سفر المزامير | 51 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلْحَادِي وَٱلْخَمْسُونَ
لِإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا جَاءَ إِلَيْهِ نَاثَانُ ٱلنَّبِيُّ بَعْدَ مَا دَخَلَ إِلَى بَثْشَبَعَ
«١ اِرْحَمْنِي يَا اَللّٰهُ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. حَسَبَ كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ ٱمْحُ مَعَاصِيَّ. ٢ ٱغْسِلْنِي كَثِيراً مِنْ إِثْمِي وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي. ٣ لأَنِّي عَارِفٌ بِمَعَاصِيَّ وَخَطِيَّتِي أَمَامِي دَائِماً. ٤ إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ وَٱلشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ، لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي أَقْوَالِكَ وَتَزْكُوَ فِي قَضَائِكَ».
هذا المزمور هو الأول من مزامير داود التي يذكر فيها «إلوهيم» وهو بمعناه يتمم ما ورد في المزمور الخمسين من جهة عدم الاهتمام كثيراً بتقديم الذبائح الطقسية بل يلفت النظر إلى ذبائح الروح المطيعة والإخلاص الكامل لله. ونلاحظ من العنوان فهو قد كتب لداعٍ خاص وبعد ظرف خاص جعل داود يندم على خطيئته الفظيعة ويطلب رحمة الله ورضاه (راجع ٢صموئيل ١٢: ١ – ٦) لقد مر معنا من قبل في المزمورين ٦ و٣٨ كيف كان داود نادماً على خطاياه وتائباً لله.
يذهب هتزج إلى القول أن كاتب هذا المزمور ليس داود بل هو إشعياء الثاني (إشعياء ٤٠ – ٩٦) وهو الذي كتب المزمور الأول أيضاً. ولكن هذا الرأي لا يمكن الركون إليه سوى أن إشعياء الثاني كان مطلعاً على كلا المزمورين. وهذا المزمور ينقسم إلى أربعة أقسام يتناقص واحدها عن الآخر. أما القسم الأول فهو طلب غفران المعاصي. وهو من العدد (١ – ٩) والقسم الثاني وهو من (١٠ – ١٣) يحوي صلاة التجديد. والقسم الثالث من العدد (١٤ – ١٧) يبحث عهد الذبائح الروحية. والقسم الأخير أي العددان (١٨ و١٧) فهو صلاة شفاعية من أجل أورشليم وتجديد أسوارها لكي تقام فيها الذبائح مرة أخرى.
مع أن داود قد ارتكب خطيئة واحدة وهي الزنا ولكنه في صلاته يطلب غفران معاصيه كلها. ذلك لأنه عرف أنه قد قتل إنساناً بريئاً بتعريضه أوريا للموت من أجل بثشبع زوجته. وحقيقة الأمر أن المعاصي تأتي بمجموعها ولا يمكن أن تفصل واحدة عن الأخرى لا سيما إذا كان الإنسان قد أخذ ينزل في دركات الإثم والشرور. وهو يلتمس أن تمحى لأنها أشبه بديون ثقيلة لا يستطيع إيفاءها بنفسه (انظر إرميا ١٧: ١).
(٢) هنا يشعر المرنم بخطإه العظيم وإثمه الجسيم ويطلب أن يغسل كثيراً. لأن الغسل الاعتيادي لا يكفي لتطهيره. والإثم هنا محسوب أنه وسخ وقذارة عالقة لا يذهب بسهولة. بل حسبه كمرض نجس مثل البرص فقال «ومن خطيئتي طهرني» (راجع لاويين ٣: ٦ و١٣) وفي هذا تعبير جلي عن الشعور العميق بالخطية لذلك فالمرنم يطلب غسلاً كلياً وتطهيراً كاملاً من حالته السيئة التي وصل إليها.
(٣) وهنا يدعم كلامه السابق بأنه يعرف ما هو فيه من سوء حال. بل يجد خطيئته واقفة أمامه دائماً. لذلك فهو لا يمكن أن يكون في راحة واطمئنان بل بالعكس إن هذا هو مدعاة انشغال باله وعدم استقراره وسلامه (راجع إشعياء ٥٩: ١٢).
والحق يقال أن هذا الشعور بالخطيئة هو أول درجات الاستغفار. على الخاطئ أن يحس في أعماق نفسه بحاجته الشديدة للرجوع إلى الله.
(٤) وهنا ينتقل إلى حقيقة أخرى وهي أن هذه الخطيئة إنما ضد الله تعالى رأساً ولذلك فهي ليست أمام الخاطئ فقط كما هي أمام الله الذي أخطأنا إليه. وهذه الخطيئة التي نعترف بها هي التي تبرر الله لأنه قدوس هو ويقع الذنب كله علينا بل وتجعل أحكامه علينا عادلة مهما كانت ولا شيء من الإجحاف فيها.
«٥ هَئَنَذَا بِٱلإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي. ٦ هَا قَدْ سُرِرْتَ بِٱلْحَقِّ فِي ٱلْبَاطِنِ، فَفِي ٱلسَّرِيرَةِ تُعَرِّفُنِي حِكْمَةً. ٧ طَهِّرْنِي بِٱلزُّوفَا فَأَطْهُرَ. ٱغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ ٱلثَّلْجِ. ٨ أَسْمِعْنِي سُرُوراً وَفَرَحاً فَتَبْتَهِجَ عِظَامٌ سَحَقْتَهَا. ٩ ٱسْتُرْ وَجْهَكَ عَنْ خَطَايَايَ وَٱمْحُ كُلَّ آثَامِي».
(٥) يبين المرنم أن خطيئة قديمة فيه تعود إلى منشإه الأصلي فقد صوّر بالإثم وحبل به بالخطيئة ولا يقصد بذلك أن يبرر نفسه كإنما يقول لأني قد ولدت هكذا فلا ذنب عليّ إذاً بل بالعكس فإنه يتهم نفسه بأن هذه الخطايا هي قديمة تعود إلى طبيعته الفاسدة حتى منذ الولادة (راجع تكوين ٨: ٢١ وأيوب ١٤: ٤). والحق يقال أن التعليم عن الخطيئة الموروثة واضح جداً في هذه الآية أكثر من أي محل في العهد القديم. وهذا يبحث في أصل الخطيئة ومبعثها أكثر من المظاهر الخارجية التي تتناول الخطايا كما ترى.
(٦) إن الله يسر أن يكون باطن الإنسان مملوءاً بالحق والاستقامة لأن الدين الحق يتناول الباطن لا الظاهر. وإن الله أيضاً يريدنا أن نعرف الحكمة في سريرتنا. أما الحق في الباطن فهو أن يكون الإنسان شريفاً صادقاً كريماً في داخله في ما يخص العقل والضمير أيضاً.
(٧) إن أعظم ما يخالج قلب الإنسان هو فرحه بأن خطاياه قد محيت وإن ذنوبه قد سترت كلها. إن التطهير بالزوفا هو لأجل البرص فيتطهر الإنسان منه أو إذا لمس جثة ميت. ثم إن الغسل هو علامة التطهير على أي وجه كان. وبالطبع هنا لا يوجد أي ذكر عن الكفارة بالدم (انظر إشعياء ١: ١٨).
(٨) يريد المرنم أن يطمئن بالله فهو بعد اعترافه بخطاياه ويطلب من الله أن يمحوها له. يتمنى أن يرى الله قد تحول عن غضبه عنه إلى السرور والفرح به. وهو الذي بسبب خطاياه قد سحقت عظامه سحقاً وأما الآن فهو يرجو الابتهاج لأنه قد انتصر على ما مرّ عليه من حالات محزنة. إن الحاضر يمكن أن يحتمل إذا عرفنا تأكيدات رحمة الله لنا يوماً بعد يوم.
(٩) يعود فيكرر الطلب أن يشفق الله عليه ويستر وجهه عن خطاياه لأن هذه الخطايا إذا بقيت ماثلة أمام عينيه تقض مضجعه وتحرمه لذيذ العيش – وعندئذ فهذه الخطايا لا تقف عائقاً في وجه سعادته وهنائه. لقد ذكر المرنم في العدد الثامن ما هو الباعث الأول للسرور والفرح في إتمامه المعنى في هذا العدد وهو أن الخاطئ الأثيم لا يمكن أن يكون سعيداً بالحق بل عليه أن يتوب ويرجع إلى الله أولاً وهكذا فإنه تعالى يستر وجهه عن إثمه ويمحو ذنوبه ويجعله أهلاً لذلك السلام الذي يمكن أن يملأ قلبه بعدئذ.
«١٠ قَلْباً نَقِيّاً ٱخْلُقْ فِيَّ يَا اَللّٰهُ وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي. ١١ لاَ تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ، وَرُوحَكَ ٱلْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي. ١٢ رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلاَصِكَ، وَبِرُوحٍ مُنْتَدِبَةٍ ٱعْضُدْنِي. ١٣ فَأُعَلِّمَ ٱلأَثَمَةَ طُرُقَكَ، وَٱلْخُطَاةُ إِلَيْكَ يَرْجِعُونَ. ١٤ نَجِّنِي مِنَ ٱلدِّمَاءِ يَا اَللّٰهُ إِلٰهَ خَلاَصِي فَيُسَبِّحَ لِسَانِي بِرَّكَ».
(١٠) بهذا العدد يبدأ طلبه للتجديد فهو لا يكتفي أن تمحى خطاياه ويعفى عن ذنوبه بل يلتمس تجديد القلب. أي ذلك القلب النقي الذي لم يتلوث بالإثم والشر وهكذا تزول جميع تذكارات الماضي المؤلمة. والقلب هنا كما في الأصل العبراني يتناول الضمير أيضاً. أي امنحني ضميراً نقياً حساساً مرهفاً يستطيع أن يميز بين الخير والشر. ثم في قوله «وروحاً مستقيماً» قد عنى أن يكون هذا الضمير دليله للخير دائماً (انظر إرميا ٢٤: ٧ وحزقيال ١١: ١٩ و٣٦: ٢٦).
(١١) إذا حسبنا أن الناظم هو داود فإنه بصفته ملك وإسرائيلي ومستكمل صفات الرجولة فهو يريد أن يقف مرة أخرى بعد هذا السقوط والانخذال الوقتيين (انظر إشعياء ٦٣: ١٦). وطلبه هنا هو للنعمة أكثر من طلبه للوظيفة الملكية. نعم لا يزال بباله أنه قد أخذ محل شاول لأن الله رفضه (انظر ٢ملوك ٢٤: ٢٠). أما الروح القدوس الذي يذكره فهو الذي ناله بعد أن مسح ملكاً وهو عكس الروح الشرير الذي كان في شاول والذي كان سبباً في سقوطه وانتزاع الملك من يده بعد موته.
(١٢) يهمه في هذا العدد أن يعود إليه السرور القديم المؤسس على خلاص الرب وعلى عضده وسنده له. وأما الروح المنتدبة أي ذات المكانة السامية المملوءة بالعزم والإرادة. و «الندب» في العربية هو السريع للفضائل الذي يخف للملمات ويقضيها. فهو هنا يتمنى أن يعود إلى سابق عزه وكرامته وأن يمتلئ بتلك الروح التي تجعله معيناً من الله ملكاً على شعبه وهكذا يطلب العضد منه تعالى لكي يهديه دائماً في طريق الحق والواجب ولا يتخلى عند أبداً.
(١٣) إن أعظم عمل يتممه التائب الحقيقي هو أن يهدي الضالين الذين كان هو منهم بالأمس وأما بالروح الإلهي فقد نجا من الحالة السيئة التي وصل إليها. فهو بعد أن تأكد تبريره مما كان فيه ورضا الله عنه ورجوعه بالتوبة وطلب الغفران يود من كل قلبه أن يكون قدوة للآخرين ذلك أن العار الحقيقي على الساقط هو أن يظل في سقوطه ولكنه إذا قام ورجع إلى الله فهو يغفر له إثمه ويسامحه تمام المسامحة وإذا دلّ بعد ذلك رفاقه الآخرين الأشرار يتكلم لهم عن اختبار ليرجعوا تائبين.
(١٤) هنا يبدأ بالقسم الأخير من المزمور فيطلب أن ينجو من الدماء التي سفكها ظلماً وعدواناً. وقوله «دماء» دليل كثرتها وعظمتها فهو لم يكن زانياً فقط بل قاتلاً أيضاً. ولذلك فإن ضميره يؤنبه بشدة ويطالبه بما اقترفت يداه. والتفاته هنا إلى إله خلاصه الذي ارتكب هذا الإثم الفظيع ضده وحده لكي يستطيع بعد ذلك أن يسبح ببر الله وخلاصه.
«١٥ يَا رَبُّ ٱفْتَحْ شَفَتَيَّ فَيُخْبِرَ فَمِي بِتَسْبِيحِكَ. ١٦ لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلَّا فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى. ١٧ ذَبَائِحُ ٱللّٰهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. ٱلْقَلْبُ ٱلْمُنْكَسِرُ وَٱلْمُنْسَحِقُ يَا اَللّٰهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ. ١٨ أَحْسِنْ بِرِضَاكَ إِلَى صِهْيَوْنَ. ٱبْنِ أَسْوَارَ أُورُشَلِيمَ. ١٩ حِينَئِذٍ تُسَرُّ بِذَبَائِحِ ٱلْبِرِّ، مُحْرَقَةٍ وَتَقْدِمَةٍ تَامَّةٍ. حِينَئِذٍ يُصْعِدُونَ عَلَى مَذْبَحِكَ عُجُولاً».
(١٥) وبعد أن ينال هذا الخلاص إذا بشفتيه تبدآن بالحمد والتسبيح. لأن تسبيح الله يأتي على أتمه حينما نتكلم عن اختبار شخصي بمراحمه العظيمة وإحساناته الشاملة ويكون أن «من فضلة القلب يتكلم اللسان».
(١٦) إن سرور الله الذي هو مطلب جليل للمؤمن ليس بتقديم الذباح الطقسية (انظر مزمور ٤٠: ٧ وإشعياء ١: ١١) وهنا سمو عظيم في التفكير الروحي. إن عدم تقديم الذبيحة راجع لعدم رضا الله عنها وليس لأن المرنم غير مستعد لتقديمها. حتى أنه لا يرضى بالمحرقة التي يرتفع دخانها كالبخور العطر أمام عرش الله.
(١٧) ولكن هنا يلفت النظر إلى الشيء الأهم وهو أن الذبائح التي يقبلها الله ويرضى عنها إنما هي الروح المنكسرة والقلب المنسحق بالتوبة أمام الله. إن الخاطئ التائب هو كذلك حينما يشعر أن طبيعته الشريرة تتبدل في داخله إلى شيء أسمى وأعظم. أي حينما يصبح هو لا شيء ولكن يصبح الله له كل شيء. بروح كهذه وبقلب تائب متواضع يطلب رضا الله ونعمته يرى حينئذ أنه في طريق الحق والكمال ونجد (إشعياء ٥٧: ١٥) يقول إن روحاً كهذه يسكنها الله القدوس.
(١٨ و١٩) الأرجح أن هذين العددين هما إضافة زادهما أحد النساخ بعد الرجوع من السبي أو أثناء السبي. ويلتمس بهما أن يعود الله برضاه ويلتفت إلى ذل أورشليم ويرمم أسوارها المتهدمة ومبانيها الخربة ويرجعها إلى سابق مجدها وكرامتها. والحق يقال لا أرى أية علاقة بين طلب داود الرحمة لنفسه تائباً وبين ترميم أسوار أورشليم التي لم تكن بعد قد بنيت كلها في أيامه بعد أن استخلصها من أيدي اليبوسيين. إنما إذا أخذنا المزمور بمعنى روحي فيكون أن المرنم يطلب الرجوع لله كما رجع داود قديماً عن خطاياه.
السابق |
التالي |