سفر المزامير | 64 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلرَّابِعُ وَٱلسِّتُّونَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
«١ اِسْتَمِعْ يَا اَللّٰهُ صَوْتِي فِي شَكْوَايَ. مِنْ خَوْفِ ٱلْعَدُوِّ ٱحْفَظْ حَيَاتِي. ٢ ٱسْتُرْنِي مِنْ مُؤَامَرَةِ ٱلأَشْرَارِ، مِنْ جُمْهُورِ فَاعِلِي ٱلإِثْمِ ٣ ٱلَّذِينَ صَقَلُوا أَلْسِنَتَهُمْ كَٱلسَّيْفِ. فَوَّقُوا سَهْمَهُمْ كَلاَماً مُرّاً».
هذا المزمور لا يعرف زمان كتابته إذ ليس فيه شيء من الأدلة التاريخية ترينا زمان أو مكان كتابته. وتقول «المدراش» إنه يناسب دانيال الذي طُرح في جب الأسود بواسطة مكيدة أحكم المتآمرون وضعها. وإذا كان هذا الوصف في المزمور ينطبق على حالة دانيال فليس من المؤكد متى كتب في العصر الذي عاش فيه داود واحتمل التعذيب والشدائد إن كان في أيام اضطهاد شاول له أو في أيام حكم أبشالوم وثورته على أبيه. وأما العنوان لإمام المغنين فهو الذي وضع اللحن الموافق وينسب النظم إلى داود ذاته.
(١) يبدأ المزمور بالشكوى والالتجاء إلى الله. وأما الشكوى فهي بواسطة الكلمات وليس بواسطة أنات الآلام المعتادة. والتعبير بالكلام هنا لأنه يفهم الآخرين سبب الشكوى وموضوعها لا سيما والمرنم يريد رفعها إلى الله. وأما قوله خوف العدو أي ما يسببه من ويلات. والعدو هنا كناية عن جماعة متأمرين بالشر على الصديق. إذاً فالعدو عديد وليس مفرداً. ويطلب أن تحفظ حياته منهم لأنهم قوم لا ينفكون وراء نفسه حتى يهلكوها.
(٢) في هذا العدد يتبين لنا جلياً أن الأعداء كثيرون عليه فهم جمهور فاعلي الإثم وليسوا في حالة البساطة والسذاجة ليهون أمرهم ولكنهم أشداء حكماء لهم موآمراتهم الخفية وتدابيرهم التي يصنعونها في الخفاء للإيقاع بالمستقيمي القلوب. وهو يطلب الستر والحماية إذ لا يستطيع الاعتداء على أحد وفي الوقت ذاته لا يريد أحداً يعتدي عليه.
(٣) إن السيف يصقل لكي يصبح أمضى من ذي قبل. وحينئذ إذا استعملته يد قوية يكون فتاكاً ومهلكاً. وكذلك هم أعدّوا سهامهم لكي يرموها لدى أول سانحة وكان إعدادهم لها بواسطة الكلام المر. نعم إن اليد الشريرة لا تمتد للفعلة الشنعاء إلا بإرشاد اللسان الشرير الذي يخرج عن دائرة السكوت إلى أن يسلق الآخرين ويهشمهم بلواذعه تهشيماً. وقد قال الشاعر:
جراحات السنان لها التئام | ولا يلتام ما جرح اللسان |
إلا فليتق الله كل ذي لسان ذرب يستعمله صاحبه للشر والوقيعة بدل الخير والسلام.
« ٤ لِيَرْمُوا ٱلْكَامِلَ فِي ٱلْمُخْتَفَى بَغْتَةً. يَرْمُونَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ. ٥ يُشَدِّدُونَ أَنْفُسَهُمْ لأَمْرٍ رَدِيءٍ. يَتَحَادَثُونَ بِطَمْرِ فِخَاخٍ. قَالُوا: مَنْ يَرَاهُمْ؟ ٦ يَخْتَرِعُونَ إِثْماً، تَمَّمُوا ٱخْتِرَاعاً مُحْكَماً. وَدَاخِلُ ٱلإِنْسَانِ وَقَلْبُهُ عَمِيقٌ».
(٤) هؤلاء الأشرار الذين أعدوا عدتهم إنما فعلوا ذلك في خفية عن الأعين إذ لا يريدون أن يكتشفهم أحد. فهم وإن لم يخجلوا من أنفسهم قد يخجلون من الناس حولهم. لذلك لا يجرأون على التظاهر بالبغض والشر. ولكنهم كالوحوش المفترسة التي تكمن لطريدتها هكذا يفعلون بالمساكين الذين وهم في غفلة من أمرهم إذا بهم يقعون في الشرك الذي نصبوه لهم. وهم لا يخشون الله ولا يخافون اسم العلي. لأن قلوبهم قاسية متمرغة في الإثم والخطيئة وضمائرهم متحجرة لا يميزون الخير من الشر.
(٥) ما أشدهم وما أقواهم على إتيان الأمور الرديئة. فكما هم متقاعسون متكاسلون عن فعل الخير هم في الوقت ذاته أشداء ماهرون في ارتكاب المعاصي والآثام. يعرفون أنه لأمر رديء هم قادمون ولكنهم لا يتأخرون عن ذلك وحديثهم هو في طمر فخاخ ونصب أشراك وأحابيل زاعمين أن لا أحد يراهم حتى ولا الله فكم بالأحرى أي الناس. هم يستخفون بكل الناس وبكل الوصايا الإلهية ويحسبون أن ترتيباتهم لا تعيقها الوصايا ولا يستطيع أي إنسان أن يؤثر عليهم للخير والإصلاح إذ هم قد رفضوا كل خير وتوغلوا في المعاصي إلى الدرجات البعيدة. وقوله من يراهم؟ ليس للاستفهام (راجع إرميا ٤٤: ٢٨ وأيوب ٢٢: ١٧ و١ملوك ٦: ٢٠).
(٦) إنهم حاذقون ماهرون ومتمرنون على عمل الشر والفساد وقد وصلوا إلى درجة الاختراع. ولذلك قد حولوا مقدرتهم للشر بدل الخير. هم قوم ذوو عقول ثاقبة ربما ومعارف واسعة ولكن! لا ضمير عندهم يبكتهم على أي شيء. إذاً فالمعرفة وحدها لا تكفي ولا العلم وحده في المدارس والمنتديات يدفع مكروهاً بل قد يسببه لأنه «علّم ابنك العلم بلا دين تجده من أمهر الشياطين». واختراع هؤلاء الأشرار للإثم كان بطريقة بارعة محكمة. فقد تظاهروا مدة طويلة بغير ما يضمرون ولذلك قال عنهم «داخل الإنسان وقلبه عميق». لأنه لنا الظاهر ونحكم على اللسان وعلى الأعمال الخارجية. ولذلك فقد خدعوا وواربوا وكذبوا وادعوا وكانوا في ترتيباتهم الخفية غير ما أظهروه للآخرين. نعم إن داخل الإنسان وقلبه عميق ولكنه ليس أعمق من أن يعرفه الله ويفحصه دائماً.
«٧ فَيَرْمِيهِمِ ٱللّٰهُ بِسَهْمٍ. بَغْتَةً كَانَتْ ضَرْبَتُهُمْ. ٨ وَيُوقِعُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. يُنْغِضُ ٱلرَّأْسَ كُلُّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ. ٩ وَيَخْشَى كُلُّ إِنْسَانٍ وَيُخْبِرُ بِفِعْلِ ٱللّٰهِ، وَبِعَمَلِهِ يَفْطَنُونَ. ١٠ يَفْرَحُ ٱلصِّدِّيقُ بِٱلرَّبِّ وَيَحْتَمِي بِهِ، وَيَبْتَهِجُ كُلُّ ٱلْمُسْتَقِيمِي ٱلْقُلُوبِ».
(٧) لذلك هوذا الله يرميهم ويبغتهم. فلم يكونوا السابقين في المباغتة إذ لا يستطيعون ذلك مع الله وإن كان البشر يستطيعون ذلك بعضهم مع بعض وأما مع الله فلا يمكنهم أن يفعلوا شيئاً. نعم إن قلب الإنسان عميق ومغلق عن الإفهام ولكنه ليس كذلك مع الله (انظر إرميا ١٧: ٩ وما يليه) ويمكن ترجمة القسم الأخير «بغتة» كانت جراحهم (راجع ميخا ٧: ٤).
(٨) عندما نراجع (العدد ٣) نفهم أن هؤلاء الأشرار الذي صقلوا ألسنتهم من قبل واستعملوها كسيوف حادة قاطعة إذا بها الآن تعود ضدهم وهذه الألسنة ترتد عليهم. لقد قصدوا الضرر فيقع الضرر عليهم أولاً. وتكون النتيجة أن كل إنسان ينظر إليهم يهز رأسه ويقول إن على الباغي تدور الدوائر. نعم أن الناس الكرام لا يشمتون بهؤلاء الأعداء ولا يفرحون بما يصيبهم من بلية وأذى ولكن في الوقت ذاته لا يسعهم إلا أن يعتبروا إن ما لحق بهم كان قصاصاً عادلاً يحتاجون إليه لعلهم يرجعون عن غيهم وعن إثمهم ولكنهم لا يعتبرون.
(٩) وهنا عود أيضاً (للعدد ٤) فقد قال عنهم أنهم لا يخشون. وهنا يقول إن كل إنسان يخشى بما أصاب هؤلاء الأشرار من عقاب صارم يستحقونه. نعم على الإنسان العاقل الحكيم أن يخشى بعض الأمور. لنأخذ مثلاً عن خشيتنا من النار فلولا أنها تلذعنا بحرارتها المحرقة لكانت تحترق يدنا كلها ونحن لا ندري ولكن حينما نشعر بالسخونة نرفعها حالاً لئلا نتأذى كثيراً. هكذا في كل الأمور الضارة إننا نتعلم أن لا نعملها لئلا نتأذى كثيراً ونحن لا نحس موقتاً. وعلينا أن نتعلم من اختبارات غيرنا وبالعكس فإن الجاهل لا يتعلم حتى ولا من اختبارات نفسه. ولكن حينما نرى هذه الدروس نخبر بفعل الله وقصده ونتورع حتى لا نرتكب أي إثم لأن ذلك يعود بالضرر والأذية علينا أكثر من كل الناس.
(١٠) وتكون النتيجة أخيراً أن هذا الصديق المضطهد ينال الفرح والفرج من يد الله لأنه وحده يحميه من كل ضيم وشر وإذا بأولئك المستقيمين في قلوبهم يتهللون ويترنمون لله المخلص. إن الله بواسطة حكمه العادل على الأشرار يردعهم عن التمادي في أذيتهم وهكذا ينال المستقيمون سبباً للفرح والابتهاج. حينما يعرف الناس جميعاً أن هذه الدنيا يحكمها إله عادل قدوس لا يرضى أن تداس حقوق الأتقياء ولا أن تمتهن كرامتهم فلينعموا إذاً هانئين لأن الله يكفيهم.