سفر المزامير

سفر المزامير | 66 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّادِسُ وَٱلسِّتُّونَ

لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ

«١ اِهْتِفِي لِلّٰهِ يَا كُلَّ ٱلأَرْضِ. ٢ رَنِّمُوا بِمَجْدِ ٱسْمِهِ. ٱجْعَلُوا تَسْبِيحَهُ مُمَجَّداً. ٣ قُولُوا لِلّٰهِ: «مَا أَهْيَبَ أَعْمَالَكَ. مِنْ عِظَمِ قُوَّتِكَ تَتَمَلَّقُ لَكَ أَعْدَاؤُكَ. ٤ كُلُّ ٱلأَرْضِ تَسْجُدُ لَكَ وَتُرَنِّمُ لَكَ. تُرَنِّمُ لٱسْمِكَ». سِلاَهْ» .

نلاحظ أنه في هذا المزمور والذي قبله وكذلك في بعض المزامير التالية يوجد العنوان «تسبيحة مزمور أو مزمور تسبيحة». وفي ذلك دلالة خاصة علينا أن نعيرها اهتمامنا. نقرأ في المزمور ٦٥: ١ «لَكَ يَنْبَغِي ٱلتَّسْبِيحُ يَا اَللّٰهُ فِي صِهْيَوْنَ، وَلَكَ يُوفَى ٱلنَّذْرُ». وفي هذا المزمور عدد ١٣ «أَدْخُلُ إِلَى بَيْتِكَ بِمُحْرَقَاتٍ، أُوفِيكَ نُذُورِي». ثم يوجد كلمة البركة وطلب بركة الله. وهو من المزامير التي تذكر كلمة الله لا الرب ما عدا العدد الثامن عشر حيث يذكر هذه الكلمة وهو على الأرجح قبل السبي لا بعده.

وعقب تحرير من عبودية بعض الأمم إذا بالمرنم يدعو كل سكان الأرض لكي يهتفوا. ويصور لنا أموراً شخصية أتمها المرنم في الأعداد (١٣ و١٤ و١٥ على التوالي). التي يذكرها بكل دقة وتفاخر. وقد يكون زمان كتابته موافقاً لأيام حزقيا حينما سقطت قوة أشور وانهارت عظمتها. وإنما لا يوجد أمامنا أي دليل يدعونا أن ننسب نظمه لإشعياء أو لحزقيا.

(١) وترجمته «اهتفي» هي بالأحرى «قدموا لله مجداً». وهي شبيهة بما ورد في (يشوع ٧: ١٩ وإشعياء ٤٢: ١٢) وهكذا فهذا الهتاف هو دليل التعبد والاحترام لله عز وجل. ويتمنى على جميع الأمم أن تفعل ذلك لأنه من الواجب عليها ومن مصلحتها الخاصة أيضاً.

(٢) هنا تكريم للاسم «يهوه» والاسم هو كناية عن الشخص ذاته فقوله رنموا بمجد اسمه أي مجدوا ذات الله وشخصه وليكن التسبيح بصورة كريمة مجيدة تستلفت أنظار جميع الذين يسمعون. وهذه الترنيمة المجيدة تشبه كثيراً ما ورد في (رؤيا ١٥: ٣ وما يليه). ذلك لأن أعظم مظاهر الفرح تتكون ونحن نرنم وننشد أعظم أغانينا لأن الموسيقى وحدها تجعل مثل هذا الترنيم مجيداً للغاية.

(٣) وموضوع هذا الترنيم أو الداعي هو تمجيد أعمال الله ذاتها. هي أعمال ذات هيبة ووقار لا يستطيع الإنسان العاقل أن يمر بها دون تمعن وتفكير. ولأن أعماله عظيمة بهذا المقدار فهي التي تجعل حتى الأعداء يتهيبون ويطلبون رضا الله عليهم وإن كانوا لا يؤمنون باسمه إيماناً قلبياً حقيقياً.

(٤) ذلك لأن الأرض كلها أصبحت تعترف بهذا الإله الواحد الأحد خالق جميع الكائنات ومدبرها بحكمته السرمدية التي لا تستقصى. فلا عجب إذا كانت ترنم له وتعرف اسمه وتسبحه أيضاً بكل ما أوتيت من عذوبة اللحن وجمال العبادة والوقار. وينهي العدد بارتفاع الموسيقى دليل أهمية الموضوع وتكميلاً لهذا التمجيد الذي يدعو إليه.

«٥ هَلُمَّ ٱنْظُرُوا أَعْمَالَ ٱللّٰهِ. فِعْلَهُ ٱلْمُرْهِبَ نَحْوَ بَنِي آدَمَ. ٦ حَوَّلَ ٱلْبَحْرَ إِلَى يَبَسٍ، وَفِي ٱلنَّهْرِ عَبَرُوا بِٱلرِّجْلِ. هُنَاكَ فَرِحْنَا بِهِ. ٧ مُتَسَلِّطٌ بِقُوَّتِهِ إِلَى ٱلدَّهْرِ. عَيْنَاهُ تُرَاقِبَانِ ٱلأُمَمَ. ٱلْمُتَمَرِّدُونَ لاَ يَرْفَعُنَّ أَنْفُسَهُمْ. سِلاَهْ. ٨ بَارِكُوا إِلٰهَنَا يَا أَيُّهَا ٱلشُّعُوبُ، وَسَمِّعُوا صَوْتَ تَسْبِيحِهِ. ٩ ٱلْجَاعِلَ أَنْفُسَنَا فِي ٱلْحَيَاةِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ أَرْجُلَنَا إِلَى ٱلزَّلَلِ».

(٥) والمرنم هنا بعد أن يدعو لتقديم التمجيد والتسبيح فهو يفعل ذلك بناء على البرهان الحسي فيطلب من الناس جميعاً بقوله «هلم انظروا…» أي يتحققون بعيونهم بالخُبر ما سمعوه بالخبر. ونجده بعد ذلك في العدد ١٦ من هذا المزمور يدعوهم أيضاً لكي يسمعوا فيحدثهم عن اختباره هو لكي يعينهم على فهم ما لم يفهموه بعد من عظمة هذا الإله وأعماله المرهبة التي تجبر الناس جميعاً على أن يكونوا متعبدين له ومعظمين لاسمه. ودعوته كما رأينا عامة شاملة تتناول جميع بني البشر.

(٦) يذكر هنا بأمور تاريخية عن عبور البحر الأحمر الذي تحوّل إلى يبس وقتي وكذلك قد عبروا في نهر الأردن وهكذا نجوا من يد الأعداء اللاحقين بهم القاصدين ضررهم والإيقاع بهم بكل ما يستطيعون من وسائل. وقوله «هناك فرحنا به». قد تترجم بشكل الاستفهام «أما حينئذ فرحنا به؟» أي أن الفرح الذي تمتعوا به كان مبنياً على حقائق لمسوها في الحياة اليومية.

(٧) على الكنيسة واجب إظهار قدرة الله للناس جميعاً. فهو المتسلط وحده وإلى الدهر. ذلك لأنه بقدرته الكاملة يراقب الأمم ويلاحظ تاريخهم وأعمالهم وحينئذ فإن المتكبرين المتعظمين الذين يريدون استعباد الآخرين لا يمكنهم أن يظلوا كذلك إلى الأبد. وهنا ينهي بارتفاع الموسيقى أيضاً.

(٨) ذلك أن الله وحده هو ذو السلطان والعظمة والجلال فكل تعظم وتكبر من البشر لا يجديهم نفعاً بل تكون عاقبته في جهة معاكسة أي الفشل والخذلان. لذلك يعود المرنم إلى النصيحة ويقول بأن الواجب يدعو الشعوب كلهم لتقديم البركة للرب وعليهم أن يسبحوا اسمه مكرمين ممجدين.

(٩) بعد أن كان شعبه في خطر الاضمحلال والموت إذا بهم الآن في الحياة أي قد نالوا النجاة وأنقذوا من كل الضيقات فهم يتمتعون بجميع بركات الحياة بسلام واطمئنان. وهكذا فهو لا يسمح لتلك الأرجل الضعيفة أن تستسلم للزلل والسقوط والهوان بل يسندهم ويقويهم لكي يمشوا رافعي الرأس عالي الجبين. وهذا السند الذي نالوه جعلهم أن يعترفوا بالجميل الإلهي فهم وحدهم لم يستطيعوا أن ينجوا أنفسهم إذ أن النجاة الحقة هي من فوق من السماء.

«١٠ لأَنَّكَ جَرَّبْتَنَا يَا اَللّٰهُ. مَحَصْتَنَا كَمَحْصِ ٱلْفِضَّةِ. ١١ أَدْخَلْتَنَا إِلَى ٱلشَّبَكَةِ. جَعَلْتَ ضَغْطاً عَلَى مُتُونِنَا. ١٢ رَكَّبْتَ أُنَاساً عَلَى رُؤُوسِنَا. دَخَلْنَا فِي ٱلنَّارِ وَٱلْمَاءِ، ثُمَّ أَخْرَجْتَنَا إِلَى ٱلْخِصْبِ. ١٣ أَدْخُلُ إِلَى بَيْتِكَ بِمُحْرَقَاتٍ، أُوفِيكَ نُذُورِي ١٤ ٱلَّتِي نَطَقَتْ بِهَا شَفَتَايَ وَتَكَلَّمَ بِهَا فَمِي فِي ضِيقِي».

(١٠) يعود المرنم إلى الاختبارات التي مرت فهي أشبه بالتنقية والتمحيص للفضة ولولا ذلك لبقيت في فساد وزغل. إن الله يجرب الإنسان لكي يمتحنه ويعرف من أي معدن هو وهذه المعرفة هي لفائدة الإنسان ذاته بالأولى. إذ الله عالم بكل شيء ويعرف خفيات القلوب وعلى الإنسان أن يعرف ذاته ولا يتكبر في أي الأمور لئلا تفوته كلمات النصيحة والإرشاد ويبقى في الجهل والغباوة ومخلف أنواع الشرور. ولولا أن التمحيص ضروري لما كانت الفضة بيضاء ونقية.

(١١ و١٢) وهنا يفصّل المرنم ما احتمله الشعب من اضطهاد فكانوا في شبكة وكانوا تحت حمل ثقيل بل كأنما أناس على الرؤوس لا يستطيعون رفعها. وهكذا دخلوا النار بشدائد مرعبة ولكنها مطهرة ودخلوا الماء بشدائد غير ثابتة بل متقلقلة صخابة ذات أمواج مختلفة وإنما ذلك كله إذا باليد الحنونة تخرج الشعب إلى الحياة المريحة الخصيبة. والصورة عن تمحيص الفضة مذكورة كثيراً (راجع زكريا ١٣: ٩ وملاخي ٣: ٣ وحزقيال ١٩: ٩). ومخاطر النار والماء هي من أعظم المخاطر التي قد يتعرض لها الإنسان في حياته اليومية (راجع إشعياء ٤٣: ٢). فقد تعرض الشعب للغرق وللاحتراق. ولكن قد تحولت قوة النار للخير كما تحولت هذه المياه الصخابة لكي تروي الزروع وتجعلهم في خصب وبحبوحة في عيشهم آمنين.

(١٣) من هذا العدد وما بعده يبدأ المرنم كلامه كما رأينا عن اختباراته وأعماله الشخصية. فهو يدخل إلى بيت الله ليقدم المحرقات عنوان التعبد وتقديم الخشوع بل عليه أن يوفي نذوره كلها إذ قد كان في ضيقة عظيمة من قبل وأما الآن ففي خير عظيم وعليه أن لا ينسى رحمة الله بل يذكره وهكذا يقدم النذور المستحقة عليه عربون الشكر والاعتراف بالجميل إذ لا يكفي الاعتراف باللسان وحمد الله بالفم بل ليرافق ذلك أشياء تكلفنا من جيوبنا لأن الديانة التي لا تكلف لا تنفع كثيراً.

(١٤) وتقديمه هذه النذور هو بموجب ما وعد به من قبل وعداً شفهياً حينما كان في ذلك الضيق الذي لا يستطيع أن يتناساه. فإذا أوفى نذوره فهو بذلك أولاً يتذكر ما مر عليه من قبل وفي الذكرى عبرة وتعقل. وثم هذه الذكريات تجعله رقيق القلب بعيداً عن الصلف والتكبر اللذين يجعلان الحياة جافة جامدة ولا يرضى عنها الله. وهذا النذر لتحقيق السلامة.

«١٥ أُصْعِدُ لَكَ مُحْرَقَاتٍ سَمِينَةً مَعَ بَخُورِ كِبَاشٍ. أُقَدِّمُ بَقَراً مَعَ تُيُوسٍ. سِلاَهْ ١٦ هَلُمَّ ٱسْمَعُوا فَأُخْبِرَكُمْ يَا كُلَّ ٱلْخَائِفِينَ ٱللّٰهَ بِمَا صَنَعَ لِنَفْسِي. ١٧ صَرَخْتُ إِلَيْهِ بِفَمِي وَتَبْجِيلٌ عَلَى لِسَانِي. ١٨ إِنْ رَاعَيْتُ إِثْماً فِي قَلْبِي لاَ يَسْتَمِعُ لِيَ ٱلرَّبُّ. ١٩ لٰكِنْ قَدْ سَمِعَ ٱللّٰهُ. أَصْغَى إِلَى صَوْتِ صَلاَتِي. ٢٠ مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ ٱلَّذِي لَمْ يُبْعِدْ صَلاَتِي وَلاَ رَحْمَتَهُ عَنِّي».

(١٥) يعدّد هنا المحرقات التي ينوي تقديمها فهي من المحرقات السمينة ذات القيمة والثمن لأن الله يرضى عن مثل هذه الذبائح التي تكلفنا من مالنا ونفعلها عن قصد كريم وليس بالاستهتار إذ نقدم كيفما اتفق وأبخس ما لدينا. وكانت الحملان والثيران المسمنة هي أفضل أنواع التقدمات ويليها الماعز الذي يأتي في مرتبة ثانية. وكان يقدم البخور العطر لكي يجعل رائحة النار وقت الاحتراق خصوصاً لدى حرق الشحوم ذات رائحة طيبة ترفع بالنفوس للأعالي كارتفاعها هي وقت المحرقة.

(١٦) لقد رأينا من قبل عدد ٥ كيف أنه يلفت النظر والسمع معاً لهذه الاختبارات الروحية العميقة المطهرة للنفوس. والشيء الذي يسترعي انتباهنا هو قوله «بما صنع لنفسي». نعم لا يمكن أن تكون هذه التقدمات من المرنم كفرد بل يشعر شعور الجماعة ويرى نفسه معهم يقدمها لله. ولكن هذا الاختبار العميق المرافق للتقدمة هو شيء شخصي يجدر بنا أن نعيره اهتمامنا ونصغي للدرس الذي يلقيه.

(١٧) لم تكن صلاته سرية أي في داخل قلبه بل كانت مسموعة يلفظها الفم أيضاً. والكلمة العبرانية المترجمة «تبجيل» تفيد معنى الارتفاع والتعظيم. وفيه تعاكس بياني لأنه يقول في العبرانية تحت لساني. أي هذا الحمد يجعل لساني أن يرتفع ويتعظم بتعظيمه لاسم الله القدوس. إن الله يريدنا أن نجاهر ولا نستحي باسمه قط. والمؤمن يلتذ بالصلاة ويفخر بأن يذيعها علناً غير متفاخر.

(١٨) ولكنه هذا المجاهرة اللسانية غير كافية قط فنرى المرنم بسرعة وبكل حكمة يخبرنا أن هذه العبادة بواسطة الطقوس وتقديم الذبائح والمحرقات لا تفيد شيئاً إن لم تقترن بالقلب الطاهر. لأنه إن تركنا فيه شيئاً نجساً نبقى منجسين بلا ريب. وهنا خطوة نحو العبادة الروحية بل هنا الجسر يقطع عليه العابد من الطقوس إلى أن يصل إلى قول السيد له المجد «الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا».

(١٩) وهنا تأكيد جميل يعود على المرنم بالاطمئنان والثقة التي لا تثمن. فقد تأكد أن الله قد سمع وليس ذلك فقط بل قد أصغى ولا شك سوف يستجيب أيضاً. وما أحسن أن يكون لنا اليقين الثابت كهذا بأن الله حري بأن يسمع أصواتنا فلنتكل عليه ونحمد اسمه القدوس كل حين.

(٢٠) ولأن المرنم قد تأكد موقناً بإصغاء الله لصوته إذا به يتحول للحمد والتسبيح. لقد ابتدأ بدعوة الناس جميعاً لمشاركته فقد خاطب الأمم كلهم لكي يروا عظمة الله ولكنه لا يكتفي بذلك بل نراه يختم بذلك الاختبار الشخصي الضروري لكل ديانة حقة. فكما أن الله هو إله الأمم هو بالأولى إلهي.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى