سفر المزامير | 90 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
القسم الرابع من كتاب المزامير
المزمور ٩٠ – ١٠٦
اَلْمَزْمُورُ ٱلتِّسْعُونَ
صَلاَةٌ لِمُوسَى رَجُلِ ٱللّٰهِ
«١ يَا رَبُّ، مَلْجَأً كُنْتَ لَنَا فِي دَوْرٍ فَدَوْرٍ. ٢ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُولَدَ ٱلْجِبَالُ أَوْ أَبْدَأْتَ ٱلأَرْضَ وَٱلْمَسْكُونَةَ، مُنْذُ ٱلأَزَلِ إِلَى ٱلأَبَدِ أَنْتَ ٱللّٰهُ».
يبدأ هذا القسم من المزامير بصلاة لموسى ويعطي له اللقب رجل الله (راجع تثنية ٣٣: ١ ويشوع ١٦: ٦). قد يكون هذا المزمور مأخوذاً عن بعض الكتابات القديمة المحفوظة مثل كتاب ياشر والتي فقدت بعد ذلك (راجع يشوع ١٠: ١٣ و٢صموئيل ١: ١٨) والتي ترجع بمستنداتها إلى عصر موسى إذ أن نسق هذا المزمور ينطبق تماماً على روح موسى وعلى أسلوبه في الكتابة وعلى لغته على قدر ما نستطيع تمييزه. فهو يشبه من نواح كثيرة ما ورد في (تثنية ٣٢ وأيضا ٣٣). ويذهب ديتريش إلى الزعم بأن توراة موسى والحق يقال هي في الدرجة الأولى سفر التثنية.
(١ – ٤) يبدأ المرنم كلامه بأن يرى الله أنه هو وحده الملجأ منذ قديم الأزمنة وإلى الآن. ويمكن ترجمته يا رب في العدد الأول يا سيد أو يا مولاي مثل (خروج ١٥: ١٧ وتثنية ٣: ٢٤). إن الله ينتقل بمراحمه من جيل إلى جيل حتى يخص جميع الأجيال فهو لا يخص البعض بل أن عنايته تشمل الجميع على السواء. وكان الله في جميع هذه الأدوار الملجأ والحصن الأمين.
إن عمل خلق الجبال على ظهر اليابسة يشبه وقت المخاض للوالدة فهو قرين الأوجاع والآلام. إن الله موجود قبل كل شيء ثم أوجد اليابسة أي هذه الأرض التي نسكنها وفخر هذه الأرض إنما هي الجبال العالية. الله هو القديم الأيام وجوده منذ الأزل أي قبل كل شيء وسيبقى بعد كل شيء أي إلى الأبد فلا حد له في الزمان بينما هذه الجبال ذاتها محدودة الزمان لها بداءة تولد فيها ولها نهاية حينما تعود الأرض مستوية كما كانت.
«٣ تُرْجِعُ ٱلإِنْسَانَ إِلَى ٱلْغُبَارِ وَتَقُولُ: ٱرْجِعُوا يَا بَنِي آدَمَ. ٤ لأَنَّ أَلْفَ سَنَةٍ فِي عَيْنَيْكَ مِثْلُ يَوْمِ أَمْسِ بَعْدَ مَا عَبَرَ، وَكَهَزِيعٍ مِنَ ٱللَّيْلِ. ٥ جَرَفْتَهُمْ. كَسِنَةٍ يَكُونُونَ. بِٱلْغَدَاةِ كَعُشْبٍ يَزُولُ. ٦ بِٱلْغَدَاةِ يُزْهِرُ فَيَزُولُ. عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ يُجَزُّ فَيَيْبَسُ. ٧ لأَنَّنَا قَدْ فَنِينَا بِسَخَطِكَ وَبِغَضَبِكَ ٱرْتَعَبْنَا».
هذا الإنسان الذي طالما نسي أصله فتكبر وتعظم وساد الأرض وتجبر تطلب منه أن يعود إلى التراب لأنه من التراب وإليه يجب أن يعود. ويسمي هذا الإنسان ابن آدم ليذكره بأصل أبيه الترابي لأنه كما التراب هكذا فليكن الترابيون.
وأما الزمان في عين الله فلا حساب له لأن ألف سنة تمر لديه كما يمر اليوم أو قسم من الليل. والعدد الرابع يعود إلى العدد الثاني. إذن فالله لا يحده الزمان قط بل هو الذي يملأ الزمان بمجده وعظمته (راجع ٢بطرس ٣: ٨). لقد قسم الإسرائيليون الليل إلى ثلاثة هزع – الأول ثم منتصف الليل ثم هزيع الصبح.
(٥ – ٦) إذا كان رجوع الضمير في جرفتهم إلى ألف سنة فان الأولى أن يقول جرفتها. أما إذا كان القصد من المعنى أن يقول أهل السنين أو الناس الذي يعيشون في السنين ويموتون فيها. فهذا ممكن أيضاً بل هو الأولى إذ يصف بعد ذلك حياة البشر بأنها مثل سنة النوم أو الوسن يضيع فيه الإنسان وإذا بحياته تضمحل كما يضمحل العشب عند الصباح. وفي العدد السادس نراه يقول إن هذا الشعب قد يزهر في الصباح بدلاً من أن يضمحل ولكنه لا فرق لا بد له بعدئذ من أن يجز وييبس وينتهي أمره.
(٧ – ٨) إن سخط الله علينا هو سبب هذا الفناء فمذ سقوط الإنسان الأول وطرده من جنة عدن لم يعد له أي حياة خالدة مع الله وأعوزته النعمة بالمسيح لكي ترجعه إلى سابق حالته الطاهرة المقدسة. ويكرر قوله أن السخط أفنانا وكذلك الغضب أرعبنا فنحن إذن تحت هذا الغضب إلى أن ننال الرضا والعفو والغفران.
«٨ قَدْ جَعَلْتَ آثَامَنَا أَمَامَكَ، خَفِيَّاتِنَا فِي ضَوْءِ وَجْهِكَ. ٩ لأَنَّ كُلَّ أَيَّامِنَا قَدِ ٱنْقَضَتْ بِرِجْزِكَ. أَفْنَيْنَا سِنِينَا كَقِصَّةٍ. ١٠ أَيَّامُ سِنِينَا هِيَ سَبْعُونَ سَنَةً، وَإِنْ كَانَتْ مَعَ ٱلْقُوَّةِ فَثَمَانُونَ سَنَةً، وَأَفْخَرُهَا تَعَبٌ وَبَلِيَّةٌ، لأَنَّهَا تُقْرَضُ سَرِيعاً فَنَطِيرُ. ١١ مَنْ يَعْرِفُ قُوَّةَ غَضَبَكَ، وَكَخَوْفِكَ سَخَطُكَ. ١٢ إِحْصَاءَ أَيَّامِنَا هٰكَذَا عَلِّمْنَا فَنُؤْتَى قَلْبَ حِكْمَةٍ».
(في العدد ٨) يتابع كلامه فيذكر أن هذه الآثام معروفة عند الله وإن جميع الخفايا هي ظاهرة لديه ولا يستطيع الإنسان أن يتخلص منها بالهرب. وهذه الخطايا موضوعة هكذا لكي يؤدبنا بواسطتها فنحن لا نترك على هوانا لئلا نضيع ونشرد. وحينما يشرق وجهه بضيائه فحينئذ لا يبقى شيء طي الخفاء والظلام (راجع العدد ٦: ٢٥).
(٩ – ١٢) يتحسر الإنسان العاقل على أيام تمر في غضب الله ورجزه وهكذا انتهت الحياة كما تنتهي قصة نرويها. وفي ترجمة أخرى «أفنينا سنينا كهمسة». وأما الترجمة اليسوعية فتقول «أفنينا سنينا كالوهم» أما الترجمة الأولى كقصة فهي الأفضل لأن الحياة هي أشبه بقصة أو رواية لها أبطالها ولها زمانها ومكانها وكلها محدودة وهكذا كل إنسان محدود وعليه أن يكون حكيماً.
سنو الإنسان في حياته سبعون وإذا زادت فثمانون ولكن يعود ليخبرنا عما يقاسيه الإنسان من تعب وبلية حتى يتمنى مرورها بسرعة وهكذا تنقضي وكحلم نطير ولا نوجد بعد ذلك. لقد حاول الإنسان أن يرفع معدل طول الحياة فنجح ولكن نجاحه كان بالأكثر بالنسبة لتقليل وفيات الأطفال منه بالنسبة لطول الحياة ذاتها. فهي منذ القديم وإلى الآن قصيرة الأمد محدودة فلنكن واعين في صرفها ولا نبذرها عبثاً. وفي (العدد ١١) ينسب ذلك إلى غضب الله وسخطه على الإنسان كما مرّ معنا من قبل. ولكنه في (العدد ١٢) يلفت نظرنا أن نكون حكماء في إحصاء هذه السنين فإن الأهمية ليس أن نعرف من فوق لكي تزيدنا حنكة واختباراً فلا نقع في أغلاط ارتكبناها بل نصلح ذواتنا على ممرّ الأيام.
«١٣ اِرْجِعْ يَا رَبُّ. حَتَّى مَتَى؟ وَتَرَأَّفْ عَلَى عَبِيدِكَ. ١٤ أَشْبِعْنَا بِٱلْغَدَاةِ مِنْ رَحْمَتِكَ فَنَبْتَهِجَ وَنَفْرَحَ كُلَّ أَيَّامِنَا. ١٥ فَرِّحْنَا كَٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي فِيهَا أَذْلَلْتَنَا، كَٱلسِّنِينِ ٱلَّتِي رَأَيْنَا فِيهَا شَرّاً. ١٦ لِيَظْهَرْ فِعْلُكَ لِعَبِيدِكَ وَجَلاَلُكَ لِبَنِيهِمْ. ١٧ وَلْتَكُنْ نِعْمَةُ ٱلرَّبِّ إِلٰهِنَا عَلَيْنَا، وَعَمَلَ أَيْدِينَا ثَبِّتْ عَلَيْنَا، وَعَمَلَ أَيْدِينَا ثَبِّتْهُ».
(١٣ – ١٧) بعد التحذير السابق والطلب من الله أن يمنح الإنسان حكمة ودراية. يطلب منه أيضاً أن يرجع للإنسان ويترأف عليه ولا يعامل البشر بما يستحقونه. وقوله عبيدك أي جماعتك الخاصة والمؤمنون الذين يلوذون بك ويدعون باسمك (راجع تثنية ٩: ٢٧ وقابله مع خروج ٣٢: ١٣).
ولا يكتفي بطلب أن يزيل الله غضبه بل أن ينجد برحمته ولدى الصباح ننهض فنجد أنفسنا جائعين فكما نطلب طعاماً لقوتنا كذلك نطلب أن نمتلئ من الرحمة والرضوان وهكذا تكون حياتنا بهيجة فرحانة ويذهب الحزن والتنهد ولا يبقى من ذلك شيء على طول الحياة. وبعد ذلك ينتقل في العدد الخامس عشر فيطلب من الله مقابل تلك السنين التي مرت بالشر والأحزان أن تأتي سنو الخير والرضوان فلا يكون ذلك فيما بعد بل تفاخر ولا يكون تعب ومشقة بل راحة وطمأنينة على الدوام.
وهكذا فإن الله يظهر ذاته لعبيده هؤلاء ثم بعدهم يظهر بكل جلال إلى أولادهم وهكذا على التوالي فتصبح مرور السنين لأجل تثبيت هذا الحق الإلهي الذي ورثه الأبناء عن الآباء.
ثم ينتهي أخيراً بصلاة خشوعية جميلة طالباً نعمة الله أولاً فتنسكب علينا. ثم يطلب أولاً وثانياً تثبيت عمل أيدينا. أي أن قيمة عمل أيدينا تقوم على نسبة استمرار نعمة الله علينا فإن انسبغت علينا فنحن في خير ويمكننا أن نعمل الأعمال ولذلك قدم هذه وأخرّ الطلب بتثبيت العمل لأن لا قمية له إلا على نسبة ما يمنحه الله من نعمته وإحسانه.
السابق |
التالي |