سفر المزامير | 37 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّابِعُ وَٱلثَّلاَثُونَ
لِدَاوُدَ
«١ لاَ تَغَرْ مِنَ ٱلأَشْرَارِ وَلاَ تَحْسِدْ عُمَّالَ ٱلإِثْمِ، ٢ فَإِنَّهُمْ مِثْلَ ٱلْحَشِيشِ سَرِيعاً يُقْطَعُونَ، وَمِثْلَ ٱلْعُشْبِ ٱلأَخْضَرِ يَذْبُلُونَ. ٣ ٱتَّكِلْ عَلَى ٱلرَّبِّ وَٱفْعَلِ ٱلْخَيْرَ. ٱسْكُنِ ٱلأَرْضَ وَٱرْعَ ٱلأَمَانَةَ. ٤ وَتَلَذَّذْ بِٱلرَّبِّ فَيُعْطِيَكَ سُؤْلَ قَلْبِكَ. ٥ سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَٱتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي، ٦ وَيُخْرِجُ مِثْلَ ٱلنُّورِ بِرَّكَ وَحَقَّكَ مِثْلَ ٱلظَّهِيرَةِ».
هذا المزمور يمتاز على غيره من المزامير بأنه ليس فقط للعبادة بل هو للإرشاد والموعظة فيبحث عدداً من النقاط الهامة في حياة الإنسان ويتساءل كيف ينجح الأشرار ويزدهرون؟ ولكن هل هذا على الدوام أم ذلك إلى حين. وكان حسب الشريعة الموسوية أن البار وحده هو الذي يباركه الله ولكن وجد أمثلة عديدة خالفت هذه النظرية ولم تتمشّ عليها فلماذا؟
(١) ما أكثر الذين يغارون من الأشرار ويقتدون بهم ويتمنون أن يكونوا مثلهم بل نجدهم يحسبونهم في سعادة وصفاء بينما هم في تعاسة وشقاء. كذلك علينا أن لا نحسدهم مهما بلغوا من حالة البحبوحة والرخاء ذلك أنهم هم كذلك حسب الظاهر لا في الحقيقة والعاقل من نظر للحقائق وابتعد عن الظواهر.
(٢) والسبب الذي يقدمه المرنم لماذا لا نغار منهم ولا نحسدهم هو لأن الأشرار سيهلكون لا محالة. وحالة الأبرار هي بالعكس فإن ظاهرهم قد تكون التعاسة ولكن باطنهم سعادة وخير وسلام. وذلك لأن حالتهم هذه لا تعتمد على الظروف الخارجية بل على الإيمان الذي يمنح مثل هذه البركات في قلب الإنسان. فقيمة الأشرار كالحشيش الذي لا يعمّر طويلاً بل للفناء ومظهر نشاطهم يتبدل كالعشب الذي لا يطول أمره حتى يذبل.
(٣) بهذا العدد يبدأ سلسلة نصائحه الثمينة فأولاً عليه أن يتكل على الرب لأن منه كل خير وإحسان وبعد ذلك لا يستطيع إلا فعل الخير إذ تتغير طبيعته ويبدأ بحياة الصلاح وتكون النصيحة عندئذ أنه إذا سكن الأرض فمن واجبه أن يكون أميناً في كل شيء «كن أميناً إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة».
(٤) حينئذ يكون الرب أعظم لذته. إن خطأنا عظيم حينما نحسب أن الدنيا وما فيها يمكنها من لذاتها أن تملأ نفسنا وتشبعها والحقيقة عكس ذلك وعلينا فقط أن نشرب من الماء الحي (راجع يوحنا ٤: ١٤) وحينئذ فقط يمنحنا الله كفايتنا ويكمل جميع نقائصنا ونقول «الرب راعي فلا يعوزني شيء».
(٥) إيانا أن نحسب إننا نعرف الطريق للحياة الخالدة علينا أن نسترشد ونستهدي أولاً وذلك بأن نسلّم للرب طريقنا وهو قال «أنا هو الطريق…» الذين يذهبون مع أناس يعرفون الطريق يسلّمون لهم مطمئنين واثقين. علينا أن نفسح مجالاً لله فقط وهو عندئذ يدبر كافة أمورنا وفي حينها.
(٦) حينئذ يكون سيرنا أميناً منيراً كإنما كل وقت عندنا هو الظهيرة. إذاً علينا أن نسيّر حياتنا واثقين وحينئذ لا شيء يختفي. إن البر الذي نقدمه هو معنا للأبد ولا يستطيع أي الناس أن ينتزعه منا.
«٧ ٱنْتَظِرِ ٱلرَّبَّ وَٱصْبِرْ لَهُ، وَلاَ تَغَرْ مِنَ ٱلَّذِي يَنْجَحُ فِي طَرِيقِهِ، مِنَ ٱلرَّجُلِ ٱلْمُجْرِي مَكَايِدَ. ٨ كُفَّ عَنِ ٱلْغَضَبِ وَٱتْرُكِ ٱلسَّخَطَ وَلاَ تَغَرْ لِفِعْلِ ٱلشَّرِّ، ٩ لأَنَّ عَامِلِي ٱلشَّرِّ يُقْطَعُونَ، وَٱلَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ ٱلرَّبَّ هُمْ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ. ١٠ بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ يَكُونُ ٱلشِّرِّيرُ. تَطَّلِعُ فِي مَكَانِهِ فَلاَ يَكُونُ. ١١ أَمَّا ٱلْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ ٱلأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ ٱلسَّلاَمَةِ».
(٧) بعد أن أنهى مجمل النصائح في الأعداد الستة السابقة يعود الآن للتفصيل فأول ما يلفت إليه الأنظار هو أن لا نتسرع في أحكامنا ولا سيما في الأمور الأدبية فعلينا أن نصبر وننتظر. وقوله «لا تغر…» أي لا تحسد أحداً ولا سيما أولئك الذين ينجحون بسبب المكايد التي يصنعونها ولا يتهيبون أن يرتكبوا شروراً كثيرة في سبيل نيل مآربهم الشخصية.
(٨) نصيحته بعد ذلك أن لا نغضب ولا سيما من الأمور التي يرتبها الله لنا وهكذا لا نتذمر من أي شيء بل نكون واسعي النظر بعيدي المدارك لأن الأمور ليست بظواهرها. كذلك علينا أن نرى فعل الشر مما يجب أن نتجنبه لا أن نقتدي بأصحابه قط. كم من هموم ومتاعب تزول عنا بسرعة إذا سلّمنا أمورنا للرب وعرفنا أن الحق وحده يبقى.
(٩) هنا يعطي السبب لماذا علينا أن ننتظر الرب ولا نغضب ذلك لأن الشر وأصحابه إلى حين ثم يقطعون (راجع أيوب ٢٠: ٢٨) وبالعكس فإن المنتظرين الصابرين هم الذين يرثون كل بركة وخير (راجع يعقوب ٥: ٨ و٩) علينا أن نلطف من حدتنا ونخفف من غلوائنا لأن الله قريب وهو يستجيب دعاء عبيده ولا يرذلهم (فيلبي ٤: ٥).
(١٠) ليس فقط أن الأشرار يقطعون ويرمون جانباً بل تأتيهم الحياة بويلاتها ولا يثبتون قط. وهكذا ليس فقط أن شجرة حياتهم تقطع بل تأتيهم أنهار المصائب وتجرفهم جرفاً ولا تبقى شيئاً منهم (انظر مزمور ٧٣: ١٧) وكذلك (إشعياء ٢٩: ١٧ – ١٩).
(١١) هذه الفكرة يضعها السيد المسيح في موعظته على الجبل (متّى ٥: ٥). وهذه الوداعة هي التي تكتفي بالخير الذي يمنحه الله وتسعد بالشكران. وأصحابها هم الذين لا يتذمرون ولا يشكون من شيء ولا ينظرون للوجه الأسود بل دائماً يفسرون مصائب الحياة بما يشجع ويقوي وينشط. هم الذين عمرت قلوبهم بالإيمان وانشغلت أيديهم بأعمال الرحمة والإحسان. لذتهم أن يروا الآخرين في بحبوحة وأعظم الخير لديهم هو أن يجدوا كل إنسان في سلامة وخير. هم الذين لا يعرفون معنى الأنانية في حياتهم اليومية بل يعيشون بالرضاء والقبول ثم ينصرفون للعمل النافع لا يثنيهم عنه شيء لأن جهودهم لا يعيقها أي عائق ولذلك فخيرات الأرض تصل لأيديهم أخيراً وينعمون قانعين.
«١٢ ٱلشِّرِّيرُ يَتَفَكَّرُ ضِدَّ ٱلصِّدِّيقِ وَيُحَرِّقُ عَلَيْهِ أَسْنَانَهُ. ١٣ ٱلرَّبُّ يَضْحَكُ بِهِ لأَنَّهُ رَأَى أَنَّ يَوْمَهُ آتٍ! ١٤ ٱلأَشْرَارُ قَدْ سَلُّوا ٱلسَّيْفَ وَمَدُّوا قَوْسَهُمْ لِرَمْيِ ٱلْمِسْكِينِ وَٱلْفَقِيرِ، لِقَتْلِ ٱلْمُسْتَقِيمِ طَرِيقُهُمْ. ١٥ سَيْفُهُمْ يَدْخُلُ فِي قَلْبِهِمْ وَقِسِيُّهُمْ تَنْكَسِرُ. ١٦ اَلْقَلِيلُ ٱلَّذِي لِلصِّدِّيقِ خَيْرٌ مِنْ ثَرْوَةِ أَشْرَارٍ كَثِيرِينَ. ١٧ لأَنَّ سَوَاعِدَ ٱلأَشْرَارِ تَنْكَسِرُ، وَعَاضِدُ ٱلصِّدِّيقِينَ ٱلرَّبُّ».
(١٢) هو شرير هنا بفكره ولا نستخف بالفكر قط لأننا كثيراً ما نرتكب الأخطاء بعقولنا فقط وهذا يكفي. وقوله أنه يفتكر ضد الصديق لأنه يرى حياته غير شكل فبدلاً من أن يقتدي يضع خططاً للكيد منه لكي ينتقص من فضيلته ثم هو يحرّق الأسنان ويصر عليها دليل الحقد والغضب هو لا يتمنى فعل الخير ولكنه يحسد أعماله وهكذا يزيد تعاسته بنفسه لنفسه.
(١٣)كيف لا يضحك به الرب؟ وهو عارف القلوب ومختبر النوايا وفاحص الخفايا. و «يومه» هنا تعني يوم قصاصه ودينونته.
(١٤) إن هؤلاء الأشرار قوم عتاة ظالمون يفرضون إرادتهم على الصالحين والمستقيمين ويريدون أن يتمموا كل شيء بالبطش وقوة الأسلحة. لذلك فشجاعتهم غير الشجاعة الأدبية وسلاحهم يستعملونه ضد المساكين والضعفاء ولا يجرؤون على استعماله ضد الأقوياء. فهم والحق يقال جبناء ويظهر جبنهم حينما يحاولون قتل المستقيمين مع أنهم لم يسيئوا إليهم ولكن تلك هي نفوسهم الخبيثة التي تظهر الشجاعة فقط في غير أوقاتها.
(١٥) ولكن الله يظهر عدله بكل جلاء فهو لا يرضى بحالة تستمر هكذا بل هو الذي يرد كيدهم في نحرهم وأسلحتهم تتحطم ولا تفيدهم كما لا تخذل سواهم. فالأمر الهام ليس الأسلحة بل استعمالها وضد من تستعمل.
(١٦) إن الله يبارك الصديقين ويجعل من قليلهم كثيراً ومن حقيرهم عظيماً. بالعكس عن الأشرار فإن غضب الله ونقمته عليهم. لهم ثروة ولكنها غير مباركة لذلك لا تسعدهم شيئاً ولأنهم يضعون قلوبهم على غناهم فهم في تعاسة وشقاء دائمين (انظر أمثال ١٥: ١٦ و١٧ و١٦: ٨ و٢٨: ٦). إن ثروة الصالحين هي بمواعيد الله وبعلاقتهم المتينة بالمسيح (انظر غلاطية ٣: ٨) لأنه وارث لكل شيء لذلك يعطي جميع خائفي اسمه.
(١٧) ذلك لأن الأشرار يستعملون سواعدهم للضرر بدلاً من النفع ولأنهم يريدون أن يكسروا غيرهم فيكسرون هم أولاً وهذا حق عليهم لا لهم. وإنما الرب فيعضد الصديقين ويعينهم ويساعدهم ويقويهم. هم وإن ظهروا متروكين منه فالحقيقة غير متروكين أبداً. إن طغيان الشر وذويه سيعقبه هبوط وتأخر واضمحلال ولكن الصديقين ينتقلون من قوة إلى قوة ومن نعمة إلى نعمة أتم وأكمل.
«١٨ ٱلرَّبُّ عَارِفٌ أَيَّامَ ٱلْكَمَلَةِ، وَمِيرَاثُهُمْ إِلَى ٱلأَبَدِ يَكُونُ. ١٩ لاَ يُخْزَوْنَ فِي زَمَنِ ٱلسُّوءِ، وَفِي أَيَّامِ ٱلْجُوعِ يَشْبَعُونَ. ٢٠ لأَنَّ ٱلأَشْرَارَ يَهْلِكُونَ، وَأَعْدَاءُ ٱلرَّبِّ كَبَهَاءِ ٱلْمَرَاعِي. فَنُوا. كَٱلدُّخَانِ فَنُوا. ٢١ ٱلشِّرِّيرُ يَسْتَقْرِضُ وَلاَ يَفِي، أَمَّا ٱلصِّدِّيقُ فَيَتَرَأَّفُ وَيُعْطِي. ٢٢ لأَنَّ ٱلْمُبَارَكِينَ مِنْهُ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ، وَٱلْمَلْعُونِينَ مِنْهُ يُقْطَعُونَ. ٢٣ مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ تَتَثَبَّتُ خَطَوَاتُ ٱلإِنْسَانِ وَفِي طَرِيقِهِ يُسَرُّ».
(١٨) هو عارف أيامهم بمعنى حافظ لهم فلا يتركهم ولا يتخلى عنهم. وهم إذاً تحت عنايته الحنونة الدائمة. ولأنهم كذلك فهم لا يقطعون من الأرض وذكرهم لا يباد بل يحفظهم الرب ويحفظ ميراثهم فيبقى من جيل إلى جيل. إن الله يسر بهم ولذلك فذكرهم سيبقى إلى الأبد ولذلك فلا يجوز أن يحسدوا الأشرار أو يتشبهوا بعمال الإثم لأنهم أسعد منهم وأحسن حالاً.
(١٩) إن ديانتهم ليست سبب خزي لهم بل هي التي تعضدهم وتقويهم وهي التي يجب أن تشددهم لا سيما وقت السوء والشدائد لأن لهم التعزية والعضد. وإذا اجتاحت المجاعة بلادهم فهم لا يجوعون لأنهم يتكلون على الرب. ولا يجوز لهم أن يتذمروا من أي شيء مهما كان (إشعياء ٨: ٢١). عليهم أن يروا وراء ظواهر الأشياء ويتمتعوا بخلاص الرب (حبقوق ٣: ١٧ و١٨).
(٢٠) ذلك لأن الأشرار يبادون ويضمحلون ولا شيء من الخير يثبت عندهم. إن لذة الأشرار هي محاربة الفضيلة والبر وإذا عجزوا عن أن يفعلوا شيئاً يتحولون ضد الفاضلين والأبرار لكي ينتقموا منهم ويكيدوا لهم. ولكن بمساعيهم الشريرة لا يهلكون سوى أنفسهم ولا يضرون ضرراً حقيقياً سوى ذواتهم. «ذلك لأن الباغي أظلم». وعلى الباغي تدور الدوائر.
(٢١) هنا يعطي مقابلة بين معاملة الشرير والصديق. فالشرير يستقرض ولكنه لا يعطي مقابل ما يأخذه فهو واسع الذمة ولا يحترم الحق ولا يتمشى حسب القانون. وبالعكس فإن الصديق يعطي أكثر من الحق فهو يتساهل ويحسن مترأفاً كريماً حنوناً. لا يهمه ربح المال بل ربح النفوس (راجع أيوب ٦: ٨ – ١٤ وأمثال ٢٢: ٧).
(٢٢) ولكنهم (أي الأشرار) كلما تمادوا في غيهم كلما أصابتهم لعنة بعد لعنة حتى يبادوا ويقطعوا. وبينما الأبرار لهم البركة والنعمة ولهم الميراث إذ «كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله». في هذه الآية يفصل بين جماعتين ويجعل فريقاً غير شكلٍ عن الآخر وهم المباركون من جهة والملعونون من جهة أخرى.
(٢٣) ويقصد هنا «الإنسان» أي الإنسان الصالح الذي يسير في سبيل الله ويتمم مشيئته تعالى فهو غير متقلقل بل ثابت وهو يفرح فيما يتممه من أعمال وما يقوم به من واجبات لأن راحة الضمير ترافقه ورضا الله عليه ينير له الطريق فيمشي غير عاثر ولا يخاف أي الشرور. إن الله يعمل في قلب الإنسان الصالح بواسطة روحه الذي يرشد ويهدي لذلك تكون نتيجة حياته السعادة الكاملة والسرور.
«٢٤ إِذَا سَقَطَ لاَ يَنْطَرِحُ لأَنَّ ٱلرَّبَّ مُسْنِدٌ يَدَهُ. ٢٥ أَيْضاً كُنْتُ فَتىً وَقَدْ شِخْتُ وَلَمْ أَرَ صِدِّيقاً تُخُلِّيَ عَنْهُ وَلاَ ذُرِّيَّةً لَهُ تَلْتَمِسُ خُبْزاً. ٢٦ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ يَتَرَأَّفُ وَيُقْرِضُ وَنَسْلُهُ لِلْبَرَكَةِ. ٢٧ حِدْ عَنِ ٱلشَّرِّ وَٱفْعَلِ ٱلْخَيْرَ وَٱسْكُنْ إِلَى ٱلأَبَدِ. ٢٨ لأَنَّ ٱلرَّبَّ يُحِبُّ ٱلْحَقَّ وَلاَ يَتَخَلَّى عَنْ أَتْقِيَائِهِ. إِلَى ٱلأَبَدِ يُحْفَظُونَ. أَمَّا نَسْلُ ٱلأَشْرَارِ فَيَنْقَطِعُ. ٢٩ ٱلصِّدِّيقُونَ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ وَيَسْكُنُونَهَا إِلَى ٱلأَبَدِ».
(٢٤) إن الله يحفظنا من الانخذال الكامل. قد تأتينا التجارب ونزلق ولكن إيانا أن ننطرح كإنما قد قضي علينا ولا نستطيع النهوض بعد. لنعد إلى الله حالاً فهو الذي يعيننا على التوبة. وهو سندنا وعليه نتكل حتى لا نرتمي على الثرى. فقد تأتينا الأحزان والضيقات ونتجرب بشدة ونشعر أننا قد انحدرنا عميقاً ولكن علينا أن نعود لله حالاً بالتوبة وطلب الغفران وهو يسندنا فلا نفشل.
(٢٥) يسرد المرنم اختبار السنين فيذكرنا أنه كان فتى ومرّ بأدوار الحياة كلها وعلى السامع أن يضع هذا الاختبار في مقامه اللائق. نعم إن داود حينما كان هارباً من وجه شاول التجأ إلى أخيمالك الكاهن وأكل خبز التقدمة لأنه كان جائعاً خائفاً ولكنه حادث وقتي وبظرف معين ليس إلا. وما أثمن هذا الاختبار الذي يلقيه علينا (راجع فيلبي ١: ٢٩). إن الذين يفعلون الخير لا يندمون قط بل هم مباركون دائماً حتى إلى ذراريهم.
(٢٦) إن الأموال والخيرات التي وهبها الله لهم لا تنقص بالعطاء والإحسان بل تزيد وتتكاثر (أمثال ١١: ٢٤ – ٢٦) وأيضاً انظر (جامعة ١: ١ – ٦) إن عمله اليومي هو طلب الخير لا فرق عنده أجاءه الفقير في أول النهار أو آخره فهو مستعد دائماً أن يرحم الآخرين ويخفف آلام المتألمين. ولأنه ذلك فنسله مبارك أيضاً لأن أولاده يقتدون به وينسجون على منواله.
(٢٧) هذه نصيحة عامة حكيمة للغاية (راجع مزمور ٣٤: ١١ – ١٤). إن الحيدان عن الشر هو تجنب أسبابه وعدم التحرش بفاعليه حتى إذا قصد بعضهم أن يعتدوا علينا فمن الواجب أن لا نقابلهم بالمثل. إن واجبنا أن نفعل الخير لأن ذلك أبقى وأجدى وبهذه الواسطة نثبت للأبد ولا نتزعزع (راجع ١بطرس ١: ٣ – ٥).
(٢٨) إن الرب يحب الحق ويحب الذين يفعلونه ويجازيهم خيراً بدل كل أفعالهم. فهو يسهر على الأتقياء ويحفظهم وينجيهم من المخاطر وينذرهم. هم محفوظون لأنهم بعنايته وتحت ظل جناحيه يحتمون. وبالعكس فإن الأشرار نصيبهم الهلاك والدمار. وحفظه للأبرار ليس لوقت محدود بل للأبد (راجع ٢تيموثاوس ٤: ٤٨ ومزمور ١٢: ٧).
(٢٩) إذاً فالأبرار يربحون هذه الدنيا في نظره وبعد أن تنتهي حياتها يربحون الآخرة أيضاً. يكرر هذه الفكرة عن الودعاء والصديقين أنهم يرثون الأرض لذلك فلا خيبة حقيقية لهم على الإطلاق. وإنما عليهم أن ينتظروا ولا يعدموا صبراً مهما تقلبت الظروف والأحوال. وعلى كل فإن النتائج لا تظهر بسرعة كما أننا لا نأكل ثمرة الشجرة في اليوم الذي نغرسها فيه وهكذا علينا أن ننتظر ولا نفشل ولا نتراجع بل نعمل لله وفي سبيله تعالى.
«٣٠ فَمُ ٱلصِّدِّيقِ يَلْهَجُ بِٱلْحِكْمَةِ وَلِسَانُهُ يَنْطِقُ بِٱلْحَقِّ. ٣١ شَرِيعَةُ إِلٰهِهِ فِي قَلْبِهِ. لاَ تَتَقَلْقَلُ خَطَوَاتُهُ. ٣٢ ٱلشِّرِّيرُ يُرَاقِبُ ٱلصِّدِّيقَ مُحَاوِلاً أَنْ يُمِيتَهُ. ٣٣ ٱلرَّبُّ لاَ يَتْرُكُهُ فِي يَدِهِ، وَلاَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ عِنْدَ مُحَاكَمَتِهِ. ٣٤ ٱنْتَظِرِ ٱلرَّبَّ وَٱحْفَظْ طَرِيقَهُ فَيَرْفَعَكَ لِتَرِثَ ٱلأَرْضَ. إِلَى ٱنْقِرَاضِ ٱلأَشْرَارِ تَنْظُرُ».
(٣٠) يلهج أو يهذّ أي يتكلم باهتمام. وفي الأصل العبراني يفيد معنى التفكير أو التفكير بشكل كلام. هو شغوف بالحكمة فلا يثرثر بلا فائدة بل يتكلم قليلاً لأنه يفكر كثيراً. وهو شغوف بالحق وينطق به ويرى أن كل كلام بغير الحق لا يرضي الله تعالى ولا من شأنه أن يقوله.
(٣١) إن حياته الأدبية ثابتة ذلك لأن معرفته تمييزه بين الحق والباطل هو شيء يتناول القلب والإنسان الداخلي وليس فقط الأمور الظاهرة. إن الصديق بعرفه هو ذاك الذي يعتمد على شريعة الله فمشيئته يجب أن تخضع لمشيئة الله. وهذا العدد يتمم سابقه. فالصديق يتكلم ويفكر بالحكمة والحق مرتكزاً بذلك على قلب صالح مستقيم يستمد صلاحه من الله وشريعته (راجع إرميا ٣١: ٣٣ و٣٤ ورومية ٧: ٢٢ – ٢٥).
(٣٢ و٣٣) الشرير يراقب الصديق ويا للأسف ليس ليستفيد منه ويتكلم بل ليصطاده بالكلام ويوقعه وإن تمكن منه فلكي يميته. ذلك لأنه لا يهمه الحق بل يسعى وراء الباطل ولا يسعى في سبيل الصالح العام بل لأجل ذاته الشريرة وتكون النتيجة أنه بدلاً من أن يصل إلى غايته في إماتة البار لا يميت سوى نفسه أخيراً وهنا يظهر عدل الله فيه. وهذا معنى قوله «الرب لا يتركه في يده…» ولا يسمح له أن ينال منه المرام. ذلك لأن هذا الشرير ليس من صلاحيته أن يدين أحداً لا سيما أن البار نفسه لا يستطيع أن يدين البار فكم بالأحرى أن الشرير يدين البار؟ والله الذي وحده له الحق أن يدين العالمين فإنه حينما يأتي لدينونة البار فهو يبرره ويطلق سراحه ولا يحكم عليه بل يحكم له بنوال الجزاء العادل. إن الله ذاته يبررنا إذا كنا غير مذنبين. إن التهم الباطلة التي يتهم بها الأبرار سترمى جانباً ولن يكون لها أقل قيمة (راجع زكريا ٣: ١ و٢).
(٣٤) هنا يبدأ المرنم في تلخيص ما بدأ به فعلينا أن ننتظر ولا نتسرع في أي الأمور وهكذا نحفظ طريق الرب ونتميز خطوطها ومنعطفاتها جيداً وهكذا لا نبتعد عن الحظيرة ولا نضل السبيل إليها. لا يجوز لنا أن نحيد قيد شعرة عن الخطة المثلى المرسومة أمامنا. وحينئذ ولو سقطنا فإنه يرفعنا وينجح مساعينا وهكذا تكون النتيجة أن الأشرار وحدهم ينقرضون ويضمحلون بينما الصديقون ينالون رضا الله والنجاح الأكيد.
«٣٥ قَدْ رَأَيْتُ ٱلشِّرِّيرَ عَاتِياً، وَارِفاً مِثْلَ شَجَرَةٍ شَارِقَةٍ نَاضِرَةٍ. ٣٦ عَبَرَ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَٱلْتَمَسْتُهُ فَلَمْ يُوجَدْ. ٣٧ لاَحِظِ ٱلْكَامِلَ وَٱنْظُرِ ٱلْمُسْتَقِيمَ، فَإِنَّ ٱلْعَقِبَ لإِنْسَانِ ٱلسَّلاَمَةِ. ٣٨ أَمَّا ٱلأَشْرَارُ فَيُبَادُونَ جَمِيعاً. عَقِبُ ٱلأَشْرَارِ يَنْقَطِعُ. ٣٩ أَمَّا خَلاَصُ ٱلصِّدِّيقِينَ فَمِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ، حِصْنِهُمْ فِي زَمَانِ ٱلضِّيقِ. ٤٠ وَيُعِينُهُمُ ٱلرَّبُّ وَيُنَجِّيهِمْ. يُنْقِذُهُمْ مِنَ ٱلأَشْرَارِ وَيُخَلِّصُهُمْ، لأَنَّهُمُ ٱحْتَمُوا بِهِ».
(٣٥) قوله شجرة شارقة ناضرة وبالعبرانية (استراخ) وقد ذهب كثيرون من المفسرين أن معناها شجرة نابتة ونامية في أرضها. أما الترجمة السبعينية وترجمة الفولكت فتسميه الأرز ولكن في ترجمات أخرى فهي «Laurel» التي تزهو بالزهور في موسمها. والمعنى هو أن الشرير يظهر عظيماً وخطيراً ويحسب نفسه في نجاح وتقدم ولكن انتظر عليه قليلاً فترى ما يصيبه من اضمحلال وانخذال.
(٣٦) ذلك لأنه يعبر ويزول ولا يمكنه أن يثبت. وإذا تابعنا صورة الشجرة فهو لا يمكن أن ينقل من مكانه كبعض أنواع الأشجار التي تيبس حالاً إذا غرست في مكان آخر غير مكانها. إذاً فهذا الشرير يظهر بمظهر السؤدد والعظمة في البيئة الحقيرة التي يعيش فيها ولكنه متى قوبل مع الناس ذوي القيمة الحقة فهو لا شيء. يعبر ولا أحد يشعر بوجوده. حينئذ ينكشف أمره وتظهر حقيقته بل وينال جزاءه العادل لأن الباطل لا بد أن ينكشف.
(٣٧) ولكن هنا المقابلة التي يجب أن تقنعنا بالصواب. علينا أن نرى الفرق بالملاحظة فإن الإنسان الكامل المستقيم هو الذي تسلم جميع عواقبه أخيراً وتكون نتيجة مساعيه في سبيل رضا الله. ولكن هذا قد لا يظهر لأول وهلة فعلينا أن نلاحظ الأمور لأنفسنا لئلا يفوتها المعنى.
(٣٨) للأشرار نصيب محتوم قد كرره سابقاً ويكرره الآن وهو الهلاك ليس لهم وحدهم فقط بل للذرية التي تأتي بعدهم. وقد حكم عليهم هكذا لأنهم يقتدون بآبائهم الذين سبقوهم فكما حدث لأولئك يحدث لهؤلاء. وخلاصة القول أن الذي يسعى للسلام يناله أخيراً وأما الذي يسعى للخصام والشر فلا شك سيكون له عكس ذلك ولا يلم الشرير أحداً سوى نفسه.
(٣٩) وهنا ينسب فضل الخلاص ليس للبشر بل للرب. لذلك فهو خلاص أكيد كامل وبلطفه تعالى وفي الظرف الذي يعينه ويريده. وقوله «حصنهم» كان الأفضل أن يترجمها «ملاذهم» أي المكان الذي يلجأون إليه وبه يحتمون. هو الذي يعطيهم الخلاص ولا يؤخره قط.
(٤٠) فهو لا يكتفي أن يساعد ويعين بل يساعد إلى التمام حتى يكمل النجاة ولا يبقى شيء من آثار الخوف. وهو يفعل ذلك لأن هؤلاء المحتمين الصالحين يلجأون إليه. وأعظم فضيلة في الشرق عند العرب حتى اليوم أن يجير الإنسان مستجيراً فمن الواجب هي الإجارة والله فعل ذلك لكي يظهر حقه ضد أي باطل. فهو إله بار ولا يرضى إلا أن يسود البر وحده أخيراً.
السابق |
التالي |