرْتُ فِي ٱللَّيْلِ ٱسْمَكَ يَا رَبُّ وَحَفِظْتُ شَرِيعَتَكَ. ٥٦ هٰذَا صَارَ لِي لأَنِّي حَفِظْتُ وَصَايَاكَ».

(٤٩ – ٥٢) يأتي الآن إلى مقطع الزاي المثمن ويذكر أولاً أن كلمة الله هي رجاؤه وتعزيته في وسط متاعبه وآلامه الكثيرة لأن أولئك المرتدين لم يتركوه وشأنه بل عذبوه ومرروا حياته والآن يتمنى أن يتحقق وعد الله معه إلى التمام ذاك الذي انتظره طويلاً. وما هذا القول الذي قاله له الرب يا ترى؟ (راجع مزمور ٩٨: ٣ و١٠٦: ٤٥). هو ينتظر هذا القول مهما كان شأنه (راجع تكوين ٤١: ٥١). لقد كان له مجال للنهضة والانتعاش فإن أولئك الناس كانوا مستهزئين يتكبرون عليه ويسخرون به إلى أبعد الحدود ولكنه ثبت في شريعة الرب وتذكر الأحكام فتعزى.

(٥٣ – ٥٦) هو لا يخفي حمو غضبه على أولئك الأشرار الذين تركوا شريعة الرب وأهملوها ظهرياً. هو غيور للرب ولا يستطيع أن يكون حيادياً ولا أن يتساهل معهم فيما يحسبه جوهرياً في الحياة الروحية. ولكنه يعود إلى نفسه فيعتز بفرائض الرب ويحسبها ترنيمات مفرحة يترنم بها لكي ينسى همومه وأحزانه ويفرح بالرب. وأما «بيت غربته» فإنما هي هذه الحياة الدنيا التي يراها تمضي سريعاً حتى يحسب نفسه غريباً في الأرض (راجع مزمور ١١٥: ١٦). وأيضاً قابله مع (١أخبار ٢٩: ١٥) وهنا يجد فرقاً عن بيته الأبدي (راجع جامعة ٢: ٥) وكان اسم الرب له في الليل كما كان في النهار فهو يلتذ بأن يذكره على الدوام. هذا الذي صار معه ويقابله مع الآخرين الذين لم يصر معهم شيء من ذلك. فقد حفظ الوصايا وجعلها أمامه ليذكرها دائماً ويحيا بموجبها وتكون له سبب نعمة بدل اللعنة وسبب حياة حقيقية بدلاً من الموت الأبدي.

– ح –

«٥٧ نَصِيبِي ٱلرَّبُّ قُلْتُ، لِحِفْظِ كَلاَمِكَ. ٥٨ تَرَضَّيْتُ وَجْهَكَ بِكُلِّ قَلْبِي. ٱرْحَمْنِي حَسَبَ قَوْلِكَ. ٥٩ تَفَكَّرْتُ فِي طُرُقِي وَرَدَدْتُ قَدَمَيَّ إِلَى شَهَادَاتِكَ. ٦٠ أَسْرَعْتُ وَلَمْ أَتَوَانَ لِحِفْظِ وَصَايَاكَ. ٦١ حِبَالُ ٱلأَشْرَارِ ٱلْتَفَّتْ عَلَيَّ. أَمَّا شَرِيعَتُكَ فَلَمْ أَنْسَهَا. ٦٢ فِي مُنْتَصَفِ ٱللَّيْلِ أَقُومُ لأَحْمَدَكَ عَلَى أَحْكَامِ بِرِّكَ. ٦٣ رَفِيقٌ أَنَا لِكُلِّ ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَكَ وَلِحَافِظِي وَصَايَاكَ. ٦٤ رَحْمَتُكَ يَا رَبُّ قَدْ مَلأَتِ ٱلأَرْضَ. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ».

(٥٧ – ٦٤) يبدأ الآن بحرف آخر ويرى أن أعظم الغنى هو بأن يفهم كلمة الله ويطبقها على حياته اليومية ويجعل منها واسطة وسبيلاً لاسترضاء الله تعالى. بل يرى في كلمة الله أعظم نعمة وأشرف بركة للإنسان المؤمن. إن الرب نصيب المؤمن أي حصته وعونه ولكن على شرط أن يحفظ كلامه. بل هو يرى أن يهتدي إلى الطريق المستقيم ولا سبيل إلى ذلك إلا بتلك الاختبارات القيمة والشهادات الحسية من ماجريات الأحوال المنطبقة على كلام الله. لم يكن مبطئاً في انصرافه هذا بل أسرع لحفظ الوصايا لأنها تحفظه من الزلل والسقوط. وهو يرى أيضاً أن الأشرار في غوايتهم للناس كإنما لديهم حبال يريدون أن يعوقوا الآخرين فيها ولا شيء يحفظ هؤلاء سوى التمشي حسب الشريعة الإلهية كما قال السيد المسيح «تعرفون الحق والحق يحرركم».

ولأنه شكور لله بهذا المقدار فلا يفوته أن ينهض أحياناً ولو في نصف الليل لكي يتفكر ببر الرب ويحمده عليه. فهو لا يريد أن ينسى الإحسانات المتعددة وتذكره هذا يجعله أن يضعها أمامه في الليالي. ثم حينما ينهض ولا ينسى أن يرافق أولئك الأفاضل الذين يتقون الرب لأنه يفرح بمعاشرتهم ويلتذ بمخاطبتهم فيفيدهم ويستفيد منهم (راجع أمثال ٣٨: ٢٤). ثم هو بالاشتراك مع أولئك المتقين يرى آثار الرحمة الإلهية مالئة الأرض. وبكل تواضع يلتمس كأنه تلميذ جديد – أن يتعلم فرائض الرب لكي يتمم الوصايا بحذافيرها.

– ط –

«٦٥ خَيْراً صَنَعْتَ مَعَ عَبْدِكَ يَا رَبُّ حَسَبَ كَلاَمِكَ. ٦٦ ذَوْقاً صَالِحاً وَمَعْرِفَةً عَلِّمْنِي لأَنِّي بِوَصَايَاكَ آمَنْتُ. ٦٧ قَبْلَ أَنْ أُذَلَّلَ أَنَا ضَلَلْتُ، أَمَّا ٱلآنَ فَحَفِظْتُ قَوْلَكَ. ٦٨ صَالِحٌ أَنْتَ وَمُحْسِنٌ. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ. ٦٩ ٱلْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ لَفَّقُوا عَلَيَّ كَذِباً، أَمَّا أَنَا فَبِكُلِّ قَلْبِي أَحْفَظُ وَصَايَاكَ. ٧٠ سَمِنَ مِثْلَ ٱلشَّحْمِ قَلْبُهُمْ، أَمَّا أَنَا فَبِشَرِيعَتِكَ أَتَلَذَّذُ. ٧١ خَيْرٌ لِي أَنِّي تَذَلَّلْتُ لِكَيْ أَتَعَلَّمَ فَرَائِضَكَ. ٧٢ شَرِيعَةُ فَمِكَ خَيْرٌ لِي مِنْ أُلُوفِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ».

(٦٥ – ٧٢) ينتقل الآن إلى حرف الطاء ويرى المرنم أن كلمة الله الصالحة هي أصل لكل صلاح. فقد صنع الخير لأنه تعلمه من الله ذاته الذي هو أصل لكل خير. ويستعمل كلمة «عبدك» للدلالة على تلك العلاقة بين الله ومتقيه (راجع مزمور ٣٥: ١٩ و٤٨: ١١ وأمثال ٣٠: ٢١). وفوق ذلك يريد أن يكون له الذوق الصالح الذي يجعله يحس بالفضل ويكرم الفضلاء ويميز بين غث الأمور وسمينها. وهو لا يكتم حالته من قبل فهو يعترف أنه قد ضل السبيل ولكنه قد تذلل الآن أمام الرب تائباً طالباً العفو والغفران وقد وجد العون ونال الإسعاف حينما تأكد أن الله صالح محسن. ثم يلتفت إلى الماضي ولا يسعه إلا أن يذكر بمرارة ما اختبره من الكذب والاحتيال ولكنها أشياء مضت فيعود للحاضر بالشكر والحمد ولا يرى أفضل من حفظ الوصايا أما أولئك الأشرار فيظهرون أمام الناس بخير وتوفيق مع أن لذتهم هي في أمور الدنيا وأوهامها بينما هو لا يلتذ إلا بالشريعة يتفكر بها ويهذّ بها في الأسحار. ويحمد الله مرة أخرى لما تذلّله في الماضي فقد تعلم بواسطة ذلك وتقدم وترقى وحينما يقابل نفسه بأولئك الذين ذكرهم يرى أن أولئك لهم المال من ألوف الذهب والفضة في مال الدنيا ولكنه غني بما هو للروح. فهو يعترف أن المصائب كانت مدرسته وإن المتاعب كانت دروسه التي تعلمها ولكنه فرحان بما حصل عليه ويشكر الله أنه ليس مثل القوم الجاهلين المعتمدين على غناهم.

– ي –

«٧٣ يَدَاكَ صَنَعَتَانِي وَأَنْشَأَتَانِي. فَهِّمْنِي فَأَتَعَلَّمَ وَصَايَاكَ. ٧٤ مُتَّقُوكَ يَرَوْنَنِي فَيَفْرَحُونَ لأَنِّي ٱنْتَظَرْتُ كَلاَمَكَ. ٧٥ قَدْ عَلِمْتُ يَا رَبُّ أَنَّ أَحْكَامَكَ عَدْلٌ، وَبِالْحَقِّ أَذْلَلْتَنِي. ٧٦ فَلْتَصِرْ رَحْمَتُكَ لِتَعْزِيَتِي حَسَبَ قَوْلِكَ لِعَبْدِكَ. ٧٧ لِتَأْتِنِي مَرَاحِمُكَ فَأَحْيَا لأَنَّ شَرِيعَتَكَ هِيَ لَذَّتِي. ٧٨ لِيَخْزَ ٱلْمُتَكَبِّرُونَ لأَنَّهُمْ زُوراً ٱفْتَرُوا عَلَيَّ. أَمَّا أَنَا فَأُنَاجِي بِوَصَايَاكَ. ٧٩ لِيَرْجِعْ إِلَيَّ مُتَّقُوكَ وَعَارِفُو شَهَادَاتِكَ. ٨٠ لِيَكُنْ قَلْبِي كَامِلاً فِي فَرَائِضِكَ لِكَيْ لاَ أَخْزَى».

نأتي الآن إلى مجموعة حرف الياء وهي من الأعداد (٧٣ – ٨٠) ويرى المرنم أن الله يذل ولكنه يعود فيرفع بحسب كلمته الإلهية. ذلك لأن الله هو الذي صنعه من العدم هو الذي علمه وخلصه من الجهل وهكذا سيجعله مثالاً للمتقين يرون ما حل به فيفرحون كما أن الأعداء الأشرار يرون فيرتبكون. وليس من المعقول قط أن الله يترك الإنسان الذي صنعه بيديه ولا يجعله سعيداً مكتفياً. والمرنم يتأكد أن ما أصابه في الماضي كان يستحقه يقيناً وجميع تلك الأحكام كانت صادقة وعادلة ولا يجوز له أن يطلب أي إنصاف أكثر. ولكنه يلتفت إلى رحمة الرب (في العدد ٧٦) ويطلب النجدة بها. ويرى أيضاً في العدد بعده أن هذه المراحم هي سبب حياته وبدونها فهو مقضى عليه بالموت. بل هو يرى أكثر من ذلك فيجد لذة عظيمة في هذه الشريعة والسبب لأنه يتكل على مواعيد الرب ويثق بأن جميع أقواله هي صادقة أمينة.

ويلتفت (في العدد ٧٨) إلى أولئك المتكبرين الذين هزأوا به من قبل واتهموه بأمور كثيرة زوراً وبهتاناً بل افتروا عليه افتراء وحاولوا النيل منه بكل الوسائل الممكنة وهو لم يهتم بهم ولم يصغ لأقوالهم بل يناجي بوصايا الرب. وإذا كان يأسف فأسفه لأولئك الأتقياء الذين تركوه في محنته ولم يعضدوه وهو الآن يرجو أن يعودوا وينصروه لأنهم يعرفون الشيء الكثير من الاختبارات القيمة. ثم يرجو في العدد ٨٠ أن يكون قلبه كاملاً في أي حال من الأحوال وبقطع النظر عما يصادفه من الصعاب حتى لا يخزى في شيء بل يظل بين الفائزين.

– ك –

«٨١ تَاقَتْ نَفْسِي إِلَى خَلاَصِكَ. كَلاَمَكَ ٱنْتَظَرْتُ. ٨٢ كَلَّتْ عَيْنَايَ مِنَ ٱلنَّظَرِ إِلَى قَوْلِكَ، فَأَقُولُ: مَتَى تُعَزِّينِي؟ ٨٣ لأَنِّي قَدْ صِرْتُ كَزِقٍّ فِي ٱلدُّخَانِ. أَمَّا فَرَائِضُكَ فَلَمْ أَنْسَهَا. ٨٤ كَمْ هِيَ أَيَّامُ عَبْدِكَ؟ مَتَى تُجْرِي حُكْماً عَلَى مُضْطَهِدِيَّ؟ ٨٥ ٱلْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ كَرُوا لِي حَفَائِرَ. ذٰلِكَ لَيْسَ حَسَبَ شَرِيعَتِكَ. ٨٦ كُلُّ وَصَايَاكَ أَمَانَةٌ. زُوراً يَضْطَهِدُونَنِي. أَعِنِّي. ٨٧ لَوْلاَ قَلِيلٌ لأَفْنُونِي مِنَ ٱلأَرْضِ. أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَتْرُكْ وَصَايَاكَ. ٨٨ حَسَبَ رَحْمَتِكَ أَحْيِنِي فَأَحْفَظَ شَهَادَاتِ فَمِكَ».

أما مجموعة الكاف وهي (الأعداد ٨١ – ٨٨) فتعرب عن تعلق قلبه بوصايا الرب التي بواسطتها له الخلاص. ويصور شدة شوقه بأن عينيه قد كلتا من النظر إلى كلام الرب ومطالعة أقواله وكذلك فإن نفسه قد تعبت من مصادفة أمور لم تتوقعها (انظر مزمور ٦٩: ٤ و٨٤: ٣ وقابلها مع أيوب ١٩: ٢٩). أما قوله في (العدد ٨٣) «كزق في الدخان» أي أنه مملوء بالكمد والسواد من شدة ما أصابه. وقد اعتاد الإنسان من قديم الأزمنة أن يستعجل اختمار عصير العنب بأن يضعه قرب النار. فيقول ومع أن حالتي سيئة على هذه الصورة ولكن الفرائض المتوجبة عليه فيتممها بحذافيرها بقطع النظر عما يصيبه من ويلات ونكبات. وقوله في (العدد ٨٤) كم هي أيام عبدك؟ تفيد التعجب أي ما أقل أيام عبدك لذلك هو يلتمس أن يجري الله حكمه على أولئك المضطهدين قبل موته وفوات الآوان فلا يرى بمضطهديه. أولئك المتكبرون الذين ظهرت نواياهم السيئة بأن حاولوا أن يحفروا له حفائر مما لا ينطبق على شريعة الرب. ولكن شتان بين ما يفعله هو وما يفعلونه هم. فهو لأنه يتمشى بحسب شريعة الرب التي تفرض الأمانة فهم يعيشون بالزور وعدم الأمانة. لقد حاول هؤلاء من قبل أن يقضوا عليه قضاء تاماً ولكنه لم يتحول عن قصده الذي وضعه أمامه. وهكذا يلتمس رحمة من الرب بعد لكي تكون له حياة ولا يجد سبيلاً أضمن لإتيان هذه الرحمة عليه سوى حفظ الشهادات الخارجة من فم الرب.

– ل –

«٨٩ إِلَى ٱلأَبَدِ يَا رَبُّ كَلِمَتُكَ مُثَبَّتَةٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. ٩٠ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ أَمَانَتُكَ. أَسَّسْتَ ٱلأَرْضَ فَثَبَتَتْ. ٩١ عَلَى أَحْكَامِكَ ثَبَتَتِ ٱلْيَوْمَ لأَنَّ ٱلْكُلَّ عَبِيدُكَ. ٩٢ لَوْ لَمْ تَكُنْ شَرِيعَتُكَ لَذَّتِي لَهَلَكْتُ حِينَئِذٍ فِي مَذَلَّتِي. ٩٣ إِلَى ٱلدَّهْرِ لاَ أَنْسَى وَصَايَاكَ لأَنَّكَ بِهَا أَحْيَيْتَنِي. ٩٤ لَكَ أَنَا فَخَلِّصْنِي لأَنِّي طَلَبْتُ وَصَايَاكَ. ٩٥ إِيَّايَ ٱنْتَظَرَ ٱلأَشْرَارُ لِيُهْلِكُونِي. بِشَهَادَاتِكَ أَفْطَنُ. ٩٦ لِكُلِّ كَمَالٍ رَأَيْتُ حَدّاً، أَمَّا وَصِيَّتُكَ فَوَاسِعَةٌ جِدّاً».

ننتقل الآن إلى مجموعة أخرى من هذه المجموعات القيمة وهي من (الاعداد ٨٩ – ٩٦). فيمجّد الآن كلمة الرب بصورة جذابة ويراها ثابتة منذ الأبد هي هي لأنها في السموات هكذا ولأنها هكذا فالمؤمن يلتصق بها ويتعزى بواسطتها عن النكبات التي صادفها جميعها. ولأنها شرائع سماوية فهي تحوي صفات السماء ولا سيما الثبوت وعدم التغير. هوذا الشمس والقمر والنجوم تبقى راسخة في أماكنها. وقوله في العدد ٩١ «الكل عبيدك» أي كل هذه المخلوقات التي تخضع لأمر الرب وتتمم خدمته (راجع العدد ٣٥: ١٢ ويشوع ٢٠: ٦ وحزقيال ٤٤: ٢٤). وحينما يراجع المرنم تلك الأوقات العصيبة التي مرت به يجد أن هذه الشريعة الإلهية التي حفظها عن لذة وسار بموجبها بخضوع وتسليم ولولاها لهلك ذلاً ومسكنة. وهو الآن لا ينسى هذه الوصايا لأنها كانت سبب حياته. ويخصص نفسه لله لأنه يسمع الوصايا ويحفظها بل يتمشى بموجبها ويتبعها. أما أولئك الأشرار الذين قصدوا هلاكه والقضاء عليه نهائياً فلم يقدروا عليه لأن حجته في الحق كانت أقوى من حجتهم في الباطل وكان يفطن بشهادات الرب فيجيب بالصواب. على كل افتراءاتهم. لقد انتظره الأشرار أي كمنوا له في الطريق محاولين أن يفتكروا به ولكنهم خسئوا جميعاً لأن قوة الله أعظم من قوتهم ولأن شهادات الله هي أسمى من كل محاولاتهم لذلك فهم سيبؤون بالفشل والخذلان. ويختم هذ المجموعة بأن يمجد مرة أخرى هذه الكلمة الإلهية ويراها أعظم من أن تحد بينما كل كمال بشري قد يبلغه الإنسان أي هذا من كمال كلمة الله.

– م –

«٩٧ كَمْ أَحْبَبْتُ شَرِيعَتَكَ! ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ هِيَ لَهَجِي. ٩٨ وَصِيَّتُكَ جَعَلَتْنِي أَحْكَمَ مِنْ أَعْدَائِي لأَنَّهَا إِلَى ٱلدَّهْرِ هِيَ لِي. ٩٩ أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مُعَلِّمِيَّ تَعَقَّلْتُ، لأَنَّ شَهَادَاتِكَ هِيَ لَهَجِي. ١٠٠ أَكْثَرَ مِنَ ٱلشُّيُوخِ فَطِنْتُ لأَنِّي حَفِظْتُ وَصَايَاكَ. ١٠١ مِنْ كُلِّ طَرِيقِ شَرٍّ مَنَعْتُ رِجْلَيَّ لِكَيْ أَحْفَظَ كَلاَمَكَ. ١٠٢ عَنْ أَحْكَامِكَ لَمْ أَمِلْ لأَنَّكَ أَنْتَ عَلَّمْتَنِي. ١٠٣ مَا أَحْلَى قَوْلَكَ لِحَنَكِي! أَحْلَى مِنَ ٱلْعَسَلِ لِفَمِي. ١٠٤ مِنْ وَصَايَاكَ أَتَفَطَّنُ، لِذٰلِكَ أَبْغَضْتُ كُلَّ طَرِيقِ كَذِبٍ».

(٩٧ – ١٠٤) هذه مجموعة الميم وفيها يظهر المرنم قيمة الحكمة العملية التي تجعلها كلمة الرب وشريعته. فهو لأنه أحب الشريعة ولهج بها وعرف الوصايا وتممها لذلك يجد نفسه حكيماً بل أحكم من أولئك الأعداء الذين لا يعرفون سوى الخبث والمكر. هم حكماء فيما للعالم ولكنها هي الجهالة في عيني الرب وشتان بين حكمة الله وحكمة العالم. ويرى المرنم أنه يفوق حتى معلميه الذين درسوا الناموس على أيديهم لأنه ثابر على الدرس وطبق الوصايا وثابر على اللهج بالشهادات الإلهية حتى بلغ حد الكمال (راجع تثنية ٤: ٦ كذلك راجع ايوب ١٢: ٢٠). ويظهر أنه كان في ذاك الحين بعض مدعي المعرفة ولقبوا أنفسهم بالحكماء ولكن المرنم يرى أن لا حكمة إلا تلك المقترنة بشريعة الله والمنطبقة على وصاياه. فقد رأى في أولئك المعلمين فتوراً في الأمور الدينية والآداب مما جعله ينفر منهم حتى الشيوخ أنفسهم قد فاتهم أمور كثيرة ولم يفطنوا لأسمى الأشياء وهو معرفة الحق الإلهي والتمييز بين الخير والشر (راجع يوئيل ١: ٢٠ وكذلك إشعياء ٥٩: ١٢). وهو يرى أن أحكام الرب هي التي تحفظه وتقيه وعليه أن لا يميل عنها يمنة ولا يسرة ويجد الرب ذاته هو معلمه الأول والأخير. وهكذا يجد كلام الرب حلواً في الحنك ولذيذاً في الفم لأنه به يتعزى ويعزي وبواسطته يتقوى ويقوّي الآخرين. بل به يجد الموعظة ويحفظ الذكرى لئلا ينسى. وهكذا يضع الوصايا أمامه ولأنها صادقة وأمينة لذلك قد رأى من الحكمة أن يبغض كل طريق كذب ويبعد عنه بعداً تاماً.

– ن –

«١٠٥ سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي. ١٠٦ حَلَفْتُ فَأَبِرُّهُ أَنْ أَحْفَظَ أَحْكَامَ بِرِّكَ. ١٠٧ تَذَلَّلْتُ إِلَى ٱلْغَايَةِ. يَا رَبُّ أَحْيِنِي حَسَبَ كَلاَمِكَ. ١٠٨ ٱرْتَضِ بِمَنْدُوبَاتِ فَمِي يَا رَبُّ، وَأَحْكَامَكَ عَلِّمْنِي. ١٠٩ نَفْسِي دَائِماً فِي كَفِّي، أَمَّا شَرِيعَتُكَ فَلَمْ أَنْسَهَا. ١١٠ ٱلأَشْرَارُ وَضَعُوا لِي فَخّاً، أَمَّا وَصَايَاكَ فَلَمْ أَضِلَّ عَنْهَا. ١١١ وَرَثْتُ شَهَادَاتِكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ لأَنَّهَا هِيَ بَهْجَةُ قَلْبِي. ١١٢ عَطَفْتُ قَلْبِي لأَصْنَعَ فَرَائِضَكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ إِلَى ٱلنِّهَايَةِ».

هذه مجموعة النون المثمنة أيضاً في الأعداد (١٠٥ – ١١٢). ولأنه عرف أن سبيل الوصايا هو وحده الذي يوصل للخير ويبعده عن الشر حتى يبغض الكذب وجميع أساليبه. لذلك هو الآن يرى في كلام الرب سراجاً ونوراً فلا تزلق الرجل ولا تعثر بل تمشي في طريق مستقيم آمنة مطمئنة. لقد رأى من قبل طريق المنافقين إنها مظلمة تقود للتهلكة والدمار وهكذا قد حلف لنفسه من قبل وما عليه الآن إلا أن يكون باراً مخلصاً في عهوده السابقة. لقد كفاه ما مر به في الماضي وما ناله من ذل وهو الآن يطلب حياة ولا يجدها إلا بكلام الرب المعزي المحيي. في العدد ١٠٨ يذكر «مندوبات» فمه أي تلك الكلمات الخارجة من فمه دون كلفة أو تصنع. فهو يتكلم بكلام الله عفواً ومن كل قلبه فلا يقول شيئاً لا يعنيه لأنه يطلب أن يتعلم أحكام الرب. وفي العدد ١٠٩ يجد نفسه في كفه أي أنه في حالة الخطر المستمر وهو يعرف ذلك أما الشريعة الإلهية فلا يمكن أن ينساها. لقد كان له اختبارات مرة مع أولئك الأشرار الذين وضعوا الفخاخ في طريقه ليسقطوه فيها. ربما تعثر في سبيله بعض الأحيان ولكنه لم يتعثر في الوصايا ولم يضل السبيل (راجع قضاة ١٢: ٣ و١صموئيل ١٩: ٥ و٢٨: ٢١ وأيوب ١٣: ١٤). هو يظهر استعداده للمخاطرة من أجل كلمة الله تلك التي ورثها عن الآباء والأجداد غالية على قلبه فلا يمكنه أن يستخف بها قط. لا سيما وقد كان له اختبارات شخصية ولذة روحية وهكذا تحرك قلبه لصنع الفرائض فهو يفعل ذلك عن يقين وليس لمجرد مرضاة الناس وهو يفعله باستمرار لا حسب الأهواء والنزعات فهو ثابت العقيدة إلى الدهر.

– س –

«١١٣ ٱلْمُتَقَلِّبِينَ أَبْغَضْتُ، وَشَرِيعَتَكَ أَحْبَبْتُ. ١١٤ سِتْرِي وَمِجَنِّي أَنْتَ. كَلاَمَكَ ٱنْتَظَرْتُ. ١١٥ ٱنْصَرِفُوا عَنِّي أَيُّهَا ٱلأَشْرَارُ فَأَحْفَظَ وَصَايَا إِلٰهِي. ١١٦ ٱعْضُدْنِي حَسَبَ قَوْلِكَ فَأَحْيَا، وَلاَ تُخْزِنِي مِنْ رَجَائِي. ١١٧ أَسْنِدْنِي فَأَخْلُصَ وَأُرَاعِيَ فَرَائِضَكَ دَائِماً. ١١٨ ٱحْتَقَرْتَ كُلَّ ٱلضَّالِّينَ عَنْ فَرَائِضِكَ لأَنَّ مَكْرَهُمْ بَاطِلٌ. ١١٩ كَزَغَلٍ عَزَلْتَ كُلَّ أَشْرَارِ ٱلأَرْضِ، لِذٰلِكَ أَحْبَبْتُ شَهَادَاتِكَ. ١٢٠ قَدِ ٱقْشَعَرَّ لَحْمِي مِنْ رُعْبِكَ، وَمِنْ أَحْكَامِكَ جَزِعْتُ».

يأتي الآن إلى مجموعة السين (١١٣ – ١٢٠) فهو لا يكتفي أن يرى نفسه ثابتاً راسخاً بل يدعو الآخرين أن يفعلوا مثله وينحي باللوم على أولئك المتقلبين ذوي الرأيين واللسانين فلا يكادون يثبتون على أي شيء. ذلك لأنه يرى لا رجاء له سوى اتكاله على كلمة الرب. فهي وحدها التي تعطيه القوة والثبات فقوته هي من الله لا من نفسه. ذلك الإله الذي كان له ستراً ومجناً يتقي به سهام الأعداء ولم يعبأ بكل مكايدهم. ويظهر في العدد ١١٥ كأنه يدافع عن نفسه من تملقاتهم فقد أرادوا أن يصرفوه عن الوصايا ولكنه ثبت في وجههم غير مبال بكل ترهاتهم. ولكنه يشعر في قرارة نفسه بالحاجة إلى النعمة الإلهية (راجع إشعياء ٤١: ٢٣). فهو يحتاج لمن يسنده في كفاحه الشديد هذا ولولا ذلك لما استطاع الخلاص ويطلب أن يراعي الفرائض ويتمشى بموجبها دواماً. فقد احتقر الضالين ووجد أن مكرهم باطل لا يمكن أن يردوه عن طريقه التي اتبعها وهكذا كان تأثيرهم عليه معاكساً لما أرادوه فانتصر عليهم بالتالي انتصاراً عظيماً. وهكذا فقد تجنب أولئك الأشرار على حد قول الشاعر:

واحذر مصاحبة اللئيم فإنه يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب


بل قد حسبهم مثل الزغل الذي يُرمى جانباً لكي يبقى ما هو ذو نفع وقيمة. وهو ينظر بصورة عامة إلى الأشرار جميعهم فيرى أن يعتزل مصاحبتهم لأنه يحب شريعة الرب وشهاداته وأولئك لا يحبونها فكيف يستطيع مسايرتهم بعد. ويختم هذا المثمن بأن يظهر لنا خوفه من كلام الرب إذا كان لا يتممه فينال اللعنة بدلاً من البركة (راجع لاويين ٢٦ وتثنية ٢٨) ذلك الإله الذي يستطيع أن يجري أحكامه بكل شدة وصرامة (راجع خروج ٣٤: ٧).

– ع –

«١٢١ أَجْرَيْتُ حُكْماً وَعَدْلاً. لاَ تُسْلِمْنِي إِلَى ظَالِمِيَّ. ١٢٢ كُنْ ضَامِنَ عَبْدِكَ لِلْخَيْرِ لِكَيْ لاَ يَظْلِمَنِي ٱلْمُسْتَكْبِرُونَ. ١٢٣ كَلَّتْ عَيْنَايَ ٱشْتِيَاقاً إِلَى خَلاَصِكَ وَإِلَى كَلِمَةِ بِرِّكَ. ١٢٤ ٱصْنَعْ مَعَ عَبْدِكَ حَسَبَ رَحْمَتِكَ، وَفَرَائِضَكَ عَلِّمْنِي. ١٢٥ عَبْدُكَ أَنَا. فَهِّمْنِي فَأَعْرِفَ شَهَادَاتِكَ. ١٢٦ إِنَّهُ وَقْتُ عَمَلٍ لِلرَّبِّ. قَدْ نَقَضُوا شَرِيعَتَكَ. ١٢٧ لأَجْلِ ذٰلِكَ أَحْبَبْتُ وَصَايَاكَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلإِبْرِيزِ. ١٢٨ لأَجْلِ ذٰلِكَ حَسِبْتُ كُلَّ وَصَايَاكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مُسْتَقِيمَةً. كُلَّ طَرِيقِ كَذِبٍ أَبْغَضْتُ».

ينتقل الآن إلى مثمن العين في (الأعداد ١٢١ – ١٢٨) ففي وقت الارتداد بسبب الاضطهاد يرى المرنم أن يتمسك بكلام الله بأكثر إخلاص وقوة ويلتمس منه تعالى ألا يسلمه إلى أولئك الظالمين الذين استهانوا بكلمته ونقضوا عهده. يطلب أن يكون في حماية الله لكي يستطيع أن يثبت إلى المنتهى وهكذا يسلم من ظلم المتكبرين الذين لا يراعون حرمة ولا يحفظون عهداً. وهو ينتظر وقد طال انتظاره فيريد أن يتحقق صدق مواعيد الرب فيشتاق للخلاص كما يتمنى أن تتحقق تلك النبوآت التي يجدها في كلمة الله. ولا يمكنه إلا أن يتفاخر بانتمائه إلى الرب لذلك يطلب أن يفهم هذه الشريعة بعد حتى يعرفها حق المعرفة. ولا يكتفي بهذه المعرفة بل ينتقل إلى دور العمل (راجع تكوين ٣٠: ٣٠ وإشعياء ٦٤: ٣ و٤ وحزقيال ٢٩: ٢٠) ولكن هذا العمل لأجل الرب حتى يكون مجدياً يجب أن يعتمد على الشريعة ولا ينسى الوصايا قط تلك الوصايا التي هي بحد ذاتها ثمينة تفوق الذهب الإبريز. والمرنم لا يستطيع أن يتساهل مع أولئك المستهترين الذين أحبوا الباطل وأبغضوا الحق وساروا وراء الكذب والخداع ولم يهتموا بما هي لخير نفوسهم الحقيقي. وهو يرى في أولئك اليهود الذين سايروا أكثر من اللازم في أمر دينهم أعظم خطر على الأمة وليس على ذواتهم فقط. لذلك فإن الوصايا وحدها هي المستقيمة ولا يركن إلى أي شيء ما عداها وهكذا قد أبغض الكذب وكل التفسيرات التي لا تنطبق على روح الشريعة لأنها مضلة وغير صحيحة من أساسها.

– ف –

«١٢٩ عَجِيبَةٌ هِيَ شَهَادَاتُكَ لِذٰلِكَ حَفِظَتْهَا نَفْسِي. ١٣٠ فَتْحُ كَلاَمِكَ يُنِيرُ يُعَقِّلُ ٱلْجُهَّالَ. ١٣١ فَغَرْتُ فَمِي وَلَهَثْتُ لأَنِّي إِلَى وَصَايَاكَ ٱشْتَقْتُ. ١٣٢ ٱلْتَفِتْ إِلَيَّ وَٱرْحَمْنِي كَحَقِّ مُحِبِّي ٱسْمِكَ. ١٣٣ ثَبِّتْ خُطُوَاتِي فِي كَلِمَتِكَ وَلاَ يَتَسَلَّطْ عَلَيَّ إِثْمٌ. ١٣٤ ٱفْدِنِي مِنْ ظُلْمِ ٱلإِنْسَانِ فَأَحْفَظَ وَصَايَاكَ. ١٣٥ أَضِئْ بِوَجْهِكَ عَلَى عَبْدِكَ وَعَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ. ١٣٦ جَدَاوِلُ مِيَاهٍ جَرَتْ مِنْ عَيْنَيَّ لأَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوا شَرِيعَتَكَ».

ينتقل الآن إلى مثمنة الفاء في (الأعداد ١٢٩ – ١٣٦) وهو لا يكتم تألمه ومرارة نفسه من أولئك الذين لا يعيرون اهتمامهم إلى كلام الله ولا يحفظون شرائعه ولا يمشون بموجب وصاياه وكلما تألم من أجل هؤلاء كلما رأيناه يزيد تمسكاً بتعاليم الله ويرى في شهاداته عجباً ويسرع في حفظها حتى تقيه من كل المخاطر. وقوله «حفظتها نفسي» ليس بالنسبة للحفظ غيباً وعن ظهر القلب بل لكي يزداد تمسكاً وفيها تأملاً حتى تصبح جزءاً من حياته الروحية لا يمكن أن يتجزأ وقوله في العدد ١٣٠ «فتح كلامك» أي بدء كلامك أي منذ الشروع فيه يتحول نوراً لامعاً ويعطي معرفة وحكمة (راجع أمثال ٢٢: ٣). يفغر فاه ويلهث من شدة لهجه بهذا الكلام (راجع أيوب ٢٩: ٢٣ وقابله مزمور ٨١: ١١). ثم يلتفت إلى إلهه ويرجوه الرحمة وهذه يطلبها كحق له لأن الذين يحبون الله ينتظرون رحمته أيضاً. ولا يعني إلا أن هذه الرحمة تصبح شيئاً طبيعياً تأتي من نفسها ولا يفرضها شرطاً لمحب الله أي أنه لا يبطل محبته إذا كان الله لا يرحمه بل هو واثق ومسلم لله بالتمام. وهكذا فإن كل ما يرجوه هو أن يبقى ثابت الخطى باراً في أعماله ولا يكون للإثم أي تأثير حقيقي في حياته بل لا يكون لظلم الإنسان مهما عظم وتقوى أي دافع له يدفعه عن طريق الحق والواجب الذي رآه أمامه من قبل. إن محبة الله تعطيه الفداء أي تفك أساره وتنير طريقه وتثبت خطواته فلا يتزعزع فيما بعد. وأخيراً يختم كلمته في هذا المثمن بإظهار تأسفه على حالة أولئك الأشرار فيبكي من أجلهم بكاء مراً حتى يشبه دموعه بجداول المياه الجارية تأسفاً على عدم حفظهم للوصايا والشرائع.

– ص –

«١٣٧ بَارٌّ أَنْتَ يَا رَبُّ وَأَحْكَامُكَ مُسْتَقِيمَةٌ. ١٣٨ عَدْلاً أَمَرْتَ بِشَهَادَاتِكَ وَحَقّاً إِلَى ٱلْغَايَةِ. ١٣٩ أَهْلَكَتْنِي غَيْرَتِي لأَنَّ أَعْدَائِي نَسَوْا كَلاَمَكَ. ١٤٠ كَلِمَتُكَ مُمَحَّصَةٌ جِدّاً وَعَبْدُكَ أَحَبَّهَا. ١٤١ صَغِيرٌ أَنَا وَحَقِيرٌ، أَمَّا وَصَايَاكَ فَلَمْ أَنْسَهَا. ١٤٢ عَدْلُكَ عَدْلٌ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَشَرِيعَتُكَ حَقٌّ. ١٤٣ ضِيقٌ وَشِدَّةٌ أَصَابَانِي، أَمَّا وَصَايَاكَ فَهِيَ لَذَّاتِي. ١٤٤ عَادِلَةٌ شَهَادَاتُكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ. فَهِّمْنِي فَأَحْيَا».

هوذا الآن حرف الصاد وآياتها الثماني تظهر أن الله يجري أحكامه بالبر والأمانة لا شيء من الاعوجاج فيها بل كلها عدالة وإنصاف وحق. فما يقوله الله وما يفعله هو منطبق الواحد على الآخر لا شيء من التغير فيه البتة. والمرنم يرى هذا يقيناً ويعرفه قلبياً ولكنه يرى أن الآخرين يهملون هذه الحقيقة ولا يتمسكون بها كما يجب لذلك يجد نفسه غيوراً للرب كما فعل إيليا قديماً (راجع ١ملوك ١٩: ١٠ وما بعده). وهو لا يستطيع أن يرى سوى أعداء الله هم أعداؤه الحقيقيون لا يمكنه أن يتساهل معهم ولا أن يرضى عن أعمالهم فهو كالنار يحترق من أجلهم ولو أنهم عقلوا لحفظوا كلمة الرب ورأوا مثله أنها وحدها هي التي تفحص دخائل الإنسان. وعلى العاقل عندئذ أن يحبها من كل قلبه. وهو يفعل ذلك بكل تواضع ويعترف بحقارته وصغارته ولكنه في الوقت ذاته لا ينسى الوصايا بل يتمسك بها لأنها طريق الحياة والكرامة. ويجد في عدل الرب شيئاً ثابتاً أبدياً لا يتبدل بحسب الأشخاص ولا بحسب الظروف والأهواء وأن الشريعة حق يبقى لأنها من الله وهو لا ينكر أن ما أصابه من الضيق والشدة كان بسبب هذا الموقف الشريف الذي وقفه ولكن هذا لا يتعادل مع اللذة التي شعر بها بل تلك اللذات المتكررة التي ملأت قلبه وهو يراجع الوصايا والأحكام والشهادات. بل هو يرى أيضاً أن يقتنع كل الناس مثله بهذه العدالة الإلهية وهكذا يمجدون الله القدير الذي أوجدها ويجريها على جميع بني البشر. ويختم كلمته بطلب الفهم لكي تكون له هذه الحياة البارة التي تخترق إلى داخل الأشياء.

– ق –

«١٤٥ صَرَخْتُ مِنْ كُلِّ قَلْبِي. ٱسْتَجِبْ لِي يَا رَبُّ. فَرَائِضَكَ أَحْفَظُ. ١٤٦ دَعَوْتُكَ. خَلِّصْنِي فَأَحْفَظَ شَهَادَاتِكَ. ١٤٧ تَقَدَّمْتُ فِي ٱلصُّبْحِ وَصَرَخْتُ. كَلاَمَكَ ٱنْتَظَرْتُ. ١٤٨ تَقَدَّمَتْ عَيْنَايَ ٱلْهُزُعَ لِكَيْ أَلْهَجَ بِأَقْوَالِكَ. ١٤٩ صَوْتِيَ ٱسْتَمِعْ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. يَا رَبُّ، حَسَبَ أَحْكَامِكَ أَحْيِنِي. ١٥٠ ٱقْتَرَبَ ٱلتَّابِعُونَ ٱلرَّذِيلَةَ. عَنْ شَرِيعَتِكَ بَعُدُوا. ١٥١ قَرِيبٌ أَنْتَ يَا رَبُّ، وَكُلُّ وَصَايَاكَ حَقٌّ. ١٥٢ مُنْذُ زَمَانٍ عَرَفْتُ مِنْ شَهَادَاتِكَ أَنَّكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ أَسَّسْتَهَا».

أمامنا الآن مثمن آخر هو من الأعداد ١٤٥ – ١٥٢ وهو يرى أن الأمانة في العبادة والتمسك بكلام الله هما من أفعل الوسائل لنيل خلاص الرب. وصلاته هي أشبه بالصراخ ويفعل ذلك من كل قلبه ويدعم طلبته هذه بحفظه فرائض الرب ولذلك ينتظر أن يسمع استجابة لطلبته. وهو إذا طلب الخلاص فإنما لكي يحفظ الشهادات ولا يتأخر قط بل إنه في الغداة والصبح الباكر ينهض لأجل تتميم فروض العبادة. وقد يكون المعنى أنه قبل أن يكون الصبح فهو في هزع الليل لا يزال يلهج بأقوال الله ويلتمس منه بحرارة لكي ينجيه (راجع المراثي ٢: ١٩). والمرنم يرجو الله لكي يسمع له ليس بنسبة ما يستحق بل بالنسبة للرحمة العظيمة التي يشمله بها. ومرة أخرى يكرر أن الرب يحييه فقط برحمته المنطبقة على أحكامه الإلهية فهو لا يريد موت الخاطئ بل رجوعه وتوبته. وفي العدد ١٥٠ يذكر أن هؤلاء الأشرار قد اقتربوا إليه يريدون مهاجمته والقضاء عليه إن استطاعوا وهم يفعلون ذلك على قدر بعدهم عن الشريعة الإلهية. يكادون أن ينقضوا عليه لابتلاعه فجميع مقاصدهم شريرة من أصلها (راجع مزمور ٦٩: ١٩ وإشعياء ٥٨: ٢) ولكنه يلتفت إلى الله فيجده قريباً إليه لكي يسرع إلى معونته ونجدته. هذه الوصايا وهذه الشهادات التي اختبرها منذ زمان طويل هي لتبقى إلى الأبد ولا تندثر قط. لذلك فما اكتفى به المرتدون عن إيمانهم إنما هو زائل وقتي ومتى عادوا إلى رشدهم سوف يندمون ولكن لات ساعة مندم.

– ر –

«١٥٣ اُنْظُرْ إِلَى ذُلِّي وَأَنْقِذْنِي لأَنِّي لَمْ أَنْسَ شَرِيعَتَكَ. ١٥٤ أَحْسِنْ دَعْوَايَ وَفُكَّنِي. حَسَبَ كَلِمَتِكَ أَحْيِنِي. ١٥٥ ٱلْخَلاَصُ بَعِيدٌ عَنِ ٱلأَشْرَارِ لأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَمِسُوا فَرَائِضَكَ. ١٥٦ كَثِيرَةٌ هِيَ مَرَاحِمُكَ يَا رَبُّ. حَسَبَ أَحْكَامِكَ أَحْيِنِي. ١٥٧ كَثِيرُونَ مُضْطَهِدِيَّ وَمُضَايِقِيَّ. أَمَّا شَهَادَاتُكَ فَلَمْ أَمِلْ عَنْهَا. ١٥٨ رَأَيْتُ ٱلْغَادِرِينَ وَمَقَتُّ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوا كَلِمَتَكَ. ١٥٩ ٱنْظُرْ أَنِّي أَحْبَبْتُ وَصَايَاكَ. يَا رَبُّ حَسَبَ رَحْمَتِكَ أَحْيِنِي. ١٦٠ رَأْسُ كَلاَمِكَ حَقٌّ، وَإِلَى ٱلدَّهْرِ كُلُّ أَحْكَامِ عَدْلِكَ».

(١٥٣ – ١٦٠) هذا مثمن الراء وفيه يبين لنا المرنم أن الله يبالي بأتقيائه كل المبالاة فهو لا يريدهم أن يندحروا تجاه المصاعب مهما عظمت ولذلك فإن الله سيسمع لابتهالاته ويساعده ضد مضطهديه. لقد كان المرنم في ذل وهوان بل في قيد وسجن ويرجو أن يسمع الله دعواه ويفكه من اعتقاله. يقصد أنه في دعوى ضد الأشرار المرتدين ومرة أخرى يطلب أن كلمة الله تحييه. وهؤلاء الأشرار لا خلاص لهم لأنهم لم يسلكوا طريقه ولم يطلبوه من الرب الذي يمنح هذا الخلاص وحده. ولا شك أن هذه المراحم التي أظهرها الرب قديماً سيظهرها الآن ويصدر حكمه بالبراءة ثم بالحياة. وهل يستطيع أن ينسى أن هؤلاء المضطهدين هم كثيرون وإن هؤلاء المضايقين هم أنفسهم بعيدون عن الله ويريدون أن يبعدوه أيضاً ولكنه يفتخر بأن شهادات الرب قد حفظها بالتمام ولا يميل عنها أبداً. وفي العدد ١٥٨ يذكر الغادرين بالمقت أولئك الذين نسوا كلام الله ولم يهتموا به. فهم ممقوتون عنده لأنهم أعداء الله ولذلك فهم أعداؤه أيضاً. ويلتفت إلى نفسه ويرى أنه بالعكس عن أولئك قد أحب الوصايا على قدر ما مقت الذين لا يحبونها. وللمرة الثالثة يلتمس رحمة من الرب لكي يحيا. وقوله في العدد ١٦٠ رأس كلامك أي خلاصة كلامك وزبدته هو حق. هذا الحق الذي يسيطر على كل شيء يفعله الله فيظهر حكمه بالعدل وأعماله بالرحمة والإنصاف.

– ش –

«١٦١ رُؤَسَاءُ ٱضْطَهَدُونِي بِلاَ سَبَبٍ، وَمِنْ كَلاَمِكَ جَزِعَ قَلْبِي. ١٦٢ أَبْتَهِجُ أَنَا بِكَلاَمِكَ كَمَنْ وَجَدَ غَنِيمَةً وَافِرَةً. ١٦٣ أَبْغَضْتُ ٱلْكَذِبَ وَكَرِهْتُهُ، أَمَّا شَرِيعَتُكَ فَأَحْبَبْتُهَا. ١٦٤ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي ٱلنَّهَارِ سَبَّحْتُكَ عَلَى أَحْكَامِ عَدْلِكَ. ١٦٥ سَلاَمَةٌ جَزِيلَةٌ لِمُحِبِّي شَرِيعَتِكَ، وَلَيْسَ لَهُمْ مَعْثَرَةٌ. ١٦٦ رَجَوْتُ خَلاَصَكَ يَا رَبُّ وَوَصَايَاكَ عَمِلْتُ. ١٦٧ حَفِظَتْ نَفْسِي شَهَادَاتِكَ وَأُحِبُّهَا جِدّاً. ١٦٨ حَفِظْتُ وَصَايَاكَ وَشَهَادَاتِكَ لأَنَّ كُلَّ طُرُقِي أَمَامَكَ».

في هذه المثمنة أيضاً يوجد تكرار كثير وهو يحوي حرف الشين في (الأعداد ١٦١ – ١٦٨) ولكن يلاحظ المطالع أن المعاني تزداد قوة ولمعاناً كلما قارب هذا المزمور نحو النهاية. لا يتأخر عن أن يذكر الاضطهاد الذي لحقه عن يد الرؤساء أولئك الذين كان ينتظر منهم العطف والحماية إذا بهم يضطهدون بلا سبب مبرر ولكنه لا يخافهم بل يخاف كلام الله أكثر منهم بما لا يقاس. لذلك لا يحزن بل يبتهج ويحسب ابتهاجه على قدر من يجد غنيمة (راجع قضاة ٥: ٣٠ وإشعياء ٩: ٢ و٣) لقد أبغض الكذب كما أحب الشريعة وهو ينصرف للصلاة والتسبيح ليس فقط في الصباح والمساء بل يفعل ذلك سبع مرات في اليوم لكي يذيع عدل الله ولا يرى في اضطهادات المضطهدين أي ظلم لأن الله هو إله العدل والإنسان الحكيم هو من يسبح الرب على أحكامه العادلة كلها. وقوله «سبع مرات» يشير إلى عدد مقدس يتمم فروضه بموجبه مما يدل على أن المرنم قد يكون من طبقة الكهنة. وفي العدد ١٦٥ يطلب سلامة جزيلة وعدم معثرة. وهو يفاخر أنه حفظ الشهادات وأحبها من كل قلبه ونفسه. وقد فعل ذلك ليس حباً بالتظاهر والمباهاة طالما أن كل طرقه هي أمام الرب مكشوفة لديه ولا يمكنه أن يخبئها. فديانته إذن هي ديانة القلب والضمير هي ديانة الباطن والسريرة ولذلك نجده يضع المثل الأعلى أمام عينيه ويحاول أن يتبعه بكل ما أوتي من قوة وإخلاص. وبهذه الوسيلة وحدها يؤكد لنفسه أن له النجاة والخلاص.

– ت –

«١٦٩ لِيَبْلُغْ صُرَاخِي إِلَيْكَ يَا رَبُّ. حَسَبَ كَلاَمِكَ فَهِّمْنِي. ١٧٠ لِتَدْخُلْ طِلْبَتِي إِلَى حَضْرَتِكَ. كَكَلِمَتِكَ نَجِّنِي. ١٧١ تُنَبِّعُ شَفَتَايَ تَسْبِيحاً إِذَا عَلَّمْتَنِي فَرَائِضَكَ. ١٧٢ يُغَنِّي لِسَانِي بِأَقْوَالِكَ لأَنَّ كُلَّ وَصَايَاكَ عَدْلٌ. ١٧٣ لِتَكُنْ يَدُكَ لِمَعُونَتِي لأَنَّنِي ٱخْتَرْتُ وَصَايَاكَ. ١٧٤ ٱشْتَقْتُ إِلَى خَلاَصِكَ يَا رَبُّ، وَشَرِيعَتُكَ هِيَ لَذَّتِي. ١٧٥ لِتَحْيَ نَفْسِي وَتُسَبِّحَكَ، وَأَحْكَامُكَ لِتُعِنِّي. ١٧٦ ضَلَلْتُ كَشَاةٍ ضَالَّةٍ. ٱطْلُبْ عَبْدَكَ لأَنِّي لَمْ أَنْسَ وَصَايَاكَ».

نصل الآن بحرف التاء إلى آخر هذه المثمنات وهي الأعداد ١٦٩ – ١٧٦ فيصل إلى نهاية كلامه ولذلك نجده يلخص بعض ما ورد من الأفكار العظيمة في المثمنات السابقة. فهو يسبح الله بدون ملل أو فتور بل هي صرخات الاستنجاد وطلب المعونة ولا يريد قط أن يخرج عن كلام الله. فهو يريد أن يفهم ويتعظ ويوصل كلامه إلى حضرة الله لكي يكون له نجاة وهكذا فإن شفتيه تنبعان بالتسبيح فهو لا يسبح لوقت معين بل هو مملوء بالتسبيح يفيض به قلبه كما يفيض الينبوع بالمياه. وإنما يشترك في ذلك أن يكون الله نفسه هو المعلم والمرشد فهو يفعل ذلك ليس لغايات بشرية بل اتباعاً لقصد إلهي. وحيئنذ فإن لسانه أيضاً يمتلئ بالأغاني والأناشيد ويتحقق أخيراً أن كل ما مر به كان عدلاً بلا جدال وكل الأحكام كانت منصفة بلا محاباة. بل هو يغبط نفسه لهذا الشوق المستمر في داخله إلى خلاص الرب لأن الشريعة ذاتها هي لذته. هو يعتنق الوصايا ويعرف قيمتها جيداً بالنسبة للاختبارات الروحية التي مر بها فهو مؤمن حقيقي لأنه قد مر في هذه الصعوبات وتغلب عليها جميعها. وهو يفعل ذلك معترفاً بأنه كان شاة ضالة فاهتدت وكانت هدايتها لأن الله طلبها أولاً وما هو سوى رجع الصدى لذلك الصوت الإلهي الذي ناداه. لذلك فهو إن طلب الحياة فإنما طلبها لكي يسبح الرب وهكذا فإن أحكامه الإلهية تعين المؤمن إلى التمام وتجعل حياته سعيدة موفورة الكرامة وحافلة بجميع ضروب المسرات المقدسة والأفراح (انظر إشعياء ٢٧: ١٣).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى