سفر المزامير | 38 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّامِنُ وَٱلثَّلاَثُونَ
مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ لِلتَّذْكِيرِ
«١ يَا رَبُّ لاَ تُوَبِّخْنِي بِسَخَطِكَ، وَلاَ تُؤَدِّبْنِي بِغَيْظِكَ، ٢ لأَنَّ سِهَامَكَ قَدِ ٱنْتَشَبَتْ فِيَّ، وَنَزَلَتْ عَلَيَّ يَدُكَ. ٣ لَيْسَتْ فِي جَسَدِي صِحَّةٌ مِنْ جِهَةِ غَضَبِكَ. لَيْسَتْ فِي عِظَامِي سَلاَمَةٌ مِنْ جِهَةِ خَطِيَّتِي. ٤ لأَنَّ آثَامِي قَدْ طَمَتْ فَوْقَ رَأْسِي. كَحِمْلٍ ثَقِيلٍ أَثْقَلَ مِمَّا أَحْتَمِلُ. ٥ قَدْ أَنْتَنَتْ، قَاحَتْ حُبُرُ ضَرْبِي مِنْ جِهَةِ حَمَاقَتِي».
هذا المزمور وعنوانه للتذكير هو حلقة من سلسلة المزامير للتوبة فإن داود بعد ارتكابه خطيئته العظيمة (راجع بالأخص ٢صموئيل ١٢: ١٤) فيمكننا أن نحسب هذه السلسلة هي (المزامير ٦ و٣٨ و٥١ و٣٢) وهذه ربما كتبت هكذا بحسب الترتيب التاريخي الواحد بعد الآخر. وهنا يبدأ في الطريقة ذاتها التي يبدأ بها المزمور السادس. وحينما كانت تقدم تقدمة «المنحة» كانوا يرمون بنار المذبح المتقدة قطعة منها مخلوطة بالبخور حتى يصعد أمام الله ويذكر الإنسان بإلهه. والأرجح أن المزمور السادس والثامن والثلاثين كانا يستعملان للصلاة أثناء هذه التقدمة المذكورة. وفي هذا المزمور يشكو المرنم ليس من آلام الجسد والروح فقط بل أيضاً من الأعداء الذين يغتنمون فرصة سقوطه لكي يسببوا هلاكه بالكلية.
(١) يلتمس من الله أن يرأف به ولا يوبخه وهو غضبان عليه. بالطبع لم يكن قد سما فكر المذنب في العهد القديم إلى ما وجد في العهد الجديد وهنا المرنم يلتمس أن لا ينفضح أمره ولا يذلّ أمام الآخرين لا سيما أعداؤه الذين يغتنمونها فرصة للحط من كرامته وإنزال أعظم الأذى والضرر به.
(٢) ويشبه إمارات الغضب في الله كأنها سهام مسنونة تنزل عليه وهكذا حسب هوميروس غضب الآلهة قديماً ولا سيما زفس الذي كان يرمي العالم بنباله. وهذه السهام قد أصابته ونشبت به ويتصور أن يد العدل الإلهي تطاله إلى التمام وليس باستطاعته أن ينجو. إن يد الله تقاص وتؤدب وهكذا يتأكد المرنم إن ما أصابه من ويلات هو في سبيل عقوبته (انظر مزمور ٣٢: ٤).
(٣) طالما غضب الله عليه فلا يشعر بصحة في جسمه ولا سلامة في داخله. هو شعور الخيبة المرة في نفسه بل شعور تحقيره لذاته ولا شك أن للعقل تأثيراً عظيماً في الجسم الإنساني إذ حينما نكون في اضطراب عقلي أو حزن أو كآبة مرة لا شك يظهر هذا في أنواع الهموم التي نحتملها وتقض مضاجعنا.
(٤) ويشبّه أن غمر الآثام كان كما تغمر المياه المتزايدة الأرض بالطوفان فهو يشعر كأنه في غرق لا يستطيع أن ينتشل نفسه مما هو فيه. ولذلك يشعر أنه رازح تحت ثقل عظيم لا يمكنه الاحتمال.
(٥) وأما ظهور عدم احتماله فهو حينما ظهرت فيه تلك الحبر والقروح التي انتشرت في جسده وجعلته يتألم ويتعذب كثيراً وينسب ذلك هنا ليس للشر الذي اقترفه بل للحماقة التي ظهر بها. وسبب ذلك أنه ضرب ولا ندري أهو بصورة المجاز أم كان ضرباً حقيقياً (راجع إشعياء ١: ٦) فيكون أن هذا الضرب قد جرحه وهذه الجروح تحولت إلى قروح أيضاً.
«٦ لَوِيتُ. ٱنْحَنَيْتُ إِلَى ٱلْغَايَةِ. ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ ذَهَبْتُ حَزِيناً. ٧ لأَنَّ خَاصِرَتَيَّ قَدِ ٱمْتَلأَتَا ٱحْتِرَاقاً، وَلَيْسَتْ فِي جَسَدِي صِحَّةٌ. ٨ خَدِرْتُ وَٱنْسَحَقْتُ إِلَى ٱلْغَايَةِ. كُنْتُ أَئِنُّ مِنْ زَفِيرِ قَلْبِي. ٩ يَا رَبُّ، أَمَامَكَ كُلُّ تَأَوُّهِي، وَتَنَهُّدِي لَيْسَ بِمَسْتُورٍ عَنْكَ. ١٠ قَلْبِي خَافِقٌ. قُوَّتِي فَارَقَتْنِي، وَنُورُ عَيْنِي أَيْضاً لَيْسَ مَعِي».
(٦) كان منحنياً ملتوياً على نفسه من جراء همومه وأحزانه. كثير التفكير تسوده المخاوف وتساوره مشاغل البال فلا يستطيع أن يرفع رأسه إلى فوق بل دائماً ينظر للأسفل لا يجرؤ أن يفعل أكثر من ذلك (راجع إشعياء ١٢: ٣٠ ومزمور ٣٥: ١٤) هو مريض بالجسم والروح لذلك ينحني على هذا الشكل.
(٧) لا ندري تماماً هل هنا يصف مرضاً ألمّ به أم هو وصف لحالة مؤسفة وصل إليها. وطالما يذكر الاحتراق في خاصرتيه فقد يكون أنه أصابه نوبة كلوية جعلته يلتوي من الآلام حتى أنه اعتقد في نفسه أن لا صحة في جسده البتة. أما شعوره هذا فناتج عن شروره التي ارتكبها ولا سيما في حادثة أوريا الحثي.
(٨) ولشدة ما أصابه من أوجاع وأمراض فقد كاد لا يعي على شيء. وحتى أنه شعر أنه بدون قوة ولا نشاط البتة. وذلك لأن قلبه كان في زفير وتنهد متواصل. والتنهد يقصد به التخفيف عما يكنه الفؤاد في الداخل فإن الآلام إذا زادت كثيراً فلا يسع الصدر إلا أن يخرجها خارجاً وهكذا فهي علامة عما في الداخل من عواطف مكبوتة.
(٩) بعد أن يسكب المرنم شكواه بشكل واضح مسموع إذا به في هذا العدد يرتمي عند قدمي إلهه من التعب والعياء. لذلك فسكوته الآن هو لأجل الخضوع والتسليم الكامل ولأنه يرى نجاته قريبة بواسطة اليد التي تمتد لخلاصه. وهو لا يحاول الكتمان بل يقول أن ليس شيء مستوراً من تنهداته. إن الله عالم بحالته وبتأوهه هذا هو فقط يفرج ضيق قلبه ولا يعطي علماً لله بحاله. لأن الله يعلم بكل شيء كذلك لا يتأوه لكي يعزي نفسه ويخفف من أثقاله. ولكنه يصف حالته وصفا دقيقاً أميناً طالباً من الله فرجاً وسلاماً.
(١٠) إذا به يجد قلبه خائفاً من الآلام التي يكنها بل يجد أن النور قد انطفأ من عينيه ولا يجد سوى ظلام في ظلام. والأرجح أن حالته كانت هكذا من فرط بكائه ونحيبه حتى يكاد يفقد كل لذة في الحياة. إن ضربة الله عليه شديدة وقاسية (راجع ٢صموئيل ١٨: ١٣) ذلك لأنها كانت ضربة الغضب والسخط لا ضربة المحبة والرضوان.
«١١ أَحِبَّائِي وَأَصْحَابِي يَقِفُونَ تُجَاهَ ضَرْبَتِي، وَأَقَارِبِي وَقَفُوا بَعِيداً. ١٢ وَطَالِبُو نَفْسِي نَصَبُوا شَرَكاً، وَٱلْمُلْتَمِسُونَ لِيَ ٱلشَّرَّ تَكَلَّمُوا بِٱلْمَفَاسِدِ، وَٱلْيَوْمَ كُلَّهُ يَلْهَجُونَ بِٱلْغِشِّ. ١٣ وَأَمَّا أَنَا فَكَأَصَمَّ لاَ أَسْمَعُ. وَكَأَبْكَمَ لاَ يَفْتَحُ فَاهُ. ١٤ وَأَكُونُ مِثْلَ إِنْسَانٍ لاَ يَسْمَعُ، وَلَيْسَ فِي فَمِهِ حُجَّةٌ. ١٥ لأَنِّي لَكَ يَا رَبُّ صَبِرْتُ، أَنْتَ تَسْتَجِيبُ يَا رَبُّ إِلٰهِي. ١٦ لأَنِّي قُلْتُ: لِئَلاَّ يَشْمَتُوا بِي. عِنْدَمَا زَلَّتْ قَدَمِي تَعَظَّمُوا عَلَيَّ».
(١١) هم يقفون بعيداً إما لأنهم لا يستطيعون ولا يتجاسرون على الاقتراب لئلا يقوم عليهم الأعداء ويفتكوا بهم أو لأنهم يشمتون به ولا يهتمون بأمره ولا بأي شيء يصيبه لا فرق عندهم أكان في خير أم في شر. والمرنم يصبح حزنه مزدوجاً لأنه في حالة شدته هذه لا يجد من يسعفه أو من يلتفت إليه ويقول له كيف حالك وماذا تفعل. لا سيما وبين هؤلاء هم الأقارب الذين كان الواجب يقتضيهم أن يهتموا ويسرعوا للنجدة أكثر.
(١٢) بل إن هؤلاء الأعداء المتلبسين ثياب الصداقة سوف ينكشف أمرهم وتبان مقاصدهم كما هي فإذا هم ينصبون الشراك ويطلبون الشر لا الخير. ويتكلمون بالمفاسد والموبقات بدلاً من الصلح والسلام. بل هم يتمادون في غيهم ويستمرون على غشهم حاسبين أن حيلهم بالصداقة تسلك عليه بعد.
(١٣) تجاه حالة محزنة كهذه يجد المرنم الأفضل له أن يسكت ولا ينبس ببنت شفة ويتظاهر أنه لا يسمع ما يقولون به عليه ذلك لأنه وجد بالاختبار أن السكوت في مواقف كثيرة هو أفضل من رد الجواب. وقد يكون أنه شعر بعدم قدرته لمجابهتهم العداوة بمثلها فرأى الأفضل أن يسكت ولا يستمع لهم قط.
(١٤) في هذا العدد توكيد لسابقه فهو يحاول أن ينسى كل شيء حتى أنه لا يجد حجة في لسانه يحتج بها عليهم ويتنازل عن كل مطالبه وحقوقه أمامهم. هؤلاء الأعداء هم قوم قساة فاجرون ويرى أن أفضل أسلوب يتبع معهم هو السكوت. لقد ملك طبعه ولجم لسانه ولم يسترسل في عاطفته وهكذا ربح المعركة ولا يمكن أن يخسر.
(١٥) وسبب ربحه أنه اتكل على إلهه. فالقوة ليست من الناس ولا من داخل الإنسان بل من فوق. فهو قد صبر ولذلك فالرب قد استجاب له. إن الله لا يتخلى عن الصابرين الراجين الرحمة والملتجئين إليه في ضيقاتهم. وفي كتاب الصلاة العامة تترجم كلمة تستجيب بقول «وأنت تجيب عني» فإن هذا الشخص المعذب لا يستطيع أن يرد عنه الألسنة ولكن الله يستطيع.
(١٦) يخاف شماتة الأعداء ويشغل باله من أجل ذلك. هو يقول ويعترف أنه قد زلت به القدم ولكنه لا يريد من هؤلاء الواقفين جنبه أن يهزأوا به ويتكبروا عليه ويحتقروه هذا الاحتقار المشين.
«١٧ لأَنِّي مُوشِكٌ أَنْ أَظْلَعَ، وَوَجَعِي مُقَابِلِي دَائِماً. ١٨ لأَنَّنِي أُخْبِرُ بِإِثْمِي وَأَغْتَمُّ مِنْ خَطِيَّتِي. ١٩ وَأَمَّا أَعْدَائِي فَأَحْيَاءٌ. عَظُمُوا. وَٱلَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي ظُلْماً كَثُرُوا. ٢٠ وَٱلْمُجَازُونَ عَنِ ٱلْخَيْرِ بِشَرٍّ يُقَاوِمُونَنِي لأَجْلِ ٱتِّبَاعِي ٱلصَّلاَحَ. ٢١ لاَ تَتْرُكْنِي يَا رَبُّ. يَا إِلٰهِي لاَ تَبْعُدْ عَنِّي. ٢٢ أَسْرِعْ إِلَى مَعُونَتِي يَا رَبُّ يَا خَلاَصِي».
(١٧) يقر هنا أنه يكاد يسقط مرتمياً بسبب أتعابه وهمومه وخطاياه. وهو يرى أن أوجاعه لا تزال مقابله في كل حين. لقد فقد كل ثقة بنفسه ولا يستطيع أن ينهض وحده لا سيما والأوجاع تقض مضجعه وتحرمه لذة الحياة. وهكذا يلتمس من الله عوناً وإسعافاً بصورة ضمنية غير مباشرة.
(١٨) لا يستطيع أن ينسى إثمه فهو يعترف به جهراً ويخبر عنه وهذا ليس لأنه يفتخر بذلك بل لأنه يرى في هذا الاعتراف تخفيفاً من حمله الذي يكاد يرزح تحته ولا يستطيع أن يفعل به شيئاً. وفي الوقت ذاته هو حزين مغموم والحزن على الخطية كما نعلم هو أول باب للاعتراف بها ثم تركها والتوبة عنها بتاتاً.
(١٩) ثم يقابل حالته السيئة هذه بأعدائه فيجدهم أقوياء متعظمين بل يجدهم يتكاثرون عليه لأن أولئك الأصدقاء بالأمس قد انقلبوا عليه الآن وكانت صداقتهم صداقة المصلحة الوقتية ولذلك حينما ذهبت المصلحة ذهبت صداقتهم أيضاً. بل أن حالة داود وخطيئته قد جعلت كل إنسان يبتعد عنه حتى ألزم الأصدقاء وأقربهم إليه.
(٢٠) والذي يكيده كثيراً ويمرّر حياته هم أولئك الأصدقاء الذين حسبهم مخلصين وعمل معهم خيراً إذا بهم يجازونه عن الخير شراً ونجدهم يقاومونه الآن لأنه يتبع الصلاح ويترك الباطل إلى الأبد. إذاً هنا لا يستاء من الأعداء الذين يجهرون بالعداوة بل كل كدره من الأصدقاء الذين يكنون في قلوبهم العداوة اللدودة.
(٢١) هنا في هذا العدد والعدد الذي يليه ختام لطيف لهذا المزمور فإن تركه الناس فالله لا يتركه وإن خانه الأصدقاء وتحولوا لأعداء فإن الله لن يخونه بل يبقى معه دائماً. ولا شيء يسر قلب المؤمن سروراً أكيداً حقيقياً سوى مثل هذا الإيمان. هو متروك وبعيد ولذلك فهو يطلب من الله أن لا يتركه ولا يبتعد عنه.
(٢٢) إن نجدته ضرورية وهي بالأولى نجدة أكيدة وسريعة. لأنه لا خلاص له فيطلب من الله أن يكون خلاصه وعونه الأكيد. لنتعلم أنه حينما تحتاطنا المصائب والضيقات أن نسرع لله (راجع ١بطرس ٢: ٢٣) فإنه حينما يكون الناس باطلين وخائنين ولا يمكننا اللجوء والركون إليهم علينا أن نذهب إلى ذاك الذي يستطيع أن يحمينا ويقوينا.
السابق |
التالي |