سفر المزامير | 62 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّانِي وَٱلسِّتُّونَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى «يَدُوثُونَ». مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
«١ إِنَّمَا لِلّٰهِ ٱنْتَظَرَتْ نَفْسِي. مِنْ قِبَلِهِ خَلاَصِي. ٢ إِنَّمَا هُوَ صَخْرَتِي وَخَلاَصِي مَلْجَإِي. لاَ أَتَزَعْزَعُ كَثِيراً. ٣ إِلَى مَتَى تَهْجِمُونَ عَلَى ٱلإِنْسَانِ؟ تَهْدِمُونَهُ كُلُّكُمْ كَحَائِطٍ مُنْقَضٍّ، كَجِدَارٍ وَاقِعٍ!».
لقد وضع هذا المزمور قريباً من المزمور سابقه لوجود عددٍ من النقاط المتشابهة بينهما وهو يرجّح أنه كتب أيضاً في عهد الهرب من وجه أبشالوم. وهو معنون على يدوثون (وقد سبق الكلام عن ذلك في المزمور التاسع والثلاثين فليراجع). وهو من جهة موضوعه قرين وشبيه بالمزمور التاسع والثلاثين وكذلك من جهة تركيبه البياني والشعري.
(١) إن المرنم وإن يكن بحسب كل الظواهر قد خسر كل شيء. ومع ذلك فهو لم ييأس بل ينظر إلى الجهة المشرقة. وهكذا بينما يرى الوجوه الكالحة الكثيرة حوله والتي تناصبه العداء إذا به يلتفت إلى الله بروح التسليم والخضوع. وتسليمه ليس من قبيل الرضوخ للقضاء والقدر بل اقتناعاً منه أن الله لا يتخلى عنه قط (انظر ٢صموئيل ١٢: ٧ – ١٣).و هو يردد كلمة «إنما» ترديداً ظاهراً يلفت النظر. وما أجمل هذه البداءة! إذ ينتظر الرب بكل صبر وأمل. والانتظار معناه أنه إذا كنا قد عزمنا وصممنا نوايانا على بعض الأمور علينا أن نثبت عليها ولا نتزعزع. إن خلاصه هو من الله وليس منه شخصياً ولا من أي إنسان.
(٢) في هذا العدد يعود لتلك الفكرة الراسخة القديمة وهي أن الله صخرة وملجأ عليه الاتكال وبه المخبأ والملاذ الأمين. وحينئذ فإن تسليم الإنسان بهذه الحقيقة يجعله أيضاً راسخاً غير متزعزع مهما تقلبت الأحوال واشتدت الصعاب من كل جانب.
(٣) في قوله «تهجمون» يستعمل كلمة في العبرانية قريبة جداً لكلمة «هتّ أو هتك» العربية. أي أن هؤلاء الأعداء يحاولون أن يهتكوا الستر عني وبذلك يذلونني بكل ما لديهم من وسائل. فهم يتكلمون غيبة ويكذبون ويراؤون ويسببون كل أنواع الحط من الكرامة والشرف. وقد تكون الكلمة قرية من «هوّت». أي هوّت على فلان إذا صاح به قصد تعييره وإذلاله أمام جمهور من الناس. وأما التشبيه بأن مهاجمتهم ومحاولة هدمه بالجدار الساقط المنقض فهو من الأشياء المألوفة الوقوع في بنايات صغيرة قديمة إذا بها تنهار تحت ضرب بعض المعاول بأيدي العمال. وكإنما هم يريدون أن يهدموا ملك داود الذي أصبح متقدماً في الأيام لكي يقيموا مكانه أبشالوم وهو في ريعان الشباب عساه يكون أوفى ملكاً وأكثر إخلاصاً لشعبه.
«٤ إِنَّمَا يَتَآمَرُونَ لِيَدْفَعُوهُ عَنْ شَرَفِهِ. يَرْضَوْنَ بِٱلْكَذِبِ. بِأَفْوَاهِهِمْ يُبَارِكُونَ وَبِقُلُوبِهِمْ يَلْعَنُونَ. سِلاَهْ. ٥ إِنَّمَا لِلّٰهِ ٱنْتَظِرِي يَا نَفْسِي، لأَنَّ مِنْ قِبَلِهِ رَجَائِي. ٦ إِنَّمَا هُوَ صَخْرَتِي وَخَلاَصِي. مَلْجَإِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ. ٧ عَلَى ٱللّٰهِ خَلاَصِي وَمَجْدِي. صَخْرَةُ قُوَّتِي مُحْتَمَايَ فِي ٱللّٰهِ. ٨ تَوَكَّلُوا عَلَيْهِ فِي كُلِّ حِينٍ يَا قَوْمُ. ٱسْكُبُوا قُدَّامَهُ قُلُوبَكُمْ. اَللّٰهُ مَلْجَأٌ لَنَا. سِلاَهْ».
(٤) هؤلاء القوم يتآمرون في أشياء لا يرضى عنها الشرف ولا الوجدان ولا سيما وإنهم يريدون أن يغروا ويبعدوا الآخرين عن شرفهم ويستعملون الحيل والكذب. وهم لا يجسرون أن يفعلوا ذلك جهارا بل تجدهم يباركون جهراً ويلعنون سراً. ثم ينتهي إلى ارتفاع في الموسيقى سلاه.
(٥) في هذا المقطع يعود المرنم لما بدأ كلامه به وهو الانتظار ويخاطب نفسه أن تتريث وأن تتمهل ولا تقدم على شيء تندم عليه بعد حين. ويعود الشاعر لتلك التأكيدات العاطفية وبإيمان غير متزعزع ولا منفصم يجابه أعداءه ويتغلب عليهم بقوة إلهه لا بقوته الشخصية. يريد أن يسكت نفسه ولا يسمح لها بالمورابة أو الخوف كما لا يسمح لها بالضجة وخسارة الإيمان ذلك لأن رجاءه الحق هو بالله ومن قبله كل قوة وخلاص. ولا شك أن إيماناً كهذا هو الذي يشدد العزيمة ويكوّن شخصية الإنسان ويجعله راسخاً كالجبل لا يتزعزع من صروف الزمان وتقلباته. ومما يعجبني بهذا الكلام هو خلوه من كل حقد أو حب انتقام فهو لا يتشفى بأحد ولا يطلب المجازاة.
(٦) مرة أخرى يبدأ كلامه «بإنما» وبتلك الفكرة القديمة إن الرب هو الصخرة والخلاص. يحق لمن كان مؤمناً على هذه الصورة أن يتكل على من هو حافظ للعهد جدير بمثل هذا الاتكال.
(٧) وكذلك في هذا العدد يتابع الفكرة ذاتها بأن بالله الخلاص والمجد منه الحماية والحفظ. نعم أن الإنسان في ساعة شدته وقنوطه عليه أن يلتفت إلى تلك القوة العلوية تسنده. ويرى أنه كان من حقه أن يوبخ نفسه على ساعات أخرى لم يكن له مثل هذا الإيمان. وقد حصل عليه باختباره حوادث مؤلمة مرت عليه فاتخذها لنفسه عبرة ودروساً والحكيم هو ذاك الذي يتعظ ويفهم وأما الجاهل فهو ذاك الذي لا يستطيع التمييز. فيرى المرنم أن الله يظهر مجده وقدرته بواسطة مصابه هذا وعليه الانتظار.
(٨) ثم يلتفت إلى أتباعه والذين بقوا معه رغم ظروفه الصعبة الحاضرة ويقول لهم «توكلوا عليه في كل حين يا قوم…» وما أجمله من التفات بعد أن يتأكد هذه الحقيقة يريد أن يعلمها للآخرين. وأفضل المعلمين هم ليسوا أدعياء العلم ولا المتكبرين بل هم الذين يأخذون اختباراتهم الشخصية ليضعوها أمامنا. وبعد أن استفادوا يريدوننا أن نستفيد مثلهم. وينهي كلامه بارتفاع الموسيقى مرة أخرى.
«٩ إِنَّمَا بَاطِلٌ بَنُو آدَمَ. كَذِبٌ بَنُو ٱلْبَشَرِ. فِي ٱلْمَوَازِينِ هُمْ إِلَى فَوْقُ. هُمْ مِنْ بَاطِلٍ أَجْمَعُونَ. ١٠ لاَ تَتَّكِلُوا عَلَى ٱلظُّلْمِ وَلاَ تَصِيرُوا بَاطِلاً فِي ٱلْخَطْفِ. إِنْ زَادَ ٱلْغِنَى فَلاَ تَضَعُوا عَلَيْهِ قَلْباً. ١١ مَرَّةً وَاحِدَةً تَكَلَّمَ ٱلرَّبُّ، وَهَاتَيْنِ ٱلٱثْنَتَيْنِ سَمِعْتُ، أَنَّ ٱلْعِزَّةَ لِلّٰهِ. ١٢ وَلَكَ يَا رَبُّ ٱلرَّحْمَةُ، لأَنَّكَ أَنْتَ تُجَازِي ٱلإِنْسَانَ كَعَمَلِهِ».
(٩) لقد خاطب إذاً قوماً مخصوصين وطلب منهم أن يستفيدوا من المثالة التي يلقيها عليهم. ولكنه في هذا العدد يلتفت إلى الشعب عموماً ويقول عنهم أنهم باطل وجميع أعمالهم باطلة. فإن محبتهم برياء وكذلك فصداقتهم عن مصلحة. وصحبتهم فيه كذب وبهتان لا تثبت إلا إلى حين. إذا وضعوا في الموازين فهم لا يساوون العيارات في الكفة الأخرى وهكذا فالإنسان أقل جداً مما نأمل منه. وهو باطل لأنه لا يستقر على حال. حتى الأمناء الخلص فهم قد نفقدهم بالموت أو الاغتراب ولا يكونون فيما بعد.
(١٠) يقول المرنم إن هؤلاء الناس الذين أقاموا أنفسهم عليكم قضاة وحكاماً إياكم أن تتكلوا عليهم فإن الظلم في أحكامهم محقق. ولذلك فإن هذا الملك الموقت الذي أقامه أبشالوم لنفسه بادعائه العدل والرحمة إنما هو في حقيقته ظالم. إذ أول ظلم ظهر هو ظلمه لأبيه بدلاً من إكرامه له وطاعته. ثم يحذرهم أن لا يخطفوا من يد أحدٍ شيئاً. لأن ذلك مكرهة أمام الرب. كما أنه يحذرهم من الغنى والمجد العالميين لئلا يضع الإنسان عليه قلباً ويحسب نفسه عظيماً على نسبة كثرة غناه وعظمة ماله. وفي هذا العدد نجد موعظة يريد المرنم من الناس أن يتعلموها لذلك فكلامه من قبيل الإجمال الذي يصدق على الجميع.
(١١) يقول إن الرب قد تكلم مرة وقد فاه أمام الناس بحقيقة مزدوجة وهي: أولاً أن الله هو مالك هذا الوجود كله يتصرف به كما يشاء ويحكم على كل ما هو أرضي ولذلك فلا شيء يحدث خارج إرادته أو بعيداً عن سلطانه وهكذا فكل مخالفة لمشيئته تعالى سوف تقف من ذاتها عاجلاً أم آجلاً. وثانياً أن من هذا الإله لنا الرحمة والرضوان. فهذا الإله القدير الخالق لكل شيء والحاكم بما يشاء هو رحيم غفور على قدر ذلك. يضع المرنم أمام عيوننا هاتين الحقيقتين اللتين اختبرهما بما مر عليه من حوادث الزمان وعبره ويريد اتباعه بالأخص وجميع الناس أن يفهموهما ويعترفوا بهما قبل فوات الآوان.
(١٢) وهذا الإله القدير الرحيم في الوقت ذاته هو ديّان العالمين يجازي كل إنسان عما فعله. لذلك فعلى الإنسان أن يصلح سلوكه وينقي أفكاره ولتكن علاقته بالله قوية متينة لا يزعزعها كرور الأيام بل يزيدها توثقاً وشدة (انظر رومية ٢: ٦). وأما الذين يجسرون على عصيان أمره تعالى والسير ضد مشيئته فسوف ينالهم العقاب الشديد ويندمون حين لا ينفع الندم أحداً شيئاً. وأما بانتظار المؤمن لإلهه فهذا الإله القدير الرحيم لا يتخلى ولا ينسى بل يعطيه قوة في حينها وجزاء موعوداً.
السابق |
التالي |