سفر المزامير

سفر المزامير | 61 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلْحَادِي وَٱلسِّتُّونَ

لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ اَلأَوْتَارِ. لِدَاوُدَ

«١ اِسْمَعْ يَا اَللّٰهُ صُرَاخِي وَٱصْغَ إِلَى صَلاَتِي. ٢ مِنْ أَقْصَى ٱلأَرْضِ أَدْعُوكَ إِذَا غُشِيَ عَلَى قَلْبِي. إِلَى صَخْرَةٍ أَرْفَعَ مِنِّي تَهْدِينِي. ٣ لأَنَّكَ كُنْتَ مَلْجَأً لِي، بُرْجَ قُوَّةٍ مِنْ وَجْهِ ٱلْعَدُوِّ».

نرى أن داود يبدأ مزاميره عادة بلهجة الكآبة والحزن ويستعمل التضرع والابتهال بل الصراخ وطلب النجدة ولكنه ينتهي بالفرح والحمد والثناء. ويظهر أن كتابة هذا المزمور كانت في وقت نفي فيه من وجه شاول وقد يكون في وقت هربه من وجه أبشالوم ابنه لأنه يسمى نفسه ملكاً. وهو مزمور على ذوات الأوتار بعد أن انتهى من مذهباته الأربع كما رأينا سابقاً. أي مزمور يمكن غناؤه على آلة موسيقية فيها أوتار. لأن انتهاء الكلمة العبرانية «ات» مأخوذ عن الفينيقية وتدل على التأنيب دائماً. وإن يكن قد وجد خلاف بين علماء التفسير عن زمان كتابته حتى أن بعضهم حسبه موجهاً لكورش الفارسي أو لأيام الملوك السلوقيين ولذلك لم يعيروا الكتابة لداود أقل اهتمامهم. ولكن الرأي الأوفق للصواب هو أنه كتب حينما ارتد جيش داود رابحاً المعركة ضد أبشالوم في غابة أفرايم. والمزمور يتألف من قسمين كل منهما يحوي أربعة مقاطع ذات ثمانية سطور.

(١) هذا صراخ الاستغاثة وطلب النجدة. والصلاة تكون ذات تأثير وفاعلية متى خرجت من أعماق القلب فتصعد إلى السماء. وداود لأنه خرج من قصبة ملكه ذليلاً مهاناً وقطع الأردن للناحية الثانية فهو يرى كأنه أصبح في بلاد بعيدة جداً يحسبها أقصى الأرض. والسبب في ذلك راجع إلى مقدار شعوره بالبعد النفسي إذ قلبه في غشيان ولا يجد من ينجده لذلك فهو يسكب نفسه بالصلاة والدعاء راجياً من الله أن يرحمه ويهديه.

(٢ و٣) وكلمة «غشي» العبرانية تفيد معنى التلوي والانعطاف من الألم. فقد كان المرنم في ضيق عظيم لا شيء حوله حقيقي وثابت بل كل شيء متزعزع متغير فلا عجب إذا طلب صخرة أرفع منه يتسلق إليها وينجو بنفسه فيكون على أرض تستطيع حمله ولا تترجرج تحته قط. وهذا التعبير إن الله صخرة وملجأ وحصن ويستره تحت جناحيه كله قديم (راجع أمثال ١٨: ١٠). وحسب التعبير العربي فإن الله يقبل أن يجيره من مصاب هو فيه ويرضى أن يقبله جاراً له. ولا ينسى أن هذا العون هو أعلى منه فهو ينظر إلى فوق لكي يناله وهو (أي الله) يهديه إليه بواسطة هذا الارتفاع (انظر إشعياء ٣٨: ١٠ وإرميا ٤: ٢١).

«٤ لأَسْكُنَنَّ فِي مَسْكَنِكَ إِلَى ٱلدُّهُورِ. أَحْتَمِي بِسِتْرِ جَنَاحَيْكَ. سِلاَهْ. ٥ لأَنَّكَ أَنْتَ يَا اَللّٰهُ ٱسْتَمَعْتَ نُذُورِي. أَعْطَيْتَ مِيرَاثَ خَائِفِي ٱسْمِكَ. ٦ إِلَى أَيَّامِ ٱلْمَلِكِ تُضِيفُ أَيَّاماً. سِنِينُهُ كَدَوْرٍ فَدَوْرٍ. ٧ يَجْلِسُ قُدَّامَ ٱللّٰهِ إِلَى ٱلدَّهْرِ. ٱجْعَلْ رَحْمَةً وَحَقّاً يَحْفَظَانِهِ. ٨ هٰكَذَا أُرَنِّمُ لٱسْمِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ. لِوَفَاءِ نُذُورِي يَوْماً فَيَوْماً».

(٤) يطلب أن يسكن مطمئناً قرب الله. والأصل العبراني يدل على طلب الجوار أي الاحتماء بموقدة البيت. بل نجد التعبير يدل على أكثر من ذلك فهو يطلب الحماية بستر جناحي الله. إذ يشعر كما يشعر الفرخ أن لا حماية له ولا دفء إلا بعد أن تحتضنه الأم وتحميه وتقيه من المعاطب. ولا ننسَ أن في تلك الأيام كانت خيمة الاجتماع فقط ولم يكن قد بني الهيكل بعد. فكان المسكن ينتقل من مكان لآخر. فإذاً هذه الحماية التي يطلبها هي من شخص الله وليس في مكان معين.

(٥) والمرنم يرى أن الله قد استمع لصوته واستجابه. فإن حياته غالية في عينيه وكذلك فإن ملكه سيعود إليه ويبقى الميراث لمن يستحقه من أولاد غير عقوقين كما كان أبشالوم يقبل الله الصلاة ويرضى عن النذور (راجع ٢صموئيل ١٥: ٢٥ وما يليه) وسيعيد إليه كل الأرض التي اغتصبها الغاصب فهو سارق ولا يمكن أن يبقى الملك في يد أناس كهؤلاء.

(٦) ولا يكتفي الله بأن يرجع الحق إلى نصابه والملك إلى ملكه. بل يباركه شخصياً بأن يضيف على أيامه أياماً بعد ويتبعها بالسنين. وهكذا فإن الله قد تبنى قضية داود ولا يتركه جانباً بل يحفظه ويباركه. يقويه ويرعاه ويطيل حياته في خدمة الناس وعبادة ربه. وكأنما ما مضى عليه من أوقات الحسرات بسبب عقوق الابن وتمرد الشعب سيعوّض الله عليه أياماً سعيدة يفرح فيها ويملك قرير العين ناعم البال.

(٧) وهكذا يكون شأنه أنه يجلس للعبادة والورع أمام الله مترنماً بجوده وإحسانه مقدماً له آيات الاعتراف بالجميل على كل الحسنات التي صنعها معه. وقد قدم الرحمة لأنه قد احتاجه الملك أولاً في ضيقه ولولاها لما ثبت له شيء من السؤدد والملك. وهوذا بعد ذلك يملك بالحق لأنه الملك الشرعي بلا منازع.

(٨) ويختم هنا بالابتهاج المفرح والترنم لأن بعد الشدة يأتي الفرج وقد جاء هذا كاملاً أفلا يحق للمرنم أن يذيع شكر مولاه وحمده. بل سيفعل ذلك أبداً ولا ينسى قط ما قدمه من نذور في وقت ضيقه بل سيذكر الله الآن في فرجه ووقت سلامه وطمأنينته كما فعل من قبل لأن الأمانة تقضي أن يبقى الإنسان أميناً لإلهه في جميع الظروف والأحوال.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى