سفر المزامير

سفر المزامير | 40 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلأَرْبَعُونَ

لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ

«١ اِنْتِظَاراً ٱنْتَظَرْتُ ٱلرَّبَّ فَمَالَ إِلَيَّ وَسَمِعَ صُرَاخِي، ٢ وَأَصْعَدَنِي مِنْ جُبِّ ٱلْهَلاَكِ، مِنْ طِينِ ٱلْحَمْأَةِ، وَأَقَامَ عَلَى صَخْرَةٍ رِجْلَيَّ. ثَبَّتَ خُطُوَاتِي، ٣ وَجَعَلَ فِي فَمِي تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً تَسْبِيحَةً لإِلٰهِنَا. كَثِيرُونَ يَرَوْنَ وَيَخَافُونَ وَيَتَوَكَّلُونَ عَلَى ٱلرَّبِّ. ٤ طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلرَّبَّ مُتَّكَلَهُ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ٱلْغَطَارِيسِ وَٱلْمُنْحَرِفِينَ إِلَى ٱلْكَذِبِ».

(١) يبدأ المرنم هذا المزمور بالحمد لأجل خلاصه فقد انتظر طويلاً وصلى كثيراً ولكن لم يذهب انتظاره عبثاً فقد مال الله إلى الصراخ وسمع الدعاء. وفي حالة كهذه يجدر الحمد قبل كل شيء لأن بالحمد إظهار الشكر وبالشكر سبيل الخلاص. لقد نجى الله المرنم من خطر جديد ولذلك عليه أن يشكر من جديد أيضاً. وفي العدد ١ قوله انتظاراً انتظرت لأجل التوكيد أي قد انتظرت كثيراً وطويلاً ولكنه أخيراً لم يمل عني بل نحوي ولم يظهر عدم الاكتراث بل انتبه لي وسمع صراخي.

(٢) لا يذكر المرنم في هذا العدد أي المصائب قد أصابته هذه المرة فلا يذكر المرض ولا العداوة وقد يكون أن حالة اضطراب داخلي كانت تسود قلبه فشعر بالمخاوف وحسب نفسه في جبّ عميق بسببها. ويذكر لنا أن هذا الجب امتلأ بالطين في قعره ولكن الله قد نشله من ذلك وأقامه من مكانه الوسخ المائع إلى صخرة ثابتة نظيفة يستطيع أن يقف عليها غير خائف. وأخذ يمشي في طريقه ثابت الخطى.

(٣) إن الله لم يكتف فقط أن ينجيه وينشله مما هو فيه بل حوّل تعبه هذا إلى وسيلة السرور والفرح فطفق يترنم ويسبّح للرب. هكذا فعل بولس وسيلا في سجن فيلبي وهكذا يفعل المؤمنون الحقيقيون فإنهم يترنمون ذاكرين مراحم الله حتى في أشد الساعات وأضيقها. وبقية الناس يرون هذا الأمر فيندهشون من إيمان وطيد كهذا. يتعلمون من المؤمنين أن يخافوا الله. لذلك علينا أن نكون سبب قدوة للغير فلا نستسلم للأحزان كما يفعل أولئك إنما نحوّل حزننا إلى وسيلة للغلبة على الشر وللاتكال على الرب.

(٤)إن هذا الإنسان المتكل على الرب هو على حق من أمره (راجع أيوب ٣١: ٢٤ وإرميا ١٧: ٧). و «الرجل» هنا ليس الإنسان العادي بل الكلمة العبرانية تفيد «الجبار» أي ذاك الرجل القوي في إيمانه واتكاله على إلهه. هو جبار ليس باعتداده بنفسه واتكاله عليها ولا بأن يسلك في سبل الكاذبين المنافقين بل بأن يتبع كلام الله ويمشي بالحق ويتكلم الصدق. هذا له الطوبى لا الذي اعتاد أن يمجده الناس ويطوّبوه.

«٥ كَثِيراً مَا جَعَلْتَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ إِلٰهِي عَجَائِبَكَ وَأَفْكَارَكَ مِنْ جِهَتِنَا. لاَ تُقَوَّمُ لَدَيْكَ. لأُخْبِرَنَّ وَأَتَكَلَّمَنَّ بِهَا. زَادَتْ عَنْ أَنْ تُعَدَّ. ٦ بِذَبِيحَةٍ وَتَقْدِمَةٍ لَمْ تُسَرَّ. أُذُنَيَّ فَتَحْتَ. مُحْرَقَةً وَذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ لَمْ تَطْلُبْ. ٧ حِينَئِذٍ قُلْتُ: هَئَنَذَا جِئْتُ. بِدَرْجِ ٱلْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي ٨ أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلٰهِي سُرِرْتُ. وَشَرِيعَتُكَ فِي وَسَطِ أَحْشَائِي».

(٥) هنا يرجع المرنم إلى أمور قديمة فيقرن حوادث يومه بالتاريخ المقدس ويرى أن أعمال الرب وعجائبه لا مثيل لها ولا يوجد ما يقابلها. فهي ممتازة من جهتين: أولاً إنها عديدة لا تحصى وثانياً إنها لا تقوّم أي لا يمكن أن يعطى لها قيمة مهما تكارمنا في العطاء والحمد والشكران (راجع أيوب ١٩: ١٨ و١٦: ٦ و٣٠: ٢٦ ومزمور ١٣٩: ٨).

(٦) يتعمق المرنم في فهم المعاني الروحية ويرى أن الأهمية ليست للذبيحة ولا للتقدمة بل أن نفتح آذاننا لقبول كلامه ونصغي إليه بانتباه. وهكذا يفسر معنى تخشعه أمام الله تعالى فهو لا يطلب منها ميل هذه العبادة الخارجية فيقسم العبادة إلى قسمين أولاً الأمور المادية فيها أي الذبيحة والتقدمة. ولكنه ثانياً يلتفت في العدد الثامن إلى القصد والنية ويرى مسرة الرب في عمل مشيئته وإن إتمام الشريعة هو في وضعها في أعماق القلب والسير بموجبها يوماً بعد يوم (انظر عاموس ٥: ٢١).

(٧) يقول «هأنذا جئت» يضع العبد نفسه تحت تصرف سيده (راجع سفر العدد ٢٢: ٣٨ و٢صموئيل ١٩: ٢١) أما درج الكتاب فيقصد كتاب الشريعة الذي يطوي وينشر حسب حاجة القراءة. وإنه مكتوب عنه أي ما يخص كل مؤمن لكي يتعلم منه ويستفيد لذلك فليس أننا متروكون لأنفسنا بل هنالك شريعة الله التي وضعت لهدايتنا وإرشادنا (راجع تثنية ٦: ٦ وقابل ذلك مع أمثال ٣: ٣ و٧: ٣) وهذه الفكرة يأخذها إرميا ويقول (إرميا ٣١: ٣٣) إنها العهد الجديد والشريعة الجديدة في القلب والحياة الداخلية.

(٨) ليكن مطلبنا مسرة الرب وعلينا أن نعرف مشيئته ونعملها. وحينما تكون شريعته في وسط أحشائنا تكون قريبة إلينا جداً فلا نبعد عنها أبداً ولا نهملها مهما تقلبت الظروف. وهنا يختم المرنم جوابه عن السؤال في العدد الخامس كيف أنه يعرف عجائب الرب ولا يستطيع عدها أو إحصاءها بل هي محفوظة في الإنسان الداخلي والتعبير عن عبادتنا هو ليس فقط بتقديم الذبائح وإقامة الطقوس.

«٩ بَشَّرْتُ بِبِرٍّ فِي جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ. هُوَذَا شَفَتَايَ لَمْ أَمْنَعْهُمَا. أَنْتَ يَا رَبُّ عَلِمْتَ. ١٠ لَمْ أَكْتُمْ عَدْلَكَ فِي وَسَطِ قَلْبِي. تَكَلَّمْتُ بِأَمَانَتِكَ وَخَلاَصِكَ. لَمْ أُخْفِ رَحْمَتَكَ وَحَقَّكَ عَنِ ٱلْجَمَاعَةِ ٱلْعَظِيمَةِ. ١١ أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَلاَ تَمْنَعْ رَأْفَتَكَ عَنِّي. تَنْصُرُنِي رَحْمَتُكَ وَحَقُّكَ دَائِماً. ١٢ لأَنَّ شُرُوراً لاَ تُحْصَى قَدِ ٱكْتَنَفَتْنِي. حَاقَتْ بِي آثَامِي وَلاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أُبْصِرَ. كَثُرَتْ أَكْثَرَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي وَقَلْبِي قَدْ تَرَكَنِي».

(٩) ولا يكتفي أن تكون الشريعة في الداخل محصورة فيه فقط بل هو يريد أن ينشرها على الناس ويبشر بها لأنها أخبار مفرحة والجميع يودون سماعها. لذلك بما لديه من موهبة الكلام وحسن الادعاء قد نشر الخبر وعممه إلى كل مكان ويستنجد أخيراً بأن الله عليم بكل شيء ولا يلزمه أن يردد ما فعله لأن الله يعلم حتى خفيات القلوب (انظر إرميا ١٥: ١٥) فهو لم يخف من الناس ولم يخجل منهم ولا سيما كما في العدد (١٠) إنه كان باستطاعته أن يكتم التعليم في قلبه وهكذا يهتم بخلاص نفسه فقط. ولكنه رأى الواجب يدعوه لكي يذيع أمانة الرب وخلاصه وإن عليه أيضاً أن يعرّف الجميع رحمته وحقه. إن الرحمة تبدأ بالخلاص حتى تنتهي بالحق حينئذ يصبح كاملاً لأن عدل الله وحقه يجب أن يتمما أيضاً.

(١١) إن الإنسان معرض في حياته على الأرض لكل المخاطر وهكذا لا يعيش بأمنٍ وسلام بدون رحمة الله ورأفته. يطلب النصرة الدائمة بواسطة رحمة الله وحقه كما أنه يفاخر في العدد السابق بأن يذيع هاتين السجيتين في الجماعة العظيمة. إذاً فمجاهرته أمام الناس بهما من قبل لا يمكن أن يتم نفعه ويحسن تأثيره بدون رأفة الله (انظر رومية ٨: ٣٢).

(١٢) يذكر إن مصائب عديدة قد انتابته وأحاطت به وإن آثامه قد أعمت بصره فلا يستطيع أن يرى وقد زادت بلاياه زيادة كبرى حتى أنها فاقت العدد. لا ندري ما هي الأخطاء التي يشير إليها ولا يذكرها صراحة (انظر تثنية ٢٨: ١٥ و٤٥) هو لا يستطيع أن يرى لأنه محصور من كل جانب ولذلك فلا تمتد عينه لسوى مسافة قصيرة وإذا بالطرف كليل معي (انظر ١صموئيل ٣: ٢ و٤: ١٥ و١ملوك ١٤: ٤) وقلبه قد تركه بمعنى أنه قد فقد شجاعته ولم يعد باستطاعته أن يحتمل بعد. لذلك فهو في يأس لا يرى مخرجاً من الورطة التي وقع فيها بغير عونٍ من السماء.

«١٣ اِرْتَضِ يَا رَبُّ بِأَنْ تُنَجِّيَنِي. يَا رَبُّ إِلَى مَعُونَتِي أَسْرِعْ. ١٤ لِيَخْزَ وَلْيَخْجَلْ مَعاً ٱلَّذِينَ يَطْلُبُونَ نَفْسِي لإِهْلاَكِهَا. لِيَرْتَدَّ إِلَى ٱلْوَرَاءِ وَلْيَخْزَ ٱلْمَسْرُورُونَ بِأَذِيَّتِي. ١٥ لِيَسْتَوْحِشْ مِنْ أَجْلِ خِزْيِهِمِ ٱلْقَائِلُونَ لِي: هَهْ هَهْ! ١٦ لِيَبْتَهِجْ وَيَفْرَحْ بِكَ جَمِيعُ طَالِبِيكَ. لِيَقُلْ أَبَداً مُحِبُّو خَلاَصِكَ: يَتَعَظَّمُ ٱلرَّبُّ. ١٧ أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَبَائِسٌ. ٱلرَّبُّ يَهْتَمُّ بِي. عَوْنِي وَمُنْقِذِي أَنْتَ. يَا إِلٰهِي لاَ تُبْطِئْ».

(١٣) في وسط هذه الآلام النفسية المبرحة التي ما دامت تهاجمه فهو بلا شك يعرف نفسه أنه خاطئ ويطلب الرحمة والرضا. يطلب نجاة من الورطة التي وقع فيها ويطلب عوناً سريعاً قبل فوات الأوان. هنا عمل الإيمان في النفس البشرية فإنه حينما تنتهي مساعينا ولا نرى مجالاً لخلاصنا نهرع لله وهو مستعد أن يساعدنا ولا يتخلى عنا أبداً.

(١٤) كما أنه يطلب لنفسه خلاصاً كذلك فهو يطلب الخزي والخجل للذين يحاولون هلاكه. هم يهاجمونه ولكن الله يردهم. يريدون السير للأمام ولكن الرب يرجعهم للوراء. إنهم قوم حسودون وبأفكار عالمية شريرة إذ هم يفرحون بما أصابه من ويل وأذى. يطلب إليهم أن يصيبهم الرعب الذي يشل حركتهم ويمنعهم عن اللحاق به ومطاردته. وهكذا يظل سائراً في طريقه لا يعبأ بهم ولا يبالي.

(١٥) هم يهزأون به ويقولون له كلام التحقير والإهانة ولكنهم هم الذين يستوحشون ويزداد خزيهم ويهرب عنهم الصديق والرفيق. ذلك لأنهم سينالون الجزاء العادل.

(١٦) قابل هذا العدد بما ورد في (مزمور ٣٥: ٢٧). يتمنى لجميع المؤمنين أن يفرحوا ويهتفوا بتعظيم اسم الرب وتمجيده لأنه مستحق لذلك. أولئك الهازئون قد نالوا الخزي والعار وأما المؤمنون فلهم المجد بإلههم الممجد ذلك لأن خلاصه موجود وسيتممه في حينه (٢تيموثاوس ٤: ٨). هو يعطي المجد كله لله أما للمؤمن فكما في (العدد ١٧) فهو مسكين وبائس هو ضعيف ولكنه يتكل على الكلي القدرة. هو ليس متروكاً طالما الله ذاته يهتم به ويرعاه. إذا كان أولئك الهازئون يستطيعون النيل من كرامته والاستهانة به فإنما ذلك لوقت قصير ينقضي ولا يبقى منه سوى التذكار. بالله العون وهو المنقذ وعمله سريع أسرع جداً مما نظن. وهكذا نرى أن هذا المزمور يبدأ بالحمد والشكران وينتهي بالدعاء والصلاة وهو انتقال لطيف لأن الصلاة الحقيقية هي تلك التي تصور حاجات الإنسان وكيف يسدها الله له في حينها.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى