سفر المزامير | 80 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّمَانُونَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى اَلسَّوْسَنِّ. شَهَادَةٌ. لآسَافَ. مَزْمُورٌ
«١ يَا رَاعِيَ إِسْرَائِيلَ ٱصْغَ، يَا قَائِدَ يُوسُفَ كَٱلضَّأْنِ، يَا جَالِساً عَلَى ٱلْكَرُوبِيمِ أَشْرِقْ. ٢ قُدَّامَ أَفْرَايِمَ وَبِنْيَامِينَ وَمَنَسَّى أَيْقِظْ جَبَرُوتَكَ وَهَلُمَّ لِخَلاَصِنَا. ٣ يَا اَللّٰهُ أَرْجِعْنَا وَأَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ».
هذه صلاة قلبية من أجل الكرمة التي هي إسرائيل. يبدأ المرنم كلامه مخاطباً راعي إسرائيل لافتاً نظره إلى حالة القطيع وما يتحمله من مشقات. قد انتهى المزمور السابق بقول «نحن شعبك وغنم رعايتك» وهنا يتابع هذه الصورة المؤثرة ويخاطب هذا الراعي بما فيه العطف والشفقة على الرعية. ومما هو جدير بالذكر أنه يذكر أسباط أفرايم وبنيامين ومنسى في العدد الثاني ولا يذكر بقية الأسباط ولعل ذلك إشارة إلى سقوط مملكة الشمال بيد الأشوريين الذين يسميهم (خنزير الوعر). لقد حاولت مملكة السامرة (الشمال) محاولات كثيرة بواسطة تعاونها مع دمشق والسوريين أن تنجو من الخطر المحدق بها ولكن على ما يظهر كان ذلك عبثاً وإذا بها تخضع خضوعاً تاماً لتلك السيطرة الماحقة التي سادت العالم عندئذ وكان ذلك في السنة السادسة لملك حزقيا. والأرجح أنه مزمور كتب قبل السبي البابلي وهو شبيه جداً بالمزامير المنسوبة لآساف حتى نتساءل من هو آساف هذا. أتراه أحد الرعية في سبطي أفرايم ومنسى؟ ونجد في هذا المزمور ثلاثة تكرارات للعبارة «ارجعنا وأنر بوجهك فنخلص» وهذا دليل على الضيق المستحوذ حتى يصيح المرنم من أعماق نفسه طالباً النجدة والخلاص.
(١) لا يحوي هذا العدد الأول سوى الاستعطاف فهو يدعو شعب الله إسرائيل وينسى بذلك الانقسامات التي شطرت الأمة شطرين وهكذا يعود بالذاكرة إلى الأيام القديمة وإلى الجد الأول الذي يضم جميع الأسباط. وبعد ذلك يدعو الله قائد يوسف وهو جد آخر بعد يعقوب يجمع إليه شمل أفرايم ومنسى. هذا الإله القديم الأيام الجالس على الكروبيم وهو أيضاً قبل جميع أولئك الجدود.
(٢) يطلب المرنم نجدة ونوراً ينير السبيل أمام هؤلاء الصارخين بطلب العون الإلهي ويسميهم حسب أسباطهم بأسماء. ومن المناسب أن نذكر هنا أن يعقوب حينما بارك ولده يوسف فيدعو الله راعيا (انظر تكوين ٤٨: ١٥ و٤٩: ٢٤) هنا يطلب من الله أن يظهر بجبروته ويستخدم سلطانه ويسرع بالنجدة والخلاص لقد طفح كيل الأعداء ولا يطيق الشعب أي احتمال فيما بعد.
(٣) يطلب إلى الله أن يضع نوره ويظهر بمجده ويبدد أعداءه الذين يحيطون بشعبه ويضايقونهم. لا يقصد المرنم بقوله ارجعنا كإنما الشعب قد سبي عن بلاده وشرد في أقاصي الأرض بل يقصد أن هذا الشعب المنكوب المغلوب على أمره يعود فينهض للحياة والحرية مرة أخرى ولا يعرف أي سلطان سوى يهوه رب الجنود إله الآباء والجدود.
«٤ يَا رَبُّ إِلٰهَ ٱلْجُنُودِ، إِلَى مَتَى تُدَخِّنُ عَلَى صَلاَةِ شَعْبِكَ؟ ٥ قَدْ أَطْعَمْتَهُمْ خُبْزَ ٱلدُّمُوعِ وَسَقَيْتَهُمُ ٱلدُّمُوعَ بِٱلْكَيْلِ. ٦ جَعَلْتَنَا نِزَاعاً عِنْدَ جِيرَانِنَا، وَأَعْدَاؤُنَا يَسْتَهْزِئُونَ بَيْنَ أَنْفُسِهِمْ. ٧ يَا إِلٰهَ ٱلْجُنُودِ أَرْجِعْنَا، وَأَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُص. ٨ كَرْمَةً مِنْ مِصْرَ نَقَلْتَ. طَرَدْتَ أُمَماً وَغَرَسْتَهَا».
(٤) يستعمل هنا كل أسماء الله التي يعرفها المرنم ضارعاً مسترحماً لكي لا يظل مدخناً على صلاة شعبه. والدخان هنا يقصد به ما يخرج من أنف الله دليلاً على غضبه (راجع مزمور ٧٤: ١ وتثنية ٢٩: ١٩ و٢٠) أي لماذا لا تزال تقسو على شعبك ولا ترحمهم؟ لماذا لا ترجع فتضمهم إليك مرة أخرى؟ إلى متى يسأل بها نهاية لهذه الأحزان والمتاعب.
(٥) لا سيما وإن هذا الشعب قد تحمل من الآلام ما لا يطاق وإلى زمان طويل حتى وهو في صيامه كان يبكي حتى تصبح هذه الدموع قوته اليومي بل حتى يضطر أن يشربها بدلاً من الماء (انظر مزمور ٤٢: ٤). ذلك هو خبز الدموع وماء الدموع تصبح قوتاً وشراباً.
(٦) وهكذا اشتدت الحالة المؤسفة سوءاً حتى أصبحوا سبب نزاع لدى الجيران. وهؤلاء الجيران هم الأمم المجاورة الذين جاءوا للفتك بنا والحط من كرامتنا وهكذا تنازعوا بين أنفسهم علينا بل كنا سبب هزء وسخرية لهم لا يهمهم أمرنا إلا على مقدار ما يربحون ويستفيدون وهكذا لقد انحط شأننا وساء مصيرنا حتى أصبح هؤلاء الجيران يتحكمون بنا ويعاملوننا بكل احتقار.
(٧) ولكن ما أجمل هذا الالتفات لله. فبعد أن ييأس من حالة هؤلاء الناس الذين لا يهمهم أمرنا إلا على مقدار مصالحهم الذاتية أي تلطف بنا بعد ولا تتركنا بل انظر إلينا بضياء وجهك فنهتدي ولا تدخن علينا بنار أنفك فنهلك. إن الحاجة ماسة للرجوع إلى الله والسير في سبله وهكذا ننجو مما نحن فيه مهما اشتدت علينا النكبات واستحكمت الظلمات أنر لنا يا رب فنخلص.
(٨) إذا رجعنا مرة أخرى إلى بركة يعقوب ليوسف (راجع تكوين ٤٩: ٢٢). نجده هناك أغصان قد ارتفعت فوق حائط. لقد نما وتقدم في مصر وكان سبباً لنجاة إخوته. ولكن الله قد أخذ هذه الكرمة وغرسها في مكان جديد بعد أن طرد أمماً كثيرة من وجهها ووضعها مكانها وهذا منتهى الرضا والرحمة إذ ستنمو عظيمة جداً في أرض الموعد حيثما وعد الله بها ميراثه لإبراهيم ونسله إلى الأبد.
«٩ هَيَّأْتَ قُدَّامَهَا فَأَصَّلَتْ أُصُولَهَا فَمَلأَتِ ٱلأَرْضَ. ١٠ غَطَّى ٱلْجِبَالَ ظِلُّهَا وَأَغْصَانُهَا أَرْزَ ٱللّٰهِ. ١١ مَدَّتْ قُضْبَانَهَا إِلَى ٱلْبَحْرِ وَإِلَى ٱلنَّهْرِ فُرُوعَهَا. ١٢ فَلِمَاذَا هَدَمْتَ جُدْرَانَهَا فَيَقْطِفَهَا كُلُّ عَابِرِي ٱلطَّرِيقِ؟ ١٣ يُفْسِدُهَا ٱلْخِنْزِيرُ مِنَ ٱلْوَعْرِ وَيَرْعَاهَا وَحْشُ ٱلْبَرِّيَّةِ!».
(٩) إن هذه الكرمة التي أخذت من محل ونصبت في محل آخر قد نجحت كثيراً وإذا بها قد بعثت أصولها إلى أعماق التربة وامتدت وعظمت جداً. والفضل في ذلك إلى الله ذاته الذي أعد لها تربة صالحة غير صخرية ولا مجدبة وهكذا فإن المملكة الإسرائيلية قد امتدت إلى كل جهة من المكان الذي نزلت فيه حسب إتمام الوعد الإلهي.
(١٠ و١١) فامتدت إلى الجبال جنوباً وغطى ظلها حتى تلك الأماكن العالية كما أنها قد أرسلت أغصانها حتى أرز الله (لبنان). وهذا من جهة الشمال. كما وأنها قد مدت قضبانها إلى البحر المتوسط من الجهة الغربية وأما من الشرق فقد اتصلت بالنهر العظيم الفرات (راجع تثنية ١١: ٢٤). لقد كثرت هذه الكرمة حتى ملأت الجبال منتشرة إلى كل ناحية وما أجمل الكروم تراها حتى الآن ممتدة على التلال المختلفة جلا بعد جل دليل نموها وازدهارها. وهو أرز الله أو أرز الرب لأنه دليل على قدرة الله الحية فهو ينمو على أعالي الجبال إشارة دائمة للعظمة والجلال. ومع ذلك فإن هذه الكرمة قد تسلقت إلى أعالي تلك الأشجار العظيمة وغطتها حتى لم تعد ترى بل تظهر الكرمة فوقها فقط. وقديماً وحتى الآن تنمو العرائش على هذه الصورة.
(١٢) هنا يعود المرنم يسأل هذا السؤال الخطير لماذا إذاً هدمت جدرانها حتى لم تعد مصونة من أقدام العابثين والسارقين. كيف سمحت أن تمتد إليها أيدي عابري الطريق فلا يرعون لها حرمة ولا يحفظون ذماماً. إن حالتها الحاضرة مما يحير عقل المفكر المنصف إذ كيف أنك يا رب بعد أن اعتنيت هذه العناية العظيمة فأصبحت كرمة عظيمة مثمرة بل امتدت حتى أصبحت كرماً كبيراً ذا نفع جزيل فكيف تمتهن حقوقها ويذهب مركزها عبثاً.
(١٣) الأرجح أن خنزير الوعر هو إشارة لدولة أشور كما أسلفنا من قبل أو ربما أي معتدٍ يستطيع كالوحش البري أن يعتدي على ثمرها وينتهك حرمتها ويفسدها ويذهب برونقها ونفعها وهو حيوان يعيش في البراري والوعور ولكنه يسطو على الحقول ويأكل ما يجده أمام وجهه غير مشفق على نمو الكرمة ولا يهمه تقدمها. وكم الفرق عظيم بين رعايتها بيد الله وبين هذه الرعاية التي لا تبقي منها شيئاً.
«١٤ يَا إِلٰهَ ٱلْجُنُودِ ٱرْجِعَنَّ. ٱطَّلِعْ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱنْظُرْ وَتَعَهَّدْ هٰذِهِ ٱلْكَرْمَةَ ١٥ وَٱلْغَرْسَ ٱلَّذِي غَرَسَتْهُ يَمِينُكَ، وَٱلٱبْنَ ٱلَّذِي ٱخْتَرْتَهُ لِنَفْسِكَ. ١٦ هِيَ مَحْرُوقَةٌ بِنَارٍ، مَقْطُوعَةٌ. مِنِ ٱنْتِهَارِ وَجْهِكَ يَبِيدُونَ. ١٧ لِتَكُنْ يَدُكَ عَلَى رَجُلِ يَمِينِكَ وَعَلَى ٱبْنِ آدَمَ ٱلَّذِي ٱخْتَرْتَهُ لِنَفْسِكَ، ١٨ فَلاَ نَرْتَدَّ عَنْكَ. أَحْيِنَا فَنَدْعُوَ بِٱسْمِكَ. ١٩ يَا رَبُّ إِلٰهَ ٱلْجُنُودِ أَرْجِعْنَا. أَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ».
(١٤) مرة أخرى يلتفت إلى الله ويلتمس منه أن يعود فيتعطف برحمته ويحنو عليها بعنايته. وهنا نجد ثلاث درجات يتدرح بها هذا الإله المحب العطوف. أولاً يطلب منه أن يرجع ولا يبقى معرضاً ولا بعيداً وثانياً يطلب منه أن يطلع ويتطلع من مكان سكناه في الأعالي وثالثاً ينظر متعهداً هذه الكرمة إذ لا يكفي أن يتطلع بل أن يعقب تطلعه ما فيه النظر والعناية بحالة هذه الكرمة لئلا تهلك ويعفو أثرها.
(١٥) ذاك لأنه غرس مغروس بيد الله هو ليس شيئاً برياً ينبت من نفسه ويضمحل من نفسه أيضاً بل هو معتنى به من قبل ولا يعيش إلا بمثل هذه العناية كما هي الحالة بالأشجار المثمرة كلها فهي تنمو وتثمر على نسبة العناية والأكلاف التي تبذل في سبيلها. وهنا يترك المجاز (الكرمة) ويأتي للكلام الحقيقي ويطلب لهذا الابن أن يكون برعاية أبيه أيضاً كابن مختار.
(١٦) ثم ينتقل مرة أخرى للمجاز فيعود للكرمة ويقول عنها أنها محروقة ومقطوعة وهي كذلك هذه المرة ليست من العدو بل من الله ذاته الذي غضب على شعبه وقاصهم هذا القصاص الصارم. فقد انتهرهم وهكذا بادوا من أمام وجهه ولكنه إذا رضي عنهم يعودون.
(١٧) لا سيما وإسرائيل هو ابن لهذا الإله المحب الذي عاهده منذ القديم فلا ينساه الآن هو رجل يمينه الذي يتكل عليه (خروج ٤: ٢٢ وهوشع ١١: ١) فكما أن اسمه بنيامين فهو يجب أن يكون يميناً لله يتكل عليه ويثق به بعد.
(١٨) لذلك نحن لا نرتد عنك وإن كنت يا رب قد انتهرتنا بأن لم تعطنا وجهك بل دخنت علينا بغضبك ولكن هذا كله إلى حين. عدّ يا رب واعطنا حياة ولتعد هذه الكرمة لكي تنبت من جديد قبل فوات الآوان. وحينئذ متى عدت إلينا بالرضا ندعو باسمك ونحمده إلى الأبد.
(١٩) وأخيراً يختم بهذه الآية المتكررة ثلاث مرات كما رأينا في هذا المزمور ومما يجب أن ننتبه إليه هو أن الله يرضى علينا أولاً ويرجعنا إليه فنغير اتجاهنا عن الشر والفساد ونلتفت إلى نبع الخلاص والرشاد. وهكذا فإن الظلمة تتبدد من حياتنا ونعيش بنور الله وخلاصه.
السابق |
التالي |