سفر المزامير | 76 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّادِسُ وَٱلسَّبْعُونَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ اَلأَوْتَارِ. مَزْمُورٌ لآسَافَ. تَسْبِيحَةٌ
«١ اَللّٰهُ مَعْرُوفٌ فِي يَهُوذَا. ٱسْمُهُ عَظِيمٌ فِي إِسْرَائِيلَ. ٢ كَانَتْ فِي سَالِيمَ مَظَلَّتُهُ، وَمَسْكَنُهُ فِي صِهْيَوْنَ».
هو مزمور حمد الله لأجل قضائه العادل على الشعوب والملوك. وهذا المزمور مع المزمور الخامس والسبعين سابقه يؤلفان وحدة متماسكة. إذ الأول ينبئ عن عدل الله وهذا الأخير يخبر كيف إن هذا العدل جار حكمه على العالم أجمع. وذكره لجبال السلب أي جبل عسير حيثما كانت تكثر عليه اللصوص وقطاع الطرق.
(١) إن اسم الله معروف في كلا يهوذا وإسرائيل فهو الإله القدير خالق السموات والأرض وعظمته لا حد لها ولا استقصاء. إذاً فكلتا المملكتين هما على دين واحد موروث عن الآباء والجدود ولا سيما فإن مملكة يهوذا وفيها أورشليم والهيكل العظيم لا شك كانت المركز الرئيسي لمثل هذه العبادة. واسمه عظيم بالنسبة لعظمة العجائب التي أتمها مع شعبه منذ القديم وإلى الآن. ولأن أورشليم هي ذات الأبواب الدهرية التي إذا انفتحت تنفتح لدخول الرب العظيم ملك المجد. ولأن الله يملك هناك لذلك فإن ملوكها هم أعظم الملوك أيضاً.
(٢) وأما ساليم فهي أورشليم نفسها باسمها القديم ليس إلا. حيثما كان ملكي صادق وحيثما كان أدوني صادق (يشوع ١٠: ١). في هذا العدد يستعمل المظلة وربما يكنى بها عن الخيمة أي حينما كانوا كالعرب الرحل يذهبون من مكان إلى آخر. وهذا إشارة إلى خيمة الاجتماع التي كان يوضع فيها تابوت العهد فيرافقهم الله من مكان إلى آخر. وقد بقيت هذه الخيمة وإن كانت قد استقرت بمركزها في أورشليم حتى أيام داود ولم يبن الهيكل إلا في أيام سليمان كما هو معلوم. والقصد من هذا أن الله إله إسرائيل قد رافق شعبه منذ القديم فسكن معهم في خيامهم كما أنه سكن معهم في الهيكل الذي أنشئ له بعد ذلك. فالشيء المهم أن الله هو مع شعبه لا يتركهم ولا يتخلى عنهم في أية الظروف والأحوال.
«٣ هُنَاكَ سَحَقَ ٱلْقِسِيَّ ٱلْبَارِقَةَ. ٱلْمِجَنَّ وَٱلسَّيْفَ وَٱلْقِتَالَ. سِلاَهْ. ٤ أَبْهَى أَنْتَ أَمْجَدُ مِنْ جِبَالِ ٱلسَّلَبِ. ٥ سُلِبَ أَشِدَّاءُ ٱلْقَلْبِ. نَامُوا سِنَتَهُمْ. كُلُّ رِجَالِ ٱلْبَأْسِ لَمْ يَجِدُوا أَيْدِيَهُمْ».
(٣) هنا يذكر السبب لماذا اسم الله عظيم ولماذا له هذا المجد والإكرام فيقول إن ذلك بالنسبة لأنه هناك ظهرت قوته العظيمة ومدى جبروته وسلطانه فقد سحق تلك السهام الطائرة في الهواء لكي تصل إلى قلوب الأعداء وهي تلمع من شدة بريقها لأنها مسنونة ومعدة للقتال. بل إن الله قد سحق المجن وبقية أنواع الأسلحة إذ لم يستطع الأعداء أن يصمدوا في وجه الرب الذي جاء لنجدة شعبه. وقوله «هناك» إشارة للمكان الذي جرى فيه كل هذا وهو الذي بعد حين مكان المجد والتكريم إذاً فتكريم اسم الله هو على نسبة فعله مع شعبه وما آتاهم به من نصر عظيم. وينهي الكلام بارتفاع الموسيقى لزيادة تمجيد اسم الله وتكريمه لأنه وحده يستحق السجود والعبادة إلى منتهى الدهور.
(٤) يقصد بجبال السلب هنا ربما الساكنين فيها أي المعتزين بقوتهم وجبروتهم أن سكان الجبال المعتادين على التغلب على الصعاب هم أشداء وأقوياء لا يهابون أحداً ولا يتورعون لدى أي الأعداء مهما عظم شأنهم. ولكن الله رب الجنود القدير هو أبهى منهم وأمجد وسلطانه يمتد إلى كل مكان وعلى البشر جميعهم أن يهابوا اسمه المجيد (راجع دانيال ٢: ٢٢ و١تيموثاوس ٦: ١٦). إن يهوه هو رب الجبال لذلك فهو يخضع جميع سكانها ويدوسهم تحت قدميه (إشعياء ١٠: ٣٤). والحق يقال لا شيء أبهى وأمجد من الجبال العالية المشرفة على كل ما حولها دليل السيادة والسلطان وهكذا فإن سكانها يعبزون بالأعالي.
(٥) هذا الإله القدير قد سلب أشداء القلوب والشجعان في القتال ولم يترك لهم مجالاً للافتخار بما لديهم من قوة وبطش. وهؤلاء الشجعان بدلاً من أن يواجهوا الخطر ويصدوه عنهم إذا بهم مدهوشون مما ألمّ بهم من ويلات فناموا نوم الاستكانة والضعف ولم ينهضوا. وكإنما لم يستطيعوا أن يحركوا أيديهم من هول ما يصادفون لأن الرعب الشديد قد تملكهم وهكذا شلت أيديهم عن أية حركة (انظر ناحوم ٣: ١٨). ربما هذه الأيدي كانوا قد رفعوها ضد أورشليم مهددين وإذا بها تقف عن الحركة (انظر يشوع ٨: ٢٠ و٢صموئيل ٧: ٢٧ كذلك راجع إشعياء ١٧: ١٣).
«٦ مِنِ ٱنْتِهَارِكَ يَا إِلٰهَ يَعْقُوبَ يُسَبَّخُ فَارِسٌ وَخَيْلٌ. ٧ أَنْتَ مَهُوبٌ أَنْتَ. فَمَنْ يَقِفُ قُدَّامَكَ حَالَ غَضَبِكَ؟ ٨ مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَسْمَعْتَ حُكْماً. ٱلأَرْضُ فَزِعَتْ وَسَكَتَتْ ٩ عِنْدَ قِيَامِ ٱللّٰهِ لِلْقَضَاءِ، لِتَخْلِيصِ كُلِّ وُدَعَاءِ ٱلأَرْضِ. سِلاَهْ».
حتى أن الحركة الحربية إذا انتهرها الرب لا تعود تستطيع حراكاً بل تقف في مكانها ولا تفيد في الحرب والصدام شيئاً. وهنا إشارة إلى ما ورد في (خروج ١٥ وكذلك إشعياء ٤٣: ١٧). وكانت الحركة الحربية عندئذ أعظم معدات القتال. فبعد أن ذكر أن اليد لا تستطيع أن تبدي حراكاً في وجه قوة الرب كذلك فإن أعظم مظاهر القوة الحربية لا تستطيع شيئاً وهكذا يهلك الفارس والفرس وتتحطم المركبة ومن فيها. وقوله يسبّخ أي يقع في السباخ والأمكنة الموحلة المزلقة ولا تخرج للمعركة إذ هي لا تقدر أن تجر نفسها فتفقد قوتها كلها.
(٧) إذا راجعنا ناحوم ١: ٦ نرى النبي هناك يستنتج النتيجة نفسها من اندحار سنحاريب وهكذا يستخلص المرنم أيضاً. ذلك بالنسبة لأن الله مخوف ومهوب فكم بالأحرى ساعة غضبه حينئذ كل القوات الأرضية يجب أن ترتعب أمام وجهه (قابل راعوث ٢: ٧ وإرمياء ٤٤: ١٨). وقوله غضب الرب هو من قبيل الاستعارة وإلباس الأمور الإلهية بالصور البشرية ليس إلا إذ حاشا لله أن يغضب كما يغضب البشر. ولكن المرنم يرينا كم يهتم الله بشعبه حتى أنه يحميهم من كل أذى ومن الأعداء الأشداء مهما عظموا.
(٨) إذاً فإن السماء ليست بعيدة عن الأرض وليس الله ليسكن السماء ويترك الأرض وسكانها يفعلون كما يشاؤون إذ له كل السلطان أن يتداخل في أي شأن من الشؤون ولا يستطيع أحد أن يقول له ماذا تفعل أو يعترض على أحكامه. وحينما يصدر الله حكمه إذا بالأرض كلها تفزع وترتعب وتهدأ ساكنة لا تبدي حراكاً ولا تحير جواباً طالما القدير يتكلم.
(٩) يعود المرنم للفكرة الأساسية أن الله يدين الأرض كلها وله الحكم والقضاء. وغايته من مداخلته هذه هي التخليص فإن الودعاء والمساكين لا يعود الظالمون يسحقونهم بأي ظلم ولا يستطيع المستعبد أن يتصرف كما يشاء طالما يوجد إله يحاسب أخيراً. وهنا ترتفع الموسيقى مرة أخرى والمعنى في ذلك لكي يطمئن كل إنسان للنتائج التي يتوقعها فإن العدل الأساسي للكل لا بد أن يجري وما علينا سوى التريث والانتظار (انظر إشعياء ٣٣: ١٠ و٣٣: ٢).
«١٠ لأَنَّ غَضَبَ ٱلإِنْسَانِ يَحْمَدُكَ. بَقِيَّةُ ٱلْغَضَبِ تَتَمَنْطَقُ بِهَا. ١١ اُنْذُرُوا وَأَوْفُوا لِلرَّبِّ إِلٰهِكُمْ يَا جَمِيعَ ٱلَّذِينَ حَوْلَهُ. لِيُقَدِّمُوا هَدِيَّةً لِلْمَهُوبِ. ١٢ يَقْطِفُ رُوحَ ٱلرُّؤَسَاءِ. هُوَ مَهُوبٌ لِمُلُوكِ ٱلأَرْضِ».
(١٠) إن غضب الإنسان يحمد الرب أي أنه يسبب مجداً للرب إذ لا يضطر الرب أن يبالي بمثل هذا الغضب فيعود على صاحبه بالويل وتكون النتيجة أن الله يتمجد بانخذال الإنسان الغضبان الذي لا يستطيع أن يفعل شيئاً ضد اسم الله. وحينئذ فإن غضب الرب يظل متقداً على ذلك الإنسان الذي يكون قد انطفأ غضبه ولم يفده شيئاً وإذا بالرب يجازي الإنسان على نسبة أفعاله الرديئة التي لا ترضيه تعالى. إذاً فزيادة الغضب هذه تكون واسطة لمجد الرب الذي يظهر قدرته وجبروته كديان عادل للعالمين.
(١١) هؤلاء الذين كانوا في ضيق ونذروا للرب نذوراً لأجل تخليصهم عليهم أن يوفوها. إذ لا يجوز أن يكون هناك نذور في أوقات الشدائد والضيقات ثم ننسى كأن لم يكن شيء. وهكذا فالمتدين بالحق هو الذي يذكر الرب في كل حين وليس على نسبة المصلحة الوقتية. فالديانة العميقة هي تلك التي لا تتغير مع الظروف ولا تتبدل في أية الأحوال. وهكذا من الواجب أن يقدموا عربون الشكر والاعتراف بالجميل لهذا المخلّص الذي نجا شعبه بواسطة هيبته وعظمته وسلطانه التي تخضع لها جميع الشعوب.
(١٢) ذلك لأنه هو المتسلط الحقيقي وحده فليس الرؤساء رؤساء إلا على نسبة ما يسمح به وإلا فهو يقبض أرواحهم ويعود بهم للعدم ولا يحسبون شيئاً. وهو الذي له كل الهيبة والوقار (إشعياء ٨: ١٣). وهوذا قضاء الله يجري على أشور وكوش (إشعياء ١٨). وكذلك فإتمام النبوءة (٢أخبار ٣٢: ٢٣). إن الله لا يرضى عن أي المتصلفين المتكبرين أو المستبدين الظالمين وبعد أن يغلب كل قوى الشر حينئذ تخضع كل الممالك للرب ولمسيحه.
السابق |
التالي |