سفر المزامير

سفر المزامير | 65 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلْخَامِسُ وَٱلسِّتُّونَ

لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ. تَسْبِيحَةٌ

«١ لَكَ يَنْبَغِي ٱلتَّسْبِيحُ يَا اَللّٰهُ فِي صِهْيَوْنَ، وَلَكَ يُوفَى ٱلنَّذْرُ. ٢ يَا سَامِعَ ٱلصَّلاَةِ، إِلَيْكَ يَأْتِي كُلُّ بَشَرٍ. ٣ آثَامٌ قَدْ قَوِيَتْ عَلَيَّ. مَعَاصِينَا أَنْتَ تُكَفِّرُ عَنْهَا. ٤ طُوبَى لِلَّذِي تَخْتَارُهُ وَتُقَرِّبُهُ لِيَسْكُنَ فِي دِيَارِكَ. لَنَشْبَعَنَّ مِنْ خَيْرِ بَيْتِكَ، قُدْسِ هَيْكَلِكَ».

يظهر أن الغاية من كتابة هذا المزمور هو من أجل البهجة بالخيرات التي يسبغها الله على شعبه. وهو للحمد والتسبيح والشكر فقد اجتمع شعب كثير أمام الخيمة في صهيون لكي يقدموا سجودهم للرب الذي نجاهم من الأمم أعدائهم حولهم والآن هم في سلام وبحبوحة وتحيط بهم الحقول المخضرة التي تبشرهم بموسم جزيل مبارك وحينئذ يفون بالنذور التي قدموها من قبل. وقد يكون لهذا المزمور علاقة بما ذكره (إشعياء ٣٧: ٣٠) عن الربيع الثالث حينما كانت أشور قد انهارت وأصبح الناس في أمنٍ وسلام. وأما وضع العنوان مزمور لداود فلا يجوز أن نحسب كل ما وضع بهذا العنوان هو لداود حقيقة بل تبركاً باسمه على الأرجح.

(١ و٢) قد يترجم هذا العدد الأول «بتسليمنا يقدم التسبيح لك يا الله في صهيون». والتسليم هنا أي الخضوع لمشيئة الرب والإذعان بل والصمت في حضرته (راجع خروج ١٤: ١٤). وهو في صهيون أي مكان قدسه. هناك تقدم العبادة والسجود ولأنه يسمع الصلاة ويستجيب الدعاء تقدم له النذور في أوقاتها. ونرى في العدد الثاني أن الله يخاطبه المتعبّد بقوله «يا سامع الصلاة» (راجع إشعياء ٤٥: ٢٤). إن البشر بجملتهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً فهم لا عون منهم ولا نجدة يستطيعون تقديمها وإذا اعتمد المؤمن عليهم فلا نصيب له سوى اليأس والقنوط. وهذا المعنى الأخير وارد في أمكنة متعددة من المزامير. والله وحده هو الذي يستجيب الدعاء والصلاة.

(٣) في القسم الأول يوجد فعل ماضٍ. وأما القسم الثاني فيصير مضارعاً. يصيح المرنم أولاً أن آثامه أقوى منه ولا يستطيع احتمالها (تكوين ٤: ١٣) فهي حمل ثقيل يرزح تحته ولا يستطيع النهوض فهو يقر بعجزه وضعفه. ولكنه حالاً يلتفت إلى الله ويجد فيه كفارة وفداء دائمين. إن الله يريد لنا تمام الخير وهو قادر وحده على إتمامه ولا أحد غيره يفعل ذلك.

(٤) ثم يطوب ذلك الشخص الذي يقربه الله إليه ويرضى عنه بل يدخله إلى بيته المقدس لكي يسكن هناك (راجع أيوب ٣٠: ٢٨). وحينئذ هذا المؤمن يحسب هيكل الله بيته الشخصي حيثما يأكل ويشرب كما يفعل كل منا في بيته. وهنا يظهر شوقه العظيم وتعلقه بالمكان المقدس الذي يسكن الله بنعمته وحينئذ نشبع من خيره بعد جوع ونرتوي بعد عطش. وقد صرّح لنا السيد المسيح بقوله «طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَٱلْعِطَاشِ إِلَى ٱلْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ» (متّى ٥: ٦).

«٥ بِمَخَاوِفَ فِي ٱلْعَدْلِ تَسْتَجِيبُنَا يَا إِلٰهَ خَلاَصِنَا، يَا مُتَّكَلَ جَمِيعِ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ وَٱلْبَحْرِ ٱلْبَعِيدَةِ. ٦ ٱلْمُثْبِتُ ٱلْجِبَالِ بِقُوَّتِهِ، ٱلْمُتَنَطِّقُ بِٱلْقُدْرَةِ، ٧ ٱلْمُهَدِّئُ عَجِيجَ ٱلْبِحَارِ عَجِيجَ أَمْوَاجِهَا وَضَجِيجَ ٱلأُمَمِ. ٨ وَتَخَافُ سُكَّانُ ٱلأَقَاصِي مِنْ آيَاتِكَ. تَجْعَلُ مَطَالِعَ ٱلصَّبَاحِ وَٱلْمَسَاءِ تَبْتَهِجُ».

(٥) إن الله العادل هو مخوف في عدله يجريه على الجميع دون استثناء. وحينئذ فإن كل ظالم سيأتيه القصاص في حينه لأن الله إله الخلاص يستجيب الدعاء ولا يترك الذين يتكلون عليه بدون عون وإسعاف. واستجابة الله قد تكون بعض الأحيان بأمور مفزعة مخيفة ولكنها لا تخرج عن نطاق العدل فهو إله بار عادل قدوس (انظر إرميا ٤٢: ٦). ولأنه عادل ويجزي شعبه عن أعمالهم فهو يخلصهم لأنه متكل جميع الأراضي والشعوب. وقوله «والبحر البعيدة» أي جزر البحار أو البلدان الواقعة فيما وراء البحار. إذ الله هو الحاكم على كل شيء (راجع إشعياء ٣٣: ١٣ و٢أخبار ٣٢: ٢٢ وما يليه).

(٦) إن الله العلي هو الذي يثبت الجبال وهو اللابس القدرة كمنطقة يسد بها وسطه. إذاً فهو في عالم الطبيعة مصدر القوة والمجد لأعظم الأشياء وهي الجبال الشامخة في علوها المرتفعة في ذراها لتشرف على أبعد الأمكنة. وهو بين البشر شديد مقتدر (انظر إرميا ١٠: ١٢) وقد يكون في ذكره للجبال إشارة للأمم المتعالية كالجبال (انظر إشعياء ٤١: ١٥).

(٧) فكما أنه يثبت الجبال ويرسخها في قلب الأرض كذلك هو الذي يعطي سلاماً وطمأنينة في البحار أيضاً. وحينئذ إذا حسبنا أن الجبال هي إشارة للأمم المتعالية فيكون أن الله يهدئ صولتها وسيطرتها ويخفض من نفوذها وحينئذ لا يكون العجيج ولا الضجيج مما يؤبه به. إن كل اضطراب وحرب وكل بغض وحقد وكل عداوة يجب أن يخضع لمالك الكائنات والشعوب جميعها ولتهب الله بكل احترام وورع (إشعياء ١٧: ١٢ – ١٤).

(٨) وحينما يتسلط الله بمجده على جميع الكائنات ويرى البشر جميع الآيات التي صنعها قديماً ويصنعها على الدوام إذا بهم يخافون ويرتعبون. وهكذا يعم خوف الرب حتى أقاصي الأرض كلها. فالله هو الذي يسيّر مجرى التاريخ حسب مشيئته السرمدية ولا يسمح للحوادث أن تجري كما اتفق بل يوجد وراء هذه المظاهر الطبيعية والبشرية جميعاً قدرة لا تدركها الأفهام وهي حقيقة وعاملة في هذا الكون العظيم ولا تفتر كذلك إلى الأبد. ولأن منه البداءة فإليه النهاية أيضاً وهكذا يجعل الصباح والمساء يبتهجان معاً فكما للصباح بهجته لكونه بدء النهار والقيام بالأعمال والواجبات كذلك فإن المساء وختامه وابتداء وقت الراحة والسكون. وما أجمل وما أبهج ذلك اليوم الذي نفتتحه بطلب رضا الرب علينا ونختمه كذلك فهو لا شك مملوء بالبهجة والحبور. وقد يكون المعنى أيضاً أن سكان المشارق والمغارب جميعاً يعرفون الله ويبتهجون بعظمته وجلاله.

«٩ تَعَهَّدْتَ ٱلأَرْضَ وَجَعَلْتَهَا تَفِيضُ. تُغْنِيهَا جِدّاً. سَوَاقِي ٱللّٰهِ مَلآنَةٌ مَاءً. تُهَيِّئُ طَعَامَهُمْ لأَنَّكَ هٰكَذَا تُعِدُّهَا. ١٠ أَرْوِ أَتْلاَمَهَا. مَهِّدْ أَخَادِيدَهَا. بِٱلْغُيُوثِ تُحَلِّلُهَا. تُبَارِكُ غَلَّتَهَا. ١١ كَلَّلْتَ ٱلسَّنَةَ بِجُودِكَ، وَآثَارُكَ تَقْطُرُ دَسَماً. ١٢ تَقْطُرُ مَرَاعِي ٱلْبَرِّيَّةِ، وَتَتَنَطَّقُ ٱلآكَامُ بِٱلْبَهْجَةِ. ١٣ ٱكْتَسَتِ ٱلْمُرُوجُ غَنَماً، وَٱلأَوْدِيَةُ تَتَعَطَّفُ بُرّاً. تَهْتِفُ وَأَيْضاً تُغَنِّي».

(٩) يبدأ هنا بالشكر لله لأجل خير السنة وفيض نعمة الله فيها ذلك لأنه يتعهدها دائماً بعنايته الإلهية ولا سيما على الأرض التي يقطنها شعبه. فهي أرض مملوءة بالبر والبركات غنية بالخيرات. هوذا السواقي ملآنه بالمياه المتدفقة دليل كثرة الأمطار لا سيما في بلاد مثل فلسطين جافة قليلة المياه. ولأن الماء هو سبب الخصب والبركات إذن بنعمة الله وحنوه ورحمته تجعل طعام البشر والحيوانات موجودة بكثرة (انظر تثنية ٣٣: ٢٦ وأيوب ٣٨: ٢٦ وما يليه).

(١٠) فقد روت الأمطار الغزيرة الأتلام وكستها بطبقة من الطمي جعلتها تظهر كلها كأنها سهل واحد وإذا هذه الأمطار تحلل التربة وتجعلها صالحة للزراعة وهي بعد ذلك بحالة جيدة لتعطي غلالاً كثيرة تفرح قلوب الفلاحين بما ينتظرونه من خيرات لا شك مقبلة. إن ذكر الغيوث على هذه الصورة يرينا أنها كانت سنة ممتازة غير شكل عن بقية السنين. إذ أن الأمطار هي مصدر الخيرات وأعظم نعم الله على الإنسان فيمنحه رياً كافياً للأراضي وهكذا سميت أراضي البعل إلى هذا اليوم إشارة إلى ما اعتقده الكنعانيون والفينيقيون من أن الإله هو الذي يرسل لها الأمطار ويعتني بها.

(١١) لذلك فهي سنة خير وبركات ولا عجب أن تكون كذلك طالما جاءتها الأمطار في حينها فلم تتأخر ولم تأت دفعة واحدة بل جاءت في فترات متناسقة مناسبة للزروع النامية وهكذا كانت تسقيها كلما احتاجت للري. فكأنما الله قد وضع إكليلاً على رأسها وجعلها زينة السنين. هوذا آثار الله ظاهرة في الربيع المزدهر الذي تمرح فيه الأنعام والماشية وتشبع وتكبر حتى تسمن وتكون ذات دسم خاص حينما تعطي لبنها للآكلين أو لحم خرافها الطريئة اللذيذة.

(١٢ و١٣) هوذا المراعي الخضراء تدعو الإنسان والحيوان ليشبع من دسم الأرض والخيرات الحاصلة منها. وهوذا الآكام بما فيها من زهور البرية تتموج بجمالها فتجعل النزهة فيها من أجمل الأمور. وهذه البهجة هي بالنسبة لما تتمتع به الحواس من جمال وعبير وكذلك بالنسبة لأن الخيرات المنتظرة أصبحت قريبة التحقيق لا شك فيها. وإذاً فإن الغنم قد كست المروج لأنها ترعى فيها بكثرة حتى تجعل ألوانها مع اخضرار العشب من أجمل ما تقع عليه العيون. والأودية تتموج وتتعطف بالقمح الذي هو غذاء الإنسان وقوته الأهم. لذلك فإن الخيرات تعم الجميع على السواء ومن حقهم أن يفرحوا ويبتهجوا وأن يهتفوا ويترنموا لأن بركات الله قد ملأت القلوب جميعها بالفرح والاطمئنان.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى