سفر المزامير | 94 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلرَّابِعُ وَٱلتِّسْعُونَ
«١ يَا إِلٰهَ ٱلنَّقَمَاتِ، يَا رَبُّ يَا إِلٰهَ ٱلنَّقَمَاتِ أَشْرِقِ. ٢ ٱرْتَفِعْ يَا دَيَّانَ ٱلأَرْضِ. جَازِ صَنِيعَ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ. ٣ حَتَّى مَتَى ٱلْخُطَاةُ يَا رَبُّ، حَتَّى مَتَى ٱلْخُطَاةُ يَشْمَتُونَ؟».
في هذا المزمور صوت التعزية والسلوان في وسط الآلام المسببة عن اضطهاد المستبدين فيلتفت المرنم إلى مصدر كل تعزية ويقول يا إله النقمات يا رب… وهو متقارب المبنى والمعنى للمزمورين السابقين الثاني والتسعين والثالث والتسعين وهو مكتوب بلا شك بعد عصر داود بزمان طويل ولذلك يتبع نسق آساف وداود من جهة سبكه للمعاني. ويرجح أنه كتب قبيل العصر المكابي أي في أواخر العصر الفارسي حينما كتبت أيضاً بعض أسفار الحكمة كالجامعة مثلاً.
(١ – ٣) يطلب المرنم من الله أن يضع حداً لتصلف الأمم العاتية التي لا تخاف الله ولا تمشي بحسب وصاياه. تلك الأمم ذات الآلهة الغريبة التي أهانت شعب الله مدة الأجيال الطويلة وظهر أن الرب لم يهتم بخاصته بل تركهم في أيدي المغتصبين والظالمين. يطلب أن يشرق على الشعب بقدرته مرة ثانية والسبب في ذلك هو لكي يدين وينتقم من أولئك الذين قد تكبروا على الله ولم يرعوا حرمة لأحد.
وأما ارتفاع الرب هنا فمعناه أن يشرف على أعمال الناس وينظر إليهم جميعاً وهكذا يستطيع أن يحاربهم على شر أفعالهم. أولئك هم المتكبرون القساة الذين يستحقون أشد القصاص لقاء ما جنته أيديهم. قد يترك الله الأشرار إلى حين ولا يجازيهم ولكنه في وقت مناسب سوف يدعوهم لتأدية الحساب. وحسابهم هذا ليس من الضروري أن يكون يوم الحشر بل قد يكون حسابهم في هذا الزمان الحاضر. وأما حجة المرنم فهي لأن هؤلاء الخطاة يشمتون بالأتقياء ويهزأون بهم. وهكذا فهو يطلب أن يضع الله حداً لهذه المهازل القاسية التي يقومون بها لكي يرعووا عن غيّهم.
«٤ يُبِقُّونَ، يَتَكَلَّمُونَ بِوَقَاحَةٍ. كُلُّ فَاعِلِي ٱلإِثْمِ يَفْتَخِرُونَ. ٥ يَسْحَقُونَ شَعْبَكَ يَا رَبُّ وَيُذِلُّونَ مِيرَاثَكَ. ٦ يَقْتُلُونَ ٱلأَرْمَلَةَ وَٱلْغَرِيبَ وَيُمِيتُونَ ٱلْيَتِيمَ. ٧ وَيَقُولُونَ: ٱلرَّبُّ لاَ يُبْصِرُ، وَإِلٰهُ يَعْقُوبَ لاَ يُلاَحِظُ. ٨ اِفْهَمُوا أَيُّهَا ٱلْبُلَدَاءُ فِي ٱلشَّعْبِ، وَيَا جُهَلاَءُ مَتَى تَعْقِلُونَ؟».
(٤ – ٧) يتابع المرنم كلامه ويصف هؤلاء الناس الثرثارين الذين يتكلمون مستكبرين ولا يخافون الله ولا يحاسبون ضمائرهم. كلامهم هو دليل حياتهم السطحية الفارغة من الإيمان والتقوى. لهم ألسنة ولا يلجمونها بل يتركون لها العنان بلا قيد ولا شرط. ما يخطر في بالهم يقولونه ولا ينتظرون من أحد أن يحاسبهم على ما يقولون. هو كلام الوقاحة الذي لا يحترم كبيراً ولا يعطف على صغير. لأنه صادر من أناس يرتكبون الإثم ولا يؤدون عن أي شيء حساباً.
هم أناس يسحقون الصديقين سحقاً ويسببون ذلاً وهواناً لأتقياء الله. بل يتمادون في قبائحهم حتى يقتلون الأرملة والغريب ولا يعرفون معنى للحنان. فإذا كان الإنسان لا يشفق على مثل هؤلاء المساكين الضعفاء فعلى من يشفق يا ترى؟ وإذا كان هؤلاء العتاة لا يرحمون أحق الناس بالرحمة فمن يرحمون يا ترى؟
وفي الوقت ذاته هم يزعمون أنهم في حل أكيد مما يقترفون ذلك لأنهم يحسبون أن الرب لا يراهم ولا يدري حالتهم وهكذا يتخذون هذا الوهم حجة فارغة للتمادي. وتتراكم آثامهم وخطاياهم واحدة بعد أخرى.
(٨) والآن يلتفت المرنم من هؤلاء المغتصبين الظالمين. من الطغاة الفظيعين الذين لا يعرفون الله. ويخاطب شعب إسرائيل نفسه وليس الشعوب الغريبة يريدهم أن يفهموا أكثر ولا يبلدوا أفكارهم ولا يعموا بصائرهم. لأن الإنسان مطالب بأن يفهم بعد هذه الحوادث الجسام والدروس القاسية التي ألقيت عليهم فهل تعلموها؟ ومتى يفعلون؟
«٩ ٱلْغَارِسُ ٱلأُذُنَ أَلاَ يَسْمَعُ؟ ٱلصَّانِعُ ٱلْعَيْنَ أَلاَ يُبْصِرُ؟ ١٠ ٱلْمُؤَدِّبُ ٱلأُمَمَ أَلاَ يُبَكِّتُ؟ ٱلْمُعَلِّمُ ٱلإِنْسَانَ مَعْرِفَةً. ١١ ٱلرَّبُّ يَعْرِفُ أَفْكَارَ ٱلإِنْسَانِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ. ١٢ طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي تُؤَدِّبُهُ يَا رَبُّ وَتُعَلِّمُهُ مِنْ شَرِيعَتِكَ ١٣ لِتُرِيحَهُ مِنْ أَيَّامِ ٱلشَّرِّ حَتَّى تُحْفَرَ لِلشِّرِّيرِ حُفْرَةٌ».
(٩ – ١١) إن شعب الله أخذ يشك في الانتقام أو إنه انتظر عملاً من الرب فلم يحصل وهكذا تسرعوا بالاستنتاج وحسبوا أن الله لا يجازي ولا يهمه أي أمر من الأمور. وهنا يقول المرنم موبخاً ومبيناً أن موقف هؤلاء الناس لم يكن حكيماً إذ كيف يعقل أن الخالق الذي صنع الأذن لا يسمع هو نفسه. ذاك الإله البار الحكيم القدوس الذي يؤدب الأمم ويقاص الجميع أفهل يعقل أنه ترك هذه المهمة وأهملها جانباً أما أن الذي يعرف كل شيء هل يعقل أن يعوزه شيء من المعرفة عن الناس الأقربين (انظر لاويين ١١: ٧) وكذلك قابل هذا مع (خروج ٤: ١١). ولكن الله يعرف كل أفكار الإنسان وإنما يطيل أناته عليه ويرحمه.
(١٢ – ١٣) ولكن هنيئاً للذي يقبل تأديب الرب وحينئذ يفهم دروس الحياة فلا يتذمر من قسوة ما مر عليه بل يرى يد الله القديرة ممدودة لعونه وإرشاده. وهكذا ينصرف هذا الإنسان لكي يدرس شريعة الرب ويفهم منها ما يريد الله أن يقوله لشعبه. طوبى للإنسان الذي يفهم التأديب وليس الذي يناله لأنه إذا نال التأديب ولم يفهم فلا يكون أي فائدة من وراء ذلك. إن الأهمية هو لقبول التأديب أي نصبح متأدبين مهذبين بالحق (انظر أيوب ٥: ١٧ وقابله أمثال ٣: ١١ وما بعده). هذا هو طريق التأديب فإنه يجب أن يعذبنا قليلاً لنستفيد كثيراً (راجع تثنية ٨: ٥ وإرميا ٤٩: ٢٣ وإشعياء ٣٠: ١٥).
وهكذا ينال المؤمن راحة ولا يعود الشر يضيمه بأي شيء. وأما الشرير فيجد في هذه المصائب حفرة كبيرة يكاد يدفن في جوفها.
«١٤ لأَنَّ ٱلرَّبَّ لاَ يَرْفُضُ شَعْبَهُ وَلاَ يَتْرُكُ مِيرَاثَهُ. ١٥ لأَنَّهُ إِلَى ٱلْعَدْلِ يَرْجِعُ ٱلْقَضَاءُ وَعَلَى أَثَرِهِ كُلُّ مُسْتَقِيمِي ٱلْقُلُوبِ. ١٦ مَنْ يَقُومُ لِي عَلَى ٱلْمُسِيئِينَ؟ مَنْ يَقِفُ لِي ضِدَّ فَعَلَةِ ٱلإِثْمِ؟ ١٧ لَوْلاَ أَنَّ ٱلرَّبَّ مُعِينِي لَسَكَنَتْ نَفْسِي سَرِيعاً أَرْضَ ٱلسُّكُوتِ. ١٨ إِذْ قُلْتُ: قَدْ زَلَّتْ قَدَمِي فَرَحْمَتُكَ يَا رَبُّ تَعْضُدُنِي».
(١٤ و١٥) إذن ما مرّ على الشعب هو مجرد دروس قيمة مفيدة ألقيت عليه للتهذيب. لأن الله لا يرفض شعبه بل يؤدبهم ولا يتركهم جانباً بل يرعاهم ويقودهم. وعليه نجد أن المؤمن يرى يد الله عاملة في كل ما حوله ويعيش مطمئن الخاطر ناعم البال قرير العين وإن كانت الظروف الخارجية لا تبشره بخير كثير ولكن إيمانه القلبي يحوّل جميع ظروف الحياة إلى سلام وقوة.
ذلك لأن الله يحب العدل وما نجده من جور وظلم فهي أحكام وقتية هي كالظل العابر. ونستطيع ترجمة العدد ١٥ هكذا «ولكن يتحول ما هو صواب براً فيتبعه كل مستقيمي القلوب». وأما الترجمة اليسوعية فتقول «وسيعود القضاء إلى العدل ويتبع العدل جميع المستقيمي القلوب» وأعتقد أن المرنم يريد أن يقول للمؤمنين أن لا يخافوا شيئاً لأن الحكم بالعدل سيعم الجميع ويرجع البشر إليه. فإذا ظهر أنه لا يوجد عدل الآن فذلك لا يعني أن يستمر الحال هكذا بل سيتبدل كل شيء للمؤمنين.
(١٦ – ١٨) يتساءل المرنم ترى من الذي يعين على إجراء الحق واستتباب العدالة في كل مكان. ومن الذي يردع الأثمة عن إثمهم فيجيب نفسه حالاً ويقول ذلك هو الرب وحده لأنه لولا معونته لكانت نفسي في الهاوية ولا أبقى بين الأحياء (انظر إشعياء ١: ٩ وتكوين ٢٦: ١٠). أما أرض السكوت فهي الهاوية حيثما يجتمع الأموات ولا يستطيعون كلاماً ولا أن يسبحوا الله.
وهنا يستغفر الله على كل زلل مضى. فإذا كان قد عثر من قبل وسقط فإن رحمة الرب لا تتركه قط بل تعضده وتقويه وتسنده وتعينه وتنجيه. ذلك لأن هذا الإله رحيم غفور لا يريد موت الخاطئ بل توبته ورجوعه ثم حياته الكاملة مع الله.
«١٩ عِنْدَ كَثْرَةِ هُمُومِي فِي دَاخِلِي تَعْزِيَاتُكَ تُلَذِّذُ نَفْسِي. ٢٠ هَلْ يُعَاهِدُكَ كُرْسِيُّ ٱلْمَفَاسِدِ، ٱلْمُخْتَلِقُ إِثْماً عَلَى فَرِيضَةٍ؟ ٢١ يَزْدَحِمُونَ عَلَى نَفْسِ ٱلصِّدِّيقِ وَيَحْكُمُونَ عَلَى دَمٍ زَكِيٍّ. ٢٢ فَكَانَ ٱلرَّبُّ لِي صَرْحاً، وَإِلٰهِي صَخْرَةَ مَلْجَإِي ٢٣ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ إِثْمَهُمْ، وَبِشَرِّهِمْ يُفْنِيهِمْ. يُفْنِيهِمُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا».
(١٩) بل حينما تأتي أفكار الهموم والتعاسة والشقاء. ويصبح داخله يعج بالويلات والآلام فإن تعزيات الرب عندئذ تخفف عنه الأثقال وتزيل عن ظهره الأحمال. وقوله «تلذذ» وزن فعّل للتكثير وليس للتعدية فقط. أي إنه لدى كل مصيبة مهما عظمت فإن تعزية الرب تزيل آثارها المزعجة وتجعل بدلاً منها لذة وراحة. فمهما عظمت المصائب تصبح تعزيات الرب أوفر منها وأبعد أثراً.
(٢٠ – ٢٣) يتساءل هنا هل يمكن أن يكون للظلم أية خلطة مع أحكام الرب. لا سيما هل يرضى الرب بمن يختلق الإثم اختلاقاً وهو يحسب أنه يجري حكماً وقضاء للناس. ذلك لأن الناس الذين يوضعون على منصة الأحكام يطلب منهم أن يجروها بعدل وإنصاف أولئك الذين يأخذون قوة من كثرة المؤيدين المتألبين حولهم من أتباع وأنصار. ولكنهم بذلك فقط يحكمون على الأبرياء وبالتالي فإنهم سينالهم القصاص عاجلاً أم آجلاً. ولكن الرب لا يتخلى عن الملتجئين إليه لأنه برج قوة. ولأنه صخرة ملجأ للحماية والإنقاذ. وهكذا تكون النتيجة أن ما قصدوه من شر قد عاد عليهم أولاً. لأن على الباغي تدور الدوائر. والله العادل سوف يجازيهم على نسبة شرهم فلأنهم قد سببوا الشر فهم أول الساقطين فيه ومن حفر حفرة لأخيه وقع فيها. ويؤكد المرنم أخيراً هذا الجزاء العادل الذي سينالهم إذ سيفنيهم الرب لا محالة. وهكذا يختم المرنم هذا المزمور كما افتتحه بطلب الانتقام ولكنه يريده عادلاً وللمتقين فقط.
السابق |
التالي |