سفر المزامير

سفر المزامير | 63 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّالِثُ وَٱلسِّتُّونَ

مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ لَمَّا كَانَ فِي بَرِّيَّةِ يَهُوذَا

«١ يَا اَللّٰهُ إِلٰهِي أَنْتَ. إِلَيْكَ أُبَكِّرُ. عَطِشَتْ إِلَيْكَ نَفْسِي، يَشْتَاقُ إِلَيْكَ جَسَدِي فِي أَرْضٍ نَاشِفَةٍ وَيَابِسَةٍ بِلاَ مَاءٍ، ٢ لِكَيْ أُبْصِرَ قُوَّتَكَ وَمَجْدَكَ كَمَا قَدْ رَأَيْتُكَ فِي قُدْسِكَ. ٣ لأَنَّ رَحْمَتَكَ أَفْضَلُ مِنَ ٱلْحَيَاةِ. شَفَتَايَ تُسَبِّحَانِكَ».

يختلف المفسرون في زمان كتابة هذا المزمور وماذا يعني ببرية يهوذا هذه. وقد ذهب بعضهم أنه كتب في أيام أبشالوم أيضاً كما كتب المزموران السابقان أي الحادي والستون والثاني والستون. ولكن بسبب شدة الكلام الأخير أي في العددين التاسع والعاشر ما يبعد هذا الاحتمال ويستبعد أن يتفوه أب على ابنه بمثل هذا الغضب واللعنة وداود كما هو معروف عنه قد حقد على يوآب لأنه قتل أبشالوم ابنه. كما أنه قد رثا ولده هذا بأعمق حاسات والدٍ محب حنون. وأرى أن التشبث في مثل هذه النسبة لا مبرر له قط. وقد يكون أن البرية التي يذكرها من قبيل المجاز البياني لكي يصور حالة من حالاته النفسية حينما كان شريداً بعيداً فقد كان في برية من نفسه أكثر من أية برية أخرى. وهذا المزمور يستعمل للصباح بقوله «إليك أبكر». ومن أوجه كثيرة يشبه المزمورين ٤٢ و٤٣ وإن تكن التسمية لبني قورح في أحدهما وهو المزمور الثاني والأربعون.

(١) ما أعمق هذا الكلام وما أجمله لافتتاح مثل هذا المزمور. فهو كلام محب بل متيم بالله. يستيقظ في السحر الباكر فيجد نفسه بعيداً عن الوطن والعمران وإذا به في برية قاحلة ناشفة بلا ماء ولكن الله هو ارتواؤه الحقيقي. وشوقه لله يشبهه بعطشه للماء لا سيما وهو في أرض معطشة (راجع مزمور ٤٢: ١).

(٢) الأفضل ترجمته هكذا: لأني في القدس أبصرتك فرأيت قوتك ومجدك. يعود المرنم بالذاكرة إلى الوطن وقد هاجر عنه الآن موقتاً فيرى مكاناً طالما صبا إليه وحنا قلبه عليه ألا وهو مكان العبادة (خيمة الاجتماع في ذاك الحين إذ لم يكن قد بني الهيكل بعد). والقدس هنا لا تعني بالطبع مدينة القدس بل المكان المقدس في نظره حيثما يجتمع بإلهه للعبادة والورع. لقد كان في البرية وما أقوى حنينه هناك لمكان الري والخصب لأن بضدها تتبين الأشياء.

(٣) لأول وهلة لا تظهر علاقة قوية بين قوله «لأن رحمتك أفضل من الحياة» وبين شفتاي تسبحانك. ولكن هذا العدد متصل بمعناه بالعدد الثاني. فإن المرنم بعد أن يتحقق من صدق ما يراه في الله يعطي حكماً بل يسدي نصحاً لكل إنسان بقوله إن رحمة الله هي الحياة ذاتها لأن بدونها لا حياة بل موت محقق. وبالتالي فلأن الله هو المحيي إذاً يستحق التسبيح من كل شفة. ولا شيء يوازي هذه الرحمة سوى قدرة الله ومجده.

«٤ هٰكَذَا أُبَارِكُكَ فِي حَيَاتِي. بِٱسْمِكَ أَرْفَعُ يَدَيَّ. ٥ كَمَا مِنْ شَحْمٍ وَدَسَمٍ تَشْبَعُ نَفْسِي، وَبِشَفَتَيْ ٱلٱبْتِهَاجِ يُسَبِّحُكَ فَمِي. ٦ إِذَا ذَكَرْتُكَ عَلَى فِرَاشِي، فِي ٱلسُّهْدِ أَلْهَجُ بِكَ، ٧ لأَنَّكَ كُنْتَ عَوْناً لِي، وَبِظِلِّ جَنَاحَيْكَ أَبْتَهِجُ».

(٤) ولو كان الأن في حالة المتاعب بعيداً عن الأهل والعمران فهو مع ذلك متحقق من أن الله لن يتركه بل سيسد كل احتياجه وينجيه من كل ضيقاته ولذلك يصرخ من أعماق قلبه «هكذا أباركك» وثم رفع اليدين باسم الله معناه تقديم الدعاء ورفع الصلاة إليه تعالى لأن برفع اليدين رمزاً للسجود وتقديم العبادة منذ قديم الزمان إلى الآن.

(٥) قوله شحم هنا ليس معناه المادة المعروفة بل الأرجح يقصد كل ما هو مغذٍ من لب الأشياء كشحم الحنطة مثلاً أي قلبها الداخلي المملوء بالغذاء. مع أنه من المستطاع أكل الشحم إذ لم يمنع منعاً باتاً وإن يكن أنه كان يحرق وقت تقديم المحرقات (راجع تثنية ٣٢: ١٤ وقابله مع إرميا ٣١: ١٤). ويقصد المرنم أن الله يعطيه غذاء جيداً بواسطة حيوانات سمينة مملوءة بالبركة والدسم وليس بواسطة عجاف الحيوان وضعافه. كما أنه يعطيه غذاء من أفضل أنواع المأكولات من حبوب وخضر حتى الشبع التام. وحينئذ فهذه الشفاه التي أكلت وشبعت تذيع حمد الله وتسبيحه وشكره. وهذا الفم المغتذي بالطعام يقدم آيات الثناء المستطاب.

(٦) هنا إذا ليست للشرطية بل بالأكثر للظرفية. أي إن المرنم يذكر الله على فراشه أي قبل أن يستيقظ في الصباح الباكر كما ابتدأ المزمور يكون قد قضى وقتاً طويلاً بالتأملات الروحية العميقة. ويكون أنه لا يعود قادراً على النوم بل يسهد جفنه من عظمة ما يتذكره عن الله. فيلهج بحمده تعالى وشكره ربما بصوت غير مسموع وبعده بصوت مسموع يفهمه كل الناس. فليس ذكره لله كشيء سريع عابر يمر به وانتهى الأمر بل هو لذته وحنينه ولذلك يصرف أغلب ليله في مثل هذه الأفكار التي ترفع النفس للعلى (انظر أيوب ٩: ١٦).

(٧) وكيف يقدر أن ينسى هذه المراحم وقد كان الله عونه وسنده في الوقت الشديد الذي مرّ عليه. وفي وسط تلك المخاطر إذا به يحتمي بظل جناحي العلي القدير (راجع مزمور ١٧: ٨ و٣٦: ٨ و٥٧: ٢). ومن حر الهجير في تلك الصحراء القاحلة الحارة له برد وسلام بظلال من العلي وارفة تحميه حر الهاجرة ولا تتركه في متاعبه وآلامه.

«٨ اِلْتَصَقَتْ نَفْسِي بِكَ. يَمِينُكَ تَعْضُدُنِي. ٩ أَمَّا ٱلَّذِينَ هُمْ لِلتَّهْلُكَةِ يَطْلُبُونَ نَفْسِي فَيَدْخُلُونَ فِي أَسَافِلِ ٱلأَرْضِ. ١٠ يُدْفَعُونَ إِلَى يَدَيِ ٱلسَّيْفِ. يَكُونُونَ نَصِيباً لِبَنَاتِ آوَى. ١١ أَمَّا ٱلْمَلِكُ فَيَفْرَحُ بِٱللّٰهِ. يَفْتَخِرُ كُلُّ مَنْ يَحْلِفُ بِهِ. لأَنَّ أَفْوَاهَ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ بِٱلْكَذِبِ تُسَدُّ».

(٨) ولا يكتفي بأن يكون مظللاً محمياً من الخطر بل يجد نفسه ملتصقاً بالله. يرافقه الله عن يمينه وشماله ربما يمشي معه ويسند ضعفه ويشدد عضده ولا يتخلى عنه أبداً. وهذا الإله المحب يمد له اليمين. أي اليد القوية العاضدة. فالمرنم إذاً لا يستطيع أن يتخلى عن الله كما أن الله لا يتخلى عنه ولا يتركه في أي هاجس من الهواجس الممضة المزعجة.

(٩) هنا يعود للأعداء ويصور لنا ما هو نصيبهم المحتوم الذي لا محيد عنه. ولا شك أن هذا الجزء من المزمور هو نزول عظيم من المستوى الذي كان فيه قبلاً. فقد حلّق المرنم عالياً وامتد بصره واسعاً إلى الله ومحبته وعنايته. وأما الآن فهو ينزل للانتقام وإظهار روح البغض والعداء نحو الآخرين الذين أساءوا إليه وعاملوه تلك المعاملة الجافية الشريرة. هم للهلاك بنواياهم الشريرة فما قصدوه من ضرر وقعوا هم فيه على حد القول «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها». إذاً هؤلاء الأعداء قد سعوا إلى حتفهم بظلفهم ولا يلومون أحداً لأن اللوم على أنفسهم فقط.

(١٠) هنا يتحقق قول السيد المسيح «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ» لأنهم قد جردوا سيوفهم للفتك إذا بهذا السيف يرتد عليهم ليقتلهم وترمى جثثهم في الخلاء البعيد لكي تنهشهم حيوانات البرية حتى بنات آوى وهذا منتهى التحقير. إذ لو افترستهم الأسود لكان ذلك أهون ولكنهم لا يستحقون ميتة كهذه. فهم قتلى سيف هم جردوه كما حدث لجليات الجبار الفلسيطيني فقد قتل بسيفه أخيراً وإن يكن قد سقط أولاً بحجر المقلاع (راجع إرميا ١٨: ٢١ وحزقيال ٣٥: ٥).

(١١) هوذا الملك الذي كان مبعداً عن وطنه يعود ليفرح بمقادس الله بينما أعداؤه يسقطون بحد السيف الذي جردوه ضده. لقد كان الملك في البرية مع الوحوش والحيوانات ولكن أعداءه الآن ترمى جثثهم إلى هذه الحيوانات ذاتها إذ لا يستحقون أن يقابلوها وهم أحياء بل وهم أموات لأنهم ماتوا قتلاً بالعدوان الذي قصدوه لغيرهم فكان على أنفسهم فقط. فاليد التي امتدت بالعدوان قد تحطمت واللسان الذي فاه من قبل بالافتراء والأكاذيب قد سد إلى الأبد.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى