سفر المزامير | 81 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلْحَادِي وَٱلثَّمَانُونَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ٱلْجَتِّيَّةِ. لآسَافَ
«١ رَنِّمُوا لِلّٰهِ قُوَّتِنَا. ٱهْتِفُوا لإِلٰهِ يَعْقُوبَ. ٢ ٱرْفَعُوا نَغْمَةً وَهَاتُوا دُفّاً، عُوداً حُلْواً مَعَ رَبَابٍ. ٣ ٱنْفُخُوا فِي رَأْسِ ٱلشَّهْرِ بِٱلْبُوقِ عِنْدَ ٱلْهِلاَلِ لِيَوْمِ عِيدِنَا».
يحيي هذا المزمور احتفالات عيد الفصح عند الإسرائيليين ويغتنمها فرصة لكي ينبه الأفكار إلى وجوب الارتداد إلى الله وسماع صوته والرضوخ لفرائضه وإرشاداته. ويعود بالذاكرة إ لى التاريخ فيذكر (راجع مزمور ٨٠: ٩ وقابله مع ما ورد في العدد ١٠ من هذا المزمور). ولا شك أن ارتباط هذا المزمور بسابقه هو ارتباط وثيق نضم إليهما ٧٨ أيضاً. وما هو جدير بالذكر أن المرنم يقطع حديثه في جميعها بصورة مقتضبة مفاجئة بعد أن يصعد لأسمى الأفكار ويغوص في عمق المعاني إذا به ينتقل بسرعة إلى النهاية دون أن يعود للنقطة التي ابتدأ بها. وهو يذكر يوسف بالأكثر وينتقل بسرعة إلى أشخاص عديدين وهذا مما يعرف بالالتفات في البيان (راجع ميخا ٦: ١٥ وما يليه).
حسب العادات القديمة يخص هذا المزمور رأس السنة الجديدة (نيسان) (راجع سفر العدد ٢٩: ١) وبالتالي فهو يتناول أقدس التذكارات التي تشير للفصح اليهودي (حزقيال ٢٣: ١٦ و٣٤: ٢٢).
(١) هي دعوة موجهة إلى عموم الناس أن يرفعوا أصواتهم بالتهليل والنشيد. والهتاف بقوله «اهتفوا» ليس ضرورياً أن يكون بالبوق بل الأرجح هي الهتافات الصوتية الخارجة من قلوب مترنمة فرحانة (راجع عزرا ٣: ١١) وهذا الترنيم والهتاف هو لله لإله يعقوب الذي فدى شعبه وهم خاصته ولذلك عليهم أن يخصوه بهذا التسبيح.
(٢) يلتفت بعد ذلك إلى اللاويين المخصصين للترنيم في خدمة الهيكل والقيام بالعبادة المقدسة (راجع ٢ أخبار ٥: ١٢) كما وأنه في العدد الثالث يلتفت للكهنة ويطلب منهم أن ينفخوا بالأبواق كما هي عادتهم في رأس الشهر والأعياد هؤلاء اللاويون يذكر عنهم أنهم يستعملون هذه الآلات الدف والعود والرباب. لذلك كانوا يعزفون بشكل أجواق تتناوب الخدمة بترتيب (راجع ٢أخبار ٣٠: ٢١).
(٣) يخاطب الكهنة كما رأينا ويطلب منهم أن ينفخوا بالأبواق في رأس الشهر إيذاناً باقتراب العيد ويذهب ديلتش (راجع المجلد ٢ صفحة ٢٩٤) إلى ترجمة الكلمة العبرانية «البدر» بدلاً من الهلال ويخالف بذلك الكثيرين من الثقات. والمهم في الأمر أن هذه الدعوة إن كان لعامة الشعب أو اللاويين والكهنة إنما هي لكي يبدأوا العيد بما هو واجب التسبيح والتمجيد لصاحبه وهو إله إسرائيل.
«٤ لأَنَّ هٰذَا فَرِيضَةٌ لإِسْرَائِيلَ، حُكْمٌ لإِلٰهِ يَعْقُوبَ. ٥ جَعَلَهُ شَهَادَةً فِي يُوسُفَ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَلَى أَرْضِ مِصْرَ. سَمِعْتُ لِسَاناً لَمْ أَعْرِفْهُ. ٦ أَبْعَدْتُ مِنَ ٱلْحِمْلِ كَتِفَهُ. يَدَاهُ تَحَوَّلَتَا عَنِ ٱلسَّلِّ. ٧ فِي ٱلضِّيقِ دَعَوْتَ فَنَجَّيْتُكَ. ٱسْتَجَبْتُكَ فِي سِتْرِ ٱلرَّعْدِ. جَرَّبْتُكَ عَلَى مَاءِ مَرِيبَةَ. سِلاَهْ. ٨ اِسْمَعْ يَا شَعْبِي فَأُحَذِّرَكَ. يَا إِسْرَائِيلُ، إِنْ سَمِعْتَ لِي».
(٤) هنا يشرع المرنم بشرح هذا الأمر بأكثر دقة فيخبرنا كيف أن الله جعله فريضة أبدية تذكاراً للخلاص الذي أعده على يد موسى عبده فهو فريضة لأن ذلك يتناول الناحية القانونية وهو حكم لأن لا مجال في الاختيار أو عدمه إذ هو معين ومرتب بأمر إلهي. فإذاً أصبح أن إسرائيل هو الذي أخذ هذا التشريع من يد الله ذاته وهذا يعود بنا لتاريخ الخروج من أرض مصر.
(٥) نجد واضحاً بذكره هنا أرض مصر فقد خرج الله عليها بالضربات التي تستحقها وفي الوقت ذاته قد نجّى الله شعبه (راجع خروج ١٢: ٢٧) وهذا الشعب عندئذ قد سمع صوتاً لم يفهمه جيداً مع أنه صوت الله الذي كلمه بفم عبده موسى. وقد يكون المعنى أيضاً أن شعب إسرائيل بمكوثه في مصر سمع لساناً هناك ولكنه لم يتعلمه جيداً بل بقي غريباً عنه حتى منّ الله عليه بالخروج فخرج ليعبد إلهه وقد جعل هذا التذكار شهادة أبدية للحدث.
(٦) يعود بالتذكار إلى أرض مصر كيف أن الله قد أعان شعبه ليحتمل الاضطهاد ويخفف عنه الأثقال التي وضعها المصريون عليه. لذلك فقد أبعد كتفه عن الحمل كما حوّل يده عن السل الذي يجلب به الطين واللبن للبناء الذي فرضه فرعون عليهم (انظر خروج ١: ١٤ و٧ وما بعده).
(٧) من حالة العبودية تلك ومن أشد أوقات الضيق قد دعا الشعب إلهه مستنجداً فكانت له النجدة إذ مدّ يده بواسطة العجائب التي صنعها عبد الرب موسى على البحر الأحمر فهداهم بعمود السحاب وفي الوقت ذاته سترهم عن أعين أعدائهم لكي لا يستطيعوا اللحاق بهم. وهنا يشير أيضاً كيف أن الرب كان يتجلبب بالسحاب ويرسل البرق والرعود على جبل سيناء حتى خاف الشعب وطلبوا من موسى أن يكلم الله وحده ويعفيهم هم أنفسهم. بل كان لهم الامتحان على مياه مريبة حينما أعطاهم الله ماء ليشربوا. وينتهي بارتفاع الموسيقى.
(٨) هنا يبدأ بالتحذير والوعظ بعد أن ذكر بالتاريخ الماضي وما فعله الله مع شعبه من عظائم. يريد من شعبه فقط أن ينتبه وأن يسمع وحينئذ يكون له التحذير الكافي وفي التكرار بقوله يا شعبي ثم يا إسرائيل من قبيل عطف البيان لكي يزيد النداء رسوخاً في النفس حتى لا ينسى أبداً.
«٩ لاَ يَكُنْ فِيكَ إِلٰهٌ غَرِيبٌ، وَلاَ تَسْجُدْ لإِلٰهٍ أَجْنَبِيٍّ. ١٠ أَنَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ ٱلَّذِي أَصْعَدَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. أَفْغِرْ فَاكَ فَأَمْلأَهُ. ١١ فَلَمْ يَسْمَعْ شَعْبِي لِصَوْتِي، وَإِسْرَائِيلُ لَمْ يَرْضَ بِي. ١٢ فَسَلَّمْتُهُمْ إِلَى قَسَاوَةِ قُلُوبِهِمْ لِيَسْلُكُوا فِي مُؤَامَرَاتِ أَنْفُسِهِمْ».
(٩) وأما موضوع التحذير فهو خطير جداً إذ ينهاهم عن العبادة الوثنية والسجود لآلهة صنمية كانت عبادتها دارجة في تلك الأيام. لقد كان أهم ما ورد في سيناء هو تأكيد العلاقة والعهد بين الرب وشعبه لذلك فهو يذكرهم مرة أخرى بهذا العهد الذي قطعه آباؤهم من قبل وعليهم أن يقوموا به بكل أمانة ليظلوا شعبه الخاص لئلا يصبحوا غرباء وأجانب إذا انغمسوا في تلك العبادة الغريبة الأجنبية.
(١٠) يكرر هنا فاتحة الوصايا العشر (راجع خروج ٢٠) فيؤكد عدم عبادة إله غريب أو أجنبي لأن مثل هذه العبادة هي أساس للكفر بالله وبنعمه وقطع للعلاقات الكريمة بين الرب وشعبه. يذكر الشعب بالبركات التي يمنحها كالمن والسلوى وكل ما يطلبه منه أن يغفر فاه فقط لكي يملأه بهذا الخير. إذاً فالشرط الأولي لنوالنا خيرات الله هو استعدادنا أن نقبلها بالطاعة والشكر. علينا أن نفعل ما يفعله الطفل الصغير لدى رضاعته ثدي أمه وحينئذ فالشبع يأتيه حينما يفغر فمه لقبول اللبن. فلنكن إذاً طالبين للرحمة متعطشين لنيل الخلاص.
(١١) هنا يأخذ الكلام اتجاهاً آخر وفيه مسحة واضحة من الكآبة والحزن فقد عصى هذا الشعب أمر الله ولم يرض به إلهاً. وهكذا رفض الشرائع والوصايا التي تسلمها وبذلك خسر المواعيد الإلهية التي وعدوا بها إذ لم يعودوا مستحقين لها أبداً. إسرائيل لم يرض (راجع إشعياء ١: ٣ كذلك تثنية ١٣: ٩).
(١٢) وبعد ذلك جاءتهم النتيجة القاسية ولكنها نتيجة طبيعية معقولة لا يمكن أن يكون غير ذلك. إن الله الرحيم هو عادل أيضاً وهكذا فإن شريعته لا بد أن تتمم فإذا خالفنا كلامه فنحن النادمون. يقول «سلمتهم إلى قساوة قلوبهم…» إذاً فالقساوة قد خرجت منهم ولذلك عليهم أن يحتملوا ما جنته أيديهم ولا يستطيعون أن يتذمروا لو كانوا يعقلون إذ أن الحكم عليهم بما أصابهم فهم الذين قد حكموا به وحاشا لله أن يحكم عليهم بسوى العدل والإنصاف. فقد سلكوا في معاصيهم إذ أن قساوة القلب يتبعها بعد ذلك القساوة في العمل (راجع إشعياء ٦٥: ٢ وقابله مع إرميا ٧: ٢٤ وكذلك مع ميخا ٦: ١٦).
«١٣ لَوْ سَمِعَ لِي شَعْبِي وَسَلَكَ إِسْرَائِيلُ فِي طُرُقِي، ١٤ سَرِيعاً كُنْتُ أُخْضِعُ أَعْدَاءَهُمْ، وَعَلَى مُضَايِقِيهِمْ كُنْتُ أَرُدُّ يَدِي. ١٥ مُبْغِضُو ٱلرَّبِّ يَتَذَلَّلُونَ لَهُ، وَيَكُونُ وَقْتُهُمْ إِلَى ٱلدَّهْرِ. ١٦ وَكَانَ أَطْعَمَهُ مِنْ شَحْمِ ٱلْحِنْطَةِ، وَمِنَ ٱلصَّخْرَةِ كُنْتُ أُشْبِعُكَ عَسَلاً».
(١٣) إن كلمة لو هنا شديدة وقاسية فهي نفي لوجود إذ أن هذا الشعب لم يسمع ولم يسلك كما يريد إلهه. إذاً فهنا باب للعتب والملام. لقد ذهب العهد مع الله باطلاً ولم يحفظوا فرائضه وأحكامه ولم يمشوا حسب أوامره. هم زرعوا الأسباب وعليهم أن يحصدوا النتائج وأي حق لهم على ولي أمرهم طالما هم الذين تركوه أولاً. كان المنتظر منهم غير الذي فعلوه وهكذا حدث لهم ما لم ينتظروه بالنسبة لغلاظة قلوبهم وتحجر ضمائرهم وتركهم للرب الإله الذي ذهبت عجائبه فيهم عبثاً.
(١٤ و١٥) لو أطاع الشعب إلهه لكان منتصراً على الأعداء ظافراً ضد كل المضايقين والكائدين له شراً وهكذا كان الرب يرّد يده مرة أخرى كما مدّها قديماً ضد مصر وجميع جندها. وهكذا يصبح هؤلاء الأعداء متذللين لا يقوون على الصمود بوجه الرب ويكون وقت ذلهم إلى الدهر إلى مدى طويل لا يستطيعون معه أن يفعلوا شيئاً ضد إله إسرائيل. ولكن شعبه بسبب عناده هو في حالة التوبيخ لأجل التربية وطلب التوبة (راجع إشعياء ١: ٢٥ وعاموس ١: ٨ وإرميا ٦: ٩ وحزقيال ٣٨: ١٢) أما مبغضو الرب فلا فرق أكانوا من الأعداء الأجانب أو من شعب إسرائيل نفسه فهم لكي ينجوا مما هم فيه يجب أن يتذللوا أمام الرب ويخضعوا له مظهرين سيادته عليهم وإلا فنهايتهم الهلاك كنهاية أعداء الرب جميعهم.
(١٦) ويختم المزمور كلامه بتعبير تاريخي وإن يكن كما رأينا بصورة مقتضبة كما هي الحالة في (المزمورين ٧٧ و٧٨). يعود المرنم إلى تلك العلاقة الجميلة إذا سمعوا صوت الرب (راجع تثنية ٣٢: ١٣ وما بعده). فهو يريد أن يعود الشعب بالذاكرة إلى المواعيد المقدسة ولا ينسوها. وهوذا هنا يستعمل ما قاله لهم الرب نفسه في (مزمور ٥٠: ٨ وتثنية ٤: ٣١). إذا عاد الشعب للرب وسلّم ذاته بالكلية إليه فهو مستعد مرة أخرى أن يصنع عجائبه معه كما حدث في أيام موسى لأنه إله واحد قدير قديم الأيام وهو هو أمساً واليوم وإلى الأبد. حينئذ يأكل الشعب فيشبع ويتمتع بأطايب الحياة كلها حتى من العسل البري الذي تكشفه له الصخرة. وهكذا يعيش سعيداً كريماً بدلاً من عيشه الحاضر.
السابق |
التالي |