سفر المزامير | 52 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّانِي وَٱلْخَمْسُونَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. قَصِيدَةٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا جَاءَ دُوَاغُ اَلأَدُومِيُّ وَأَخْبَرَ شَاوُلَ وَقَالَ لَهُ: «جَاءَ دَاوُدُ إِلَى بَيْتِ أَخِيمَالِكَ».
«١ لِمَاذَا تَفْتَخِرُ بِٱلشَّرِّ أَيُّهَا ٱلْجَبَّارُ؟ رَحْمَةُ ٱللّٰهِ هِيَ كُلَّ يَوْمٍ! ٢ لِسَانُكَ يَخْتَرِعُ مَفَاسِدَ. كَمُوسَى مَسْنُونَةٍ يَعْمَلُ بِٱلْغِشِّ».
في هذا المزمور كما في المزمور سابقه يرينا المرنم الفرق بين نوعي اللسان من جهة الصدق والكذب ومقدار الفرق بينهما. وهو من مزامير «إلوهيم» والتي تذكر عن ملاحقة شاول له ومطاردته إياه. وقد سمى القديس أوغسطينوس هذه المزامير «مزامير الطريد» وهي السابع والرابع والثلاثون والتاسع والأربعون والثاني والخمسون والرابع والخمسون والسادس والخمسون والسابع والخمسون والمئة والثاني والأربعون. ومن العنوان نلاحظ الظرف الذي نظم فيه وإن كنا لا نعرف التاريخ بالتدقيق. فإن داود بعد أن مكث مع صموئيل أياماً ذهب إلى نوب ومكث مع أخيمالك الكاهن. وقد قدم له بصفته صهر الملك خبز الوجوه الذي طلبه كما أعطاه سيف جليات الجبار الذي كان معلقاً في الخيمة مع الأفود. وقد كان دواغ هذا معايناً وشاهداً لما حدث وأبلغ الخبر لشاول وهذا بدوره انتقم من الكهنة انتقاماً فظيعاً حتى سقط خمسة وثمانون منهم بحد السيف ونجا أبيثار إبن أخيمالك وجاء إلى داود (راجع ١صموئيل ٢٢: ٦ – ١٠).
(١) يقول المرنم إنه لمن العار على الإنسان أن يرتكب الشر وعار أكبر جداً إذا افتخر به وتمادى في غيه ووقاحته. إذ أن الشرير الذي يفعل هكذا يبرهن عن فساد في الخلق ودناءة وحماقة ما بعدها حماقة. إن دواغ هذا قد سبب مذبحة فظيعة بسبب وشايته بلسانه الذي لم يستطع ضبطه فهو شرير ليس بالنسبة لاقتدار يده وما تستطيع أن تمتد إليه من بغي وعدوان بل لأنه كان ذا لسان قلما ينجو من شره أي إنسان. ولكن مقابل هذا اللسان الشرير يوجد رحمة الله التي لا تنسى أحداً. لذلك مهما فسد الإنسان وعظم شره فإن الله لا يتخلى عنّا قط.
(٢) يمكن ترجمة «يخترع» يصنع أيضاً. أي أن هذا اللسان يستطيع بمهارته في الأذية والضرر أن يسبب مفاسد عظيمة. فكما أن النجار يصنع أثاثاً كثيراً من الخشب وكما يصنع الحداد أدوات جمة من الحديد كذلك فإن المفاسد لا تأتي عفو الخاطر بل تحتاج إلى من يحولها ويدبرها ويخترعها وحينئذ يصبح اللسان ضاراً جداً كأي عضوٍ من أعضاء الإنسان الأخرى. هو كالموسى الحادة القاطعة وما أشبه هذا القول بقول الشاعر:
جراحات السنان لها التئام | ولا يلتام ما جرح اللسان |
«٣ أَحْبَبْتَ ٱلشَّرَّ أَكْثَرَ مِنَ ٱلْخَيْرِ، ٱلْكَذِبَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلتَّكَلُّمِ بِٱلصِّدْقِ. سِلاَهْ. ٤ أَحْبَبْتَ كُلَّ كَلاَمٍ مُهْلِكٍ وَلِسَانِ غِشٍّ. ٥ أَيْضاً يَهْدِمُكَ ٱللّٰهُ إِلَى ٱلأَبَدِ. يَخْطُفُكَ وَيَقْلَعُكَ مِنْ مَسْكَنِكَ، وَيَسْتَأْصِلُكَ مِنْ أَرْضِ ٱلأَحْيَاءِ. سِلاَهْ. ٦ فَيَرَى ٱلصِّدِّيقُونَ وَيَخَافُونَ، وَعَلَيْهِ يَضْحَكُونَ».
(٣) بالطبع لا يقصد هنا التفضيل في محبة هذا المؤذي وهكذا أنه أحب الشر أكثر من الخير وأنه انحرف للكذب أكثر من الصدق. بل إن الكلام هنا هو للتوكيد والمبالغة فهو لا يحب الخير قط بل كل حبه للشر ولعمله وكل ميله وانحرافه للكذب والاحتيال. فهو إذاً لا يحب الخير ولا الصدق قط ويسعى للضرر في كل الظروف والأحوال (انظر مزمور ١١٨: ٨ وما يليه وأيضاً حبقوق ٢: ١٦) وينهي العدد بارتفاع سلاه في الموسيقى على نسبة انخفاض حالة هذه الشرير المؤذي.
(٤) ويلخص وصفه بقوله أنه لا يحب سوى كلام الهلاك والغش. فإذا عرض له أن يتكلم صدقاً فلا يستطيعه وإذا لم يكن له سبيل لهلاك الغير فهو يسعى لأجله سعياً حثيثاً ولا يرتاح حتى يفعل ذلك.
(٥) ولكن المرنم يطلب له ما طلبه هو للآخرين. يطلب له الهدم والخطف والقلع فيستأصل بتاتاً من أرض الأحياء. ولكن شتان بين الطلبين فإن الأول كان بالمكر والغش والاعتداء ومن جهة أخرى فإن القصاص ينزله الملك شاول بمن حسبهم أعداءه ولكن هذا يطلب من الله أن يجازيه مقابل ما اقترفه من خطايا وذنوب. لقد اعتدى من قبل وعليه أن يتحمل جزاء اعتدائه ليس إلا. ذلك لأنه قصد الحقد لجاره وأضمره له وطلب حياته وشرفه وكل أملاكه فلا عجب أن يجزى على الأقل بالمثل. ويشير في هذا العدد إلى وشاية «دواغ» التي كانت عن خيمة الاجتماع أن الله ينزل به العقاب الشديد ويقتله ويستأصله كما تقتلع الخيمة. لقد زعم أن الخيمة هي للمكيدة ضد الملك (راجع ١صموئيل ٢١: ٧ و٨) ويختم بكلمة «سلاه» دليل الاكتفاء بهذا الجزء وتأخذ الموسيقى مداها.
(٦) وكان طلب الجزاء لهذا النمام لأنه قد وشى بداود المستجير ببيت الله فبدلاً من أن يشارك الكاهن في عمل الخير وعلى الأقل بمدح ما أقدم عليه إذا به يحوّل الفضيلة إلى عمل شنيع ذهب ضحاياه كثيرون من الأبرياء. عند ذلك يرى الصديقون هذا الجزاء العادل ويخافون الله ولا يقدمون على أي عمل مشين لا يرضيه تعالى. وفي الوقت ذاته يكون ذلك النمام موضع الهزء والسخرية فبدلاً من أن يعتز يتذلل وبدلاً من أن ينال أي جزاء حسن على فعلته يكون جزاؤه الطرد والانخذال.
إن الله يجازي بعدل (راجع مزمور ٦٤: ١٠) وإن يكن الشماتة بالأعداء والضحك منهم غير ممدوحة (انظر أمثال ٢٤: ١٧).
«٧ هُوَذَا ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي لَمْ يَجْعَلِ ٱللّٰهَ حِصْنَهُ، بَلِ ٱتَّكَلَ عَلَى كَثْرَةِ غِنَاهُ وَٱعْتَزَّ بِفَسَادِهِ. ٨ أَمَّا أَنَا فَمِثْلُ زَيْتُونَةٍ خَضْرَاءَ فِي بَيْتِ ٱللّٰهِ. تَوَكَّلْتُ عَلَى رَحْمَةِ ٱللّٰهِ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ. ٩ أَحْمَدُكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ لأَنَّكَ فَعَلْتَ، وَأَنْتَظِرُ ٱسْمَكَ فَإِنَّهُ صَالِحٌ قُدَّامَ أَتْقِيَائِكَ».
(٧) هذا جزاء الذي اتكل على ما لديه من عز هذه الدنيا وجاهها بل أنه اعتز بشروره ومفاسده فهو بدلاً من أن يخجل من نفسه قد تمادى في حماقته ووقاحته حتى أنه لم يلتفت إلى الله ولم يتخذه حصناً له بل تحصن بنفسه وإذا به يضمحل وينهار كالبيت الذي لم يؤسس على الصخر بل على الرمال (راجع متّى ٧: ٢٧). لم يجعل الله معاذه أي مكان اختبائه من وجه العدو (راجع ٢صموئيل ٢٢: ٣٣).
(٨) في هذا العدد بيدأ المرنم بناحية جديدة مفرحة فبعد أن ينزل العقاب الشديد بإنسان الفساد ذي اللسان الغاش الكذوب الذي يعتز بالشر ويفاخر به ويشي بأشرف الناس وإن كانوا يحمون غريباً طريداً ملهوفاً يستنجد بأهل النخوة والمروءة فينجده أخيمالك الكاهن. ثم يلتفت إلى المؤمن ذاته ويقول عنه أنه أشبه بشجرة الزيتون الخضراء مغروسة في باحة بيت الله. الشرير يقتلع كما تقتلع الخيمة وأما المؤمن فهو يغرس ويتشدد وينمو كشجرة خضراء باسقة وارفة الظلال. ذلك لأنه يرجو رحمة الله ويعيش بنعمته. فإن كان الشرير يعتز بما لديه من غنى زائل ومجد باطل فإن المؤمن يعتز بقلبه المملوء بالنعمة والإيمان الحقيقيين.
(٩) إنه سينال هذا الخير ولا شك فإذا ناله لذلك يقدم الحمد والشكر للذي أعطى. إن انتظاره كان في محله لأن الله يفي بما يعد ويفعل بكل ما يقوله. وحينئذ يفرح المؤمن بأن يشترك مع جمهور المؤمنين الذين يتقون اسم الله مثله ويفرحون فرحه ويمكنهم أن يشاركوه هذه الحاسات الشريفة المقدسة. لا شك يفرح قلب المؤمن الحقيقي مثل الشهود الذين يرون مثله ويذيعون آيات الشكر والحمد لما يظهره الله تعالى من آيات فضله وإحسانه.
السابق |
التالي |