سفر المزامير

سفر المزامير | 36 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّادِسُ وَٱلثَّلاَثُونَ

لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِعَبْدِ ٱلرَّبِّ دَاوُدَ

«١ نَأْمَةُ مَعْصِيَةِ ٱلشِّرِّيرِ فِي دَاخِلِ قَلْبِي أَنْ لَيْسَ خَوْفُ ٱللّٰهِ أَمَامَ عَيْنَيْهِ. ٢ لأَنَّهُ مَلَّقَ نَفْسَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ وِجْدَانِ إِثْمِهِ وَبُغْضِهِ. ٣ كَلاَمُ فَمِهِ إِثْمٌ وَغِشٌّ. كَفَّ عَنِ ٱلتَّعَقُّلِ، عَنْ عَمَلِ ٱلْخَيْرِ. ٤ يَتَفَكَّرُ بِٱلإِثْمِ عَلَى مَضْجَعِهِ. يَقِفُ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ صَالِحٍ. لاَ يَرْفُضُ ٱلشَّرَّ. ٥ يَا رَبُّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ رَحْمَتُكَ. أَمَانَتُكَ إِلَى ٱلْغَمَامِ. ٦ عَدْلُكَ مِثْلُ جِبَالِ ٱللّٰهِ، وَأَحْكَامُكَ لُجَّةٌ عَظِيمَةٌ. ٱلنَّاسَ وَٱلْبَهَائِمَ تُخَلِّصُ يَا رَبُّ».

غير أكيد تماماً متى كتب داود هذا المزمور وما هو الداعي لكتابته. قد يكون في أيام اضطهاد شاول له أو في أيام أبشالوم. وهو يظهر لنا أن لا يفتخر الشرير بشره بل على الصديقين أن يبغضوا الخطيئة ويبتعدوا عنها لينالوا بركة الرب وعلينا نحن أن نرنم هذا المزمور بغبطة وشكران. يضع عنوان المزمور «عبد الرب» ولا يوجد مثل هذا العنوان إلا في المزمور الثامن عشر ولا ندري تماماً لماذا يذكره. قد يكون لأنه خدم الرب في أيامه بصورة أتم وأكمل من أي إنسان آخر. في هذا المزمور وصف بليغ للشر والأشرار. بل يقتلع الشر هنا من أصوله ويرينا إياه.

(١) إن الشرير لم يصرّح علناً ضد خوف الرب والنأمة هي كلام بانين ولكنه أوحاها سراً للذين عرفوا معنى الورع أو لم يعرفوه. والترجمة اليسوعية تقول «للمنافق كلام معصية في باطن قلبه فإن مخافة الله ليست أمام عينيه». وأعتقد أن هذه الترجمة أصحّ وإن تكن تلك حرفية أكثر.

(٢) وهذا الشرير يخادع نفسه ويموّه عنها الحقائق «حتى لا يجد إثمه ممقوتاً في عينيه». إن الشرير وهو يتوغل في شره يريد أن يقنع ذاته أن حالته لا بأس بها وكلما ابتعد عن طريق الصواب كلما حسب نفسه أنه على حق.

(٣) بعد أن ذكر في العددين السابقين نبع الشر وأصله في الشرير يتحول الآن ليصف النتائج وإذا كلامه كذب وخداع وإذا أعماله بعيدة عن الخير لا يهمه إن صدق أو كذب إن خان العهود أو حافظ عليها. ولأن الشرير يخادع نفسه وهي التي يجب أن تكون أثمن شيء عليه لا عجب إن خادع الآخرين.

(٤) لأنه ترك الصلاح فهو يتفكر في عمل الإثم. ويبدأ تفكيره حينما يكون بعيداً عن الناس. لأن الشر يبدأ في القلب والنية قبل أن يظهر للعيان. واقترافه عندئذ عن سابق قصد وتصميم هو أفظع جداً من الطفرة والتسرع وبدلاً من أن ينصرف للصلاة والتأملات الروحية ينصرف للشر والأذية.

(٥ و٦) هنا ينظر نظرة ثانية فكما كانت الأولى كريهة وبغيضة هوذا نظرته الثانية لطيفة ومحيية. لقد يئس من الإنسان فنظر إلى الله. لقد سئم أن ينظر للأسفل فرفع بصره للسموات. فرأى رحمة الله ورأى أمانته. ثم نظر للجبال الراسخة فوجد فيها برهاناً قاطعاً أن عدل الله لا يزال موجوداً فلكي يتقوى ويتشجع كما أن أحكامه تعالى لا تدرك لعمق معانيها. وإنما يدله الاختبار أن الله يخلص الجميع من ناس وبهائم.

«٧ مَا أَكْرَمَ رَحْمَتَكَ يَا اَللّٰهُ، فَبَنُو ٱلْبَشَرِ فِي ظِلِّ جَنَاحَيْكَ يَحْتَمُونَ. ٨ يَرْوُونَ مِنْ دَسَمِ بَيْتِكَ وَمِنْ نَهْرِ نِعَمِكَ تَسْقِيهِمْ. ٩ لأَنَّ عِنْدَكَ يَنْبُوعَ ٱلْحَيَاةِ. بِنُورِكَ نَرَى نُوراً. ١٠ أَدِمْ رَحْمَتَكَ لِلَّذِينَ يَعْرِفُونَكَ وَعَدْلَكَ لِلْمُسْتَقِيمِي ٱلْقَلْبِ. ١١ لاَ تَأْتِنِي رِجْلُ ٱلْكِبْرِيَاءِ، وَيَدُ ٱلأَشْرَارِ لاَ تُزَحْزِحْنِي. ١٢ هُنَاكَ سَقَطَ فَاعِلُو ٱلإِثْمِ. دُحِرُوا فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا ٱلْقِيَامَ».

(٧) يتأكد المرنم أن كل البر والخير هما من الله (راجع هوشع ٤: ١ وإشعياء ٥: ٧) ولكنه يلتفت هنا ليخبرنا عن عناية رحمته. إن رحمته كريمة لا تحاسب على نسبة ما نحن بل على نسبة الله وما عنده. وهنا يشبه حمايته كإنما في ظل الأجنحة الأبدية (راجع راعوث ٢: ١٢) فإن الذين يلتمسون حماية الله لا يخيبون أبداً. ولا شك أن الذين لا يفهمون عنايته تعالى لم يتعرفوا عليه بعد ولم يعيشوا به أبداً.

(٨) إنهم بالله يمتلأون إذ لهم الرواء من خيرات الله ولا تعطش نفوسهم لأن نعمه دائمة الانسكاب عليهم. نعم إن النفس التي تطلب بركات الله لا تطلب شيئاً أتم وأكمل منه تعالى. ولأن كفايتهم بالله فقط لذلك إذا لم يكن لهم جميع بركاته. لا يهتمون كثيراً (راجع ٤: ١٨). فنكبّر أوعيتنا لكي تستطيع أن تسع أكثر فأكثر (رؤيا ٢٢: ١) ونرى نهر الله.

(٩) لأن الله نبع حياتنا لذلك فسعادتنا تتوقف على نسبة ما نرتوي منه. علينا أن نتصل به لكي ننال البركات. فلا يكفي أن يكون حوض الماء إذا لم تمتد إليه الأنابيب والأقنية لكي تأخذ منه وهكذا تتوزع المياه. «بنورك نرى نوراً» أي نستطيع أن نفهم على نسبة ما تسمح لنا به لذلك فحدود فهمنا أن نقبل نورك المشرق علينا من العلاء ولا نقفل عليه قط. ذلك النور الذي يناسبنا ويكفي تطلعنا للأفضل (راجع ١كورنثوس ١٣: ١٢ و١يوحنا ٣: ٢).

(١٠) لذلك يلتمس دوام الرحمة عليه لأنه يعرف الله وأما الذين لا يعرفونه فمع أنهم ينالون الرحمة ولكنهم لا يقدرون قيمتها ولا يفهمون معناها. وفي الوقت ذاته يلتمس أن ينال الصديقون ما ناله هو أيضاً. وهكذا يطلب العدل للذين يفهمون العدل والاستقامة. وهذا الدوام هو كالنبع الفياض الذي لا ينضب معينه بل يجري باستمرار.

(١١) ثم يعود إلى نفسه فيلتمس أن لا تكون له رجل تزلق بالكبرياء بل يطلب أن لا تكون أي يد للأشرار ممتدة إليه لكي تثنيه عن عزمه أو تبعده عن صلاحه لئلا يكون له جزاء الأشرار مثلهم.

(١٢) ويختم مؤكداً أن الأشرار سيسقطون. إنهم لا يستطيعون أن يربحوا المعركة الأخيرة قد يربحون معارك جمة وينجحون ولكن إلى حين. نعم نحن لا نفرح بسقوط الأشرار ولا نشمت بهم ولكن هذا لا ينفي تلك الحقيقة التي لا يجوز أن تغرب عن بالنا أن الشر والأشرار لا شك سيندحرون أخيراً ولا يبقى سوى الخير الذي من الله.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى