سفر المزامير | 39 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ وَٱلثَّلاَثُونَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِيَدُوثُونَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
«١ قُلْتُ أَتَحَفَّظُ لِسَبِيلِي مِنَ ٱلْخَطَإِ بِلِسَانِي. أَحْفَظُ لِفَمِي كِمَامَةً فِيمَا ٱلشِّرِّيرُ مُقَابِلِي. ٢ صَمَتُّ صَمْتاً، سَكَتُّ عَنِ ٱلْخَيْرِ، فَتَحَرَّكَ وَجَعِي. ٣ حَمِيَ قَلْبِي فِي جَوْفِي. عِنْدَ لَهَجِي ٱشْتَعَلَتِ ٱلنَّارُ. تَكَلَّمْتُ بِلِسَانِي. ٤ عَرِّفْنِي يَا رَبُّ نِهَايَتِي وَمِقْدَارَ أَيَّامِي كَمْ هِيَ، فَأَعْلَمَ كَيْفَ أَنَا زَائِلٌ».
هذا المزمور يتفق مع سابقه بأن المرنم يخضع لله ويسلم أمره إليه وهذا هو السبب أن وضع الاثنين متتابعين على هذه الصورة. ومن جهة أخرى فهذا المزمور يشبه المزمور الثاني والستين إذ الاثنان «ليدوثون». والمؤلف باختباره الشخصي يرى أن لا يعتمد على شيء في هذه الدنيا الزائلة الفانية بل ليكن كل الاتكال على الله. «يدوثون» مكتوبة أيضاً في (مزمور ٧٧: ١ و١أخبار ١٦: ٣٨ ونحميا ١١: ١٧). والأرجح هذا الاسم لأحد رؤساء الأجواق الثلاثة في أيام داود وفي مرتبة آساف وهمان. وقوله لإمام المغنين ثم ليدوثون يكون ذلك من قيل البدل أو عطف البيان ليس إلا.
(١) يبدأ المرنم تأكيده لنفسه أنه سيتحمل ما تأتي به المصائب والنكبات بصبر وطول أناة. لا سيما وهو يرى نجاح الأشرار وتقدمهم. وقد حافظ على صمته هذا حتى لم يستطع إلى كتمانه سبيلاً عندئذ تكلم بلسانه كما في العدد الثالث. وعدم تنويهه بالكلام كان لتخوفه من أن يخطئ. ولذلك حاول وضع كمامة وضبط لسانه جيداً.
(٢) ولكن صمته ألمه جداً فقد رأى الضربات تترى عليه ورأى الخيرات تتدفق على عدوه فكانت النتيجة لأنه لم يفرج كربه ولم يبح بما يعانيه إن تحوّل كل ذلك إلى آلام نفسانية مبرحة وضعها بهذا العدد المؤثر. لقد أجبر نفسه على هذا الصمت ولم يفرضه عليه أحد ولذلك فقد احتمله مدة حتى لم يستطع بعد ذلك أي احتمال. لأنه كما في العدد (٣) حمي قلبه وشعر كأن جوفه يشتعل بالنار وهكذا كانت شكوى مكبوتة (راجع إرميا ٢٠: ٩) ولكنها إلى حين. لقد نوى أن يصمت كل الوقت وهنا كانت العاطفة وكذلك كان العقل. فالعقل ينصحه أن يصمت ويسلّم لمشيئة الرب ولكن العاطفة كانت جائشة في صدره تشتعل اشتعالاً وأخيراً لم يقدر أن يضبط نفسه بعد فتكلم. وهكذا اضطر أن يتحول عن قصده وعن نيته وانصرف بكليته للصلاة والتسليم أمام مشيئة الله تعالى.
(٤) التمس أول كل شيء أن يفتح عينيه إلى تلك الحقيقة وهي زوال هذه الدنيا الفانية (قابل هذا مع مزمور ٤٠: ١٢). وهنا يتعزى بأن آلامه هذه كما وأفراح عدوه فهي إلى وقت قصير لا يدوم أبداً. ويلتمس مسبقاً أن يعرف متى يا ترى تنتهي أيامه (قابل أيوب ٦: ١١). و بزوال أيامه تزول آلامه أيضاً وعليه أن لا يعبأ بذلك طالما حقيقة الحال هكذا.
«٥ هُوَذَا جَعَلْتَ أَيَّامِي أَشْبَاراً وَعُمْرِي كَلاَ شَيْءَ قُدَّامَكَ. إِنَّمَا نَفْخَةً كُلُّ إِنْسَانٍ قَدْ جُعِلَ. سِلاَهْ. ٦ إِنَّمَا كَخَيَالٍ يَتَمَشَّى ٱلإِنْسَانُ. إِنَّمَا بَاطِلاً يَضِجُّونَ. يَذْخَرُ ذَخَائِرَ وَلاَ يَدْرِي مَنْ يَضُمُّهَا. ٧ وَٱلآنَ مَاذَا ٱنْتَظَرْتُ يَا رَبُّ؟ رَجَائِي فِيكَ هُوَ. ٨ مِنْ كُلِّ مَعَاصِيَّ نَجِّنِي. لاَ تَجْعَلْنِي عَاراً عِنْدَ ٱلْجَاهِلِ. ٩ صَمَتُّ. لاَ أَفْتَحُ فَمِي لأَنَّكَ أَنْتَ فَعَلْتَ».
(٥) أيامه تقاس بالأشبار مجازاً لكي يدل على قصرها (راجع إشعياء ٥٥: ٢٠) وقد حسب بعض المفسرين أن الشبر هو مقدار حجم اليد أي الأصابع الخمسة فيكون مقدار الذراع نحو سبعة منها. أما إذا حسبنا الشبر هو المسافة بين الخنصر والإبهام واليد مبسوطة فلا يكون الذراع أكثر من ثلاثة أشبار فقط. وعلى كل فالمرنم يصوّر لنا قصر العمر بل وزواله بدون جدوى. وكما تذهب النفخة في الهواء هكذا تذهب نفس الإنسان. وفي هذه الآية لا نرى شيئاً من الإيمان بالخلود أو القيامة بعد الموت.
(٦) هو خيال لا حقيقة فيه (قابل مزمور ٤٥: ١٤ ويعقوب ١: ٢) فطالما نهايته باطلة على هذه الصورة ففي عرف المرنم هو باطل في حقيقته أيضاً. إذاً فالضجيج الذي يسببه في حياته هو بلا جدوى أيضاً فيذهب صوته وكل ما يقوله أخيراً مع أصوات الرياح المالئة جوانب الأرض. ومع ذلك فهذا الإنسان لا يستطيع أن يقنع في شيء أو يكتفي بل يظل على غيّه يكتنز لنفسه كنوزاً ويحسب أنه سينعم بها وفاته أنه هو وما كنزه للزوال (انظر أيوب ٢٧: ١٦ وإشعياء ٣٣: ٤).
(٧) قوله والآن هو للالتفات فقد سئم هذه الحقائق المرة التي ذكرها فآلامه المبرحة وتأكده من قصر الحياة وعدم العدل والإنصاف بينه وبين أعدائه ولكنه الآن يشرق عليه نور أمل جديد. يرى الرب ويتحقق ما ترجاه فيه لأنه لا يخيّب قلوب الملتمسين رحمته ورضاه. وهنا نعجب كيف يمتلئ بالرجاء طالما وجد الحياة قصيرة على هذه الصورة ولا وعد له بالقيامة؟ ولكنه رغماً عن ذلك يرتمي في أحضان الله فهو العليم بكل شيء.
(٨) يطلب بتواضع أن يتطهر من المعاصي وأن لا يكون خزياً وعاراً أمام الآخرين لا سيما الجهال الأردياء الذين وصفهم سابقاً. يطلب من الرب أن لا يعرضه لمثل هذه الإهانة ونستطيع أن نخترق ببصرنا أنه يريد أن يبرر الرب في معاملته له على هذه الصورة فطالما هو بار فالرب يسنده. فإذا لم يسنده الرب يصبح عاراً عند الجميع ولا يمكنهم أن يصدقوا أنه بار.
(٩) يعود للفكرة العظيمة التي رددها من قبل أنه عليه أن يصمت ولا يتكلم قط. لأن الرب فعل فمن يستطيع أن يعترض؟ وإذا اعترض فهل من جدوى؟ لا يزال ماثلاً أمامه تلك الحقيقة المرة وهي أنه في شر وضيق والأثمة في خير وتوفيق. ولكن عليه أن يسلم أمره للرب ويرى أصابعه عاملة وراء ظواهر الوجود كله ولا يستطيع أحد أن يعترض على ترتيباته تعالى.
«١٠ ٱرْفَعْ عَنِّي ضَرْبَكَ. مِنْ مُهَاجَمَةِ يَدِكَ أَنَا قَدْ فَنِيتُ. ١١ بِتَأْدِيبَاتٍ إِنْ أَدَّبْتَ ٱلإِنْسَانَ مِنْ أَجْلِ إِثْمِهِ، أَفْنَيْتَ مِثْلَ ٱلْعُثِّ مُشْتَهَاهُ. إِنَّمَا كُلُّ إِنْسَانٍ نَفْخَةٌ. سِلاَهْ. ١٢ اِسْتَمِعْ صَلاَتِي يَا رَبُّ وَٱصْغَ إِلَى صُرَاخِي. لاَ تَسْكُتْ عَنْ دُمُوعِي. لأَنِّي أَنَا غَرِيبٌ عِنْدَكَ. نَزِيلٌ مِثْلُ جَمِيعِ آبَائِي. ١٣ ٱقْتَصِرْ عَنِّي فَأَتَبَلَّجَ قَبْلَ أَنْ أَذْهَبَ فَلاَ أُوجَدَ».
(١٠) لقد طلب المرنم من قبل أن يجري الحق مجراه ويقضي له بالعدل. يشبه حالته بحالة إنسان واقع تحت الضرب واليد فوقه تنزل عليه بالسياط وقد يكفي بالضرب هنا من غضب الرب كما في (مزمور ٣٨: ١٢). وإذا استمرت هذه الضربات عليه فهو لا شك هالك ولا قوة تنجيه. هنا يسترحم بصورة مؤثرة فإنه ضعيف جداً لا يستطيع أن يقف ضد هذه القوة المنصبة ضده والتي تهاجمه بويلاتها حتى نفد كل ما لديه من نشاط.
(١١) هنا يرى الصواب ويتحقق أن هذا الضرب هو لأجل تأديبه فهو بحاجة إليه كما أن الولد المذنب هو بحاجة أيضاً للتأديب. «مشتهاه» هنا قد تترجم «جماله» أو هيبته. فكما أن الولد يذلّ بعد القصاص كذلك فتأديبات الرب يجب أن تذلل الإنسان وتقلل عنفوانه وترجعه للحق والصواب. ثم يعود للمعنى القديم عن بطلان حياة الإنسان وكم هي ظل زائل لا حقيقة فيها ولا ثبات. وهنا ترديد للمعنى في العدد (٦).
(١٢) يعود المرنم إلى الصلاة والخشوع فهو يسترحم ويبني استرحامه هذا على قصر هذه الحياة الدنيا فهو غريب فيها ونزيل ولا يمكنه أن يقيم طويلاً بل سيرحل كما رحل من قبله الآباء الأولون. وكانت صلاته هذه المرة ممزوجة بالدموع ذلك لأنها أبلغ تعبيراً في كثير من المواقف ولأن الدموع تفرج القلب وتسرّي عن النفس ولا سيما نفس من كان مثله يشعر بالوحشة المريرة حتى مع ابنه العقوق أبشالوم الذي قام عليه وأشعل تلك الثورة الفظيعة. إن الأرض هي ملك الرب (انظر لاويين ٢٥: ٢٣) لذلك فكل إنسان يقطنها هو وكيل عليها إلى حين ولا حق له فيها. وإذا راجعنا تكوين ٤٧: ٩ وقابلناه مع تكوين ٢٣: ٤ نرى أن بني إسرائيل قد أعطوا الأرض هبة فهي ليست ملكهم بل ملك الرب ولذلك كانت سنة اليوبيل لإرجاع حق الميراث بالوكالة إلى الوكلاء الأولين.
(١٣) فإذا كانت الحياة قصيرة وهو يمر على الأرض كزائر نزيل ثم يعبر ولا يعود لذلك يطلب من الرب أن يكف يده عنه (قابل ذلك مع أيوب ١٧: ١٩ و١٤: ٦) وختام هذا المزمور يشبه كثيراً ما ورد في سفر أيوب لأنه يحاول حل المعضلة التي أشغلت بال المؤمنين حينئذ وهي إذا كان الله يحب الذين يطيعونه فكيف يسمح لهم بالآلام والعذاب؟ والمرنم لا يستطيع أن يعزل من فكرة العلاقة بين الخطيئة والعذاب وإن على الخاطئ وحده أن يتعذب فقط. يطلب أن يكف عنه الضربة وهو لا يزال حياً قبل أن يموت ولا يعود يشعر بشيء.
السابق |
التالي |