سفر المزامير | 71 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلْحَادِي وَٱلسَّبْعُونَ
«١ بِكَ يَا رَبُّ ٱحْتَمَيْتُ فَلاَ أَخْزَى إِلَى ٱلدَّهْرِ. ٢ بِعَدْلِكَ نَجِّنِي وَأَنْقِذْنِي. أَمِلْ إِلَيَّ أُذُنَكَ وَخَلِّصْنِي. ٣ كُنْ لِي صَخْرَةَ مَلْجَإٍ أَدْخُلُهُ دَائِماً. أَمَرْتَ بِخَلاَصِي لأَنَّكَ صَخْرَتِي وَحِصْنِي».
هنا مزمور يبدأ مثل المزمور الحادي والثلاثين وينتهي مثل المزمور الخامس والثلاثين. وهو صدى لما ورد في مزامير قديمة سابقة رسخت في ذهن الناظم حتى قلدها في هذا المزمور والتي رأى حقائقها في اختباراته الروحية المتنوعة. ومع ذلك فإن للمزمور صفته الخاصة التي تتبع في شكل تعبيرها بما نسميه النسق الأرميائي (نسبة للنبي إرمياء). وهاك بعض البراهين التي تجعلنا نعتقد أنه مكتوب بقلم إرمياء: أولاً أنه يري علاقة بين المزامير القديمة وما جاء من حوادث حتى قبيل السبي. ثانياً يوجد فيه نسق خاص به يحيك الحوادث السابقة بتفسيرات خاصة امتاز إرمياء بمثل الأسلوب. ثالثاً ذكره الأوصاف التي تنطبق على حياة الاضطهاد التي قاساها إرمياء. كانت خدمة إرمياء مدة ثلاثين سنة أيام ملك صدقيا. ويظهر أنه كان للمرنم عظمة ونفوذ عندئذ (راجع عدد ٢١).
(١) يطلب لنفسه أول كل شيء حماية ولا يجدها إلا في الله الذي لا يتغير ولا يزول بينما جميع البشر يزولون. وما أجمل افتتاح الكلام على هذه الصورة لا سيما إذا صح نسبة كتابة هذا المزمور لما بعد السبي قليلاً وكانت أورشليم قد سقطت في أيدي الأعداء. فكما يظن أن كتابة المزمور ٦٩ كانت حينما سقطت بعض يهوذا وأحرقت بالنار وهكذا يتبعه هذا المزمور بصورة تاريخية.
(٢) فهو يطلب الإنقاذ بيد الله القديرة التي تعمل كل شيء بعدل وإنصاف. وهذا العدل هو بالنسبة لما يظهره الأعداء من قسوة وظلم وتعسف ففي حالة كهذه يهرع المرنم لكي يستنجد بقوة علوية تخلص شعب الله من فساد المفسدين. وهكذا فإن المرنم يطلب من الرب أن يصغي إليه كإنما لا أحد يعير كلامه أي إصغاء وحينئذ يزداد الألم الذي يخز في نفسه من جراء هذه الأفكار القاسية والويلات المتوالية حتى يشعر أن لا شيء من التعزية والسلام يصل إليه قط.
(٣) وإذا به هنا مرة أخرى يعود لفكرة الحماية كما في العدد الأول ويؤكد لنفسه أن الله وحده هو الملجأ والملاذ وفي قوله «ادخله» قد صور لنا ليس فقط مجرد صخرة يستظل بها ويحتمي بل مسكن له باب يدخل فيه ويحتمي. ودخوله دائم أي في أي وقت من أوقات الشدائد والمصائب وهناك يجد لنفسه خلاصاً أكيداً من جميع طالبي نفسه ليهلكوها. بل أن الله قد أمر بخلاصه ومن يستطيع أن يخالف أمر ملك الملوك ويعصاه.
«٤ يَا إِلٰهِي نَجِّنِي مِنْ يَدِ ٱلشِّرِّيرِ، مِنْ كَفِّ فَاعِلِ ٱلشَّرِّ وَٱلظَّالِمِ. ٥ لأَنَّكَ أَنْتَ رَجَائِي يَا سَيِّدِي ٱلرَّبَّ. مُتَّكَلِي مُنْذُ صِبَايَ. ٦ عَلَيْكَ ٱسْتَنَدْتُ مِنَ ٱلْبَطْنِ، وَأَنْتَ مُخْرِجِي مِنْ أَحْشَاءِ أُمِّي. بِكَ تَسْبِيحِي دَائِماً. ٧ صِرْتُ كَآيَةٍ لِكَثِيرِينَ. أَمَّا أَنْتَ فَمَلْجَإِي ٱلْقَوِيُّ».
(٤) يطلب النجاة هذه المرة من الأشرار وليس من الأعداء وذلك لأن هؤلاء الكلدانيين المحتلين لم يكونوا أعداء لإرمياء بل يطلب الحماية من بني جنسه الإسرائيليين الذين عاملوه أسوأ معاملة واحتمل منهم الاضطهاد الشديد بدل الإكرام لأنه كان سبب نجاة البقية الباقية منهم بل لو أنهم انتصحوا بنصائحه وتبعوا إرشاداته لم يكن وقع المصيبة عليهم شديداً مذكوراً. والمرنم يلجأ محتمياً من كف فاعل الشر أي الذي يقدم على الشر غير حاسب لما تأتي به العواقب. فهو شرير قاس متحجر القلب والضمير لا يخاف الله ولا يهاب إنساناً لذلك فهو مقضي عليه بالهلاك الأكيد.
(٥) ولكن هنا يظهر الإيمان العامل الذي يعطي رجاء وطيداً بالله الذي هو سيده أيضاً. لذلك فهو ليس فقط ملجأ أو باباً يدخله إلى حصن حصين بل هو شخص قوي له على المؤمن السيطرة التامة كما على ذاك الطاعة والخضوع. والشيء الجميل هنا هو أن هذه العلاقة ليست ابنة ساعتها ولا لأنه بسبب الضغط والاضطهاد فنلجأ لله عند ذلك ونتركه في الأوقات الأخرى بل هي علاقة وطيدة الأركان قديمة الأيام منذ وعيه الأول عرف الرب وتمسك به ولا يزال.
(٦) يل يذهب المرنم في ذلك بعيداً حتى يصل إلى منشأه الأول حينما كان في بطن أمه. هناك كان سنده فهو الذي أخرجه من الأحشاء وأعانه حتى أصبح ذا نفس حية فان رفيقه إذاً منذ البدء وإلى الآن. وإذا كان الأمر كذلك فمن الواجب أن يديم تسبيحه وتعظيمه بل يثبت تلك العلاقة القديمة ويستمر عليها فلا تزيدها الأيام والسنون سوى التوطد والتوثق.
(٧) إن كانت تلك هي علاقته الوطيدة مع الله فهي ليست كذلك مع الناس الآخرين الذين يرون فيه آية لسخريتهم يلوكونه بألسنتهم ويهزأون بأقواله ولا يصغون إليه ولا يستمعون إلى نصائحه. فإن الأكثرية من اليهود وقد ضلت السبيل وابتعدت عن الحق فبدلاً من أن يكون المرنم سبب خلاص وهداية لهم كان سبب دينونة لأنهم لم يرتدعوا ولم يطيعوه. ولكن ماذا يهمه؟ وهل يخاف منهم و يرجع؟ لا بل يستمر على ما هو فيه وليستمروا على ما هم فيه من ضلال وغواية. لأن ملجأه شديد قوي ويستطيع أن يحميه من مكايدهم دائماً (راجع ٢صموئيل ٢٢: ٣٣).
«٨ يَمْتَلِئُ فَمِي مِنْ تَسْبِيحِكَ، ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ مِنْ مَجْدِكَ. ٩ لاَ تَرْفُضْنِي فِي زَمَنِ ٱلشَّيْخُوخَةِ. لاَ تَتْرُكْنِي عِنْدَ فَنَاءِ قُوَّتِي. ١٠ لأَنَّ أَعْدَائِي تَقَاوَلُوا عَلَيَّ، وَٱلَّذِينَ يَرْصُدُونَ نَفْسِي تَآمَرُوا مَعاً ١١ قَائِلِينَ: إِنَّ ٱللّٰهَ قَدْ تَرَكَهُ. اِلْحَقُوهُ وَأَمْسِكُوهُ لأَنَّهُ لاَ مُنْقِذَ لَهُ. ١٢ يَا اَللّٰهُ لاَ تَبْعُدْ عَنِّي. يَا إِلٰهِي إِلَى مَعُونَتِي أَسْرِعْ».
(٨) هنا مظهر جميل من مظاهر الإيمان الحي. وإذا بفم المرنم يمتلئ حمداً وتسبيحاً بينما أولئك المضطهدون مملؤون بالخبث والمكر والأذية ويتكلمون بأقبح الكلام. وما أجمل هذا الالتفات من هؤلاء الأشرار إلى الله مما يسببونه من آلام ومتاعب إلى منابع سلامنا وطمأنينتنا وراحتنا وهكذا لا نخاف شراً وإن كنا نسير في وادي ظل الموت. وقد أشغل وقته بمجد الله لا بمجد ذاته أو الناس حوله لذلك فهو لا يخاف أحداً ولا يتملقه بل يخاف الله ويذيع مجده في كل وقت ومكان.
(٩) ولأنه كان لله تلك العلاقة المتينة به منذ الصبا لذلك فهو يلتمس العون بعد في زمن الضعف والشيخوخة وذهاب القوة واضمحلال النشاط. هنا صلاة شيخ تدخل إلى أعماق القلوب إذ أن صلاته ليست طلباً لعون الله على احتمال متاعب الشيخوخة وآلامها بل أن يبقى الله معه كما كان في زمن الصبا والشباب. فيقول لا ترفضني ولا تتركني الآن (راجع مزمور ٥١: ١٣ وإرميا ٧: ١٥). وهو على عتبة الشيخوخة كما يصلي أن لا يتركه متى أصبح قريباً من الموت ويستولي عليه تمام الضعف والفناء.
(١٠) يذكر نفسه بحوادث مرت عليه وكان له نجاة منها ويقول إن هؤلاء الأعداء الذين حقهم أن يكونوا أحسن الأصدقاء هؤلاء لا عمل لهم سوى التقاول والتآمر. فهم كالوحوش الكاسرة التي تترصد فريستها لتقع بها. فلا رحمة في قلوبهم ولا محبة ولا حنان. إذاً فالإساءة التي تأتي منهم هي عن سابق قصد وتصميم فهم يفعلون الشر ويأتون المنكر لأنهم قد نووا عليه من قبل ولا يرعوون. وهم عصبة من أشرار بتكتل ومقاصد سيئة يعملون معاً وليسوا أفراداً مستقلين وهكذا فبليته بهم أعظم جداً.
(١١) يدعون لأنفسهم أن الله لم يعد يرعاه ويهتم به قد تركه فعليه لا بأس إذا هرب منا فعلينا أن نلحق به ولا نرتد عنه حتى يقع بين أيدينا نفعل به كما نشاء حاسبين أن الله لا ينقذه فيما بعد.
(١٢) في هذا العدد يقتبس المرنم صلاة قديمة لداود يظهر أنها قد أصبحت على كل شفة ولسان (راجع مزمور ٢٢: ١٢ و٢٠ ومزمور ٤٠: ١٤ وقابلها مع مزمور ٧٠: ٢ ومزمور ٣٥: ٢٢ ومزمور ٣٨: ٢٢ وما يليه).
«١٣ لِيَخْزَ وَيَفْنَ مُخَاصِمُو نَفْسِي. لِيَلْبِسِ ٱلْعَارَ وَٱلْخَجَلَ ٱلْمُلْتَمِسُونَ لِي شَرّاً. ١٤ أَمَّا أَنَا فَأَرْجُو دَائِماً وَأَزِيدُ عَلَى كُلِّ تَسْبِيحِكَ. ١٥ فَمِي يُحَدِّثُ بِعَدْلِكَ، ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ بِخَلاَصِكَ، لأَنِّي لاَ أَعْرِفُ لَهَا أَعْدَاداً. ١٦ آتِي بِجَبَرُوتِ ٱلسَّيِّدِ ٱلرَّبِّ. أَذْكُرُ بِرَّكَ وَحْدَكَ».
(١٣) يطلب هؤلاء الأعداء أن يفشلوا فيما يضعونه من خطط بل ليكن نصيبهم الفناء والاضمحلال لأنهم ينوون الشرّ ولا يتراجعون عن إتمامه مهما كلفهم الأمر. بل أيضاً يطلب من الله أن يلبسهم العار فلا ينالون مقاصدهم السيئة بل ينفضح أمرهم ويعرفون بإثمهم فيهرب منهم الناس وينفرون لا لخوفهم منهم بل لاحتقارهم لهم وازدرائهم لأعمالهم الممقوتة. والفكر هنا يصل للأوج فبعد أن يقابل بين نفسه وبينهم ويظهر شدة الفرق يطلب الحماية بالنسبة لنواياه الطيبة كما يطلب الفضيحة والعار للأشرار.
(١٤) مرة أخرى يعود للرجاء ولا ينفك عنه أبداً وهذا الرجاء يزداد في قلبه شدة وقوة ويعبر عنه بالحمد والتسبيح لأنه لا يتذمر أبداً ولا يشكو سوى الله الذي لا يتخلى عن مراحمه له وإحسانه. ويظهر أن المرنم كان له مثل هذا الاختبار المرير من قبل. وكذلك قد قابل هذا الاختبار بعدم التذمر الكلي بل بروح التسليم والإذعان فكان له السلام الحقيقي الثابت.
(١٥) إن المرنم تجاه ما اختبره في الماضي من عظائم هوذا يحدث بعدل الله ومراحمه فهو لا يفتأ يفعل ذلك لا يكل ولا يني ولا يتراجع بل يصرف النهار كله بل النهار والليل أيضاً طالما هو في يقظة لكي يخبر الآخرين عن هذا الخلاص المتكرر الذي لا يعرف أعداد المرات التي ناله فيها (راجع مزمور ١٣٩: ١٧ و ما يليه). إن هذه البراهين الإلهية بمراحم الرب عديدة وثابتة (انظر مزمور ٤٠: ٦) ولأن هذه المراحم لا تعد بالنسبة لكثرتها كذلك فإن حمد الرب من أجلها يجب أن يكون مكرراً لا يحصى.
(١٦) ذلك لأنه يعتمد على جبروت الرب وقدرته غير المتناهية وهي في العبرانية بصورة الجمع أي مظاهر جبروته المتكررة فهي كسلسلة متصلة الحلقات (راجع مزمور ٢٠: ٧). وقوله آتي بِ أي أقدمها مثل براهين متتابعة وشواهد ناطقة بما صادفه في حياته من اختبارات روحية عميقة تثبت قدرة الله نحوه وعطفه عليه وعنايته التامة به. لأن هذه القدرة هي مملوءة بالبر والعدل أيضاً. وحينما يذكر الله يذكره وحده لأن لا شيء في الدنيا ولا أحد من الناس يستحق أن يذكر جنبه لأنه هو سبحانه مصدر النعم كلها فهو جواد على قدر ما هو جبار في إجراء ما يشاءه لهذه الكائنات جميعها.
«١٧ اَللّٰهُمَّ قَدْ عَلَّمْتَنِي مُنْذُ صِبَايَ، وَإِلَى ٱلآنَ أُخْبِرُ بِعَجَائِبِكَ. ١٨ وَأَيْضاً إِلَى ٱلشَّيْخُوخَةِ وَٱلشَّيْبِ يَا اَللّٰهُ لاَ تَتْرُكْنِي، حَتَّى أُخْبِرَ بِذِرَاعِكَ ٱلْجِيلَ ٱلْمُقْبِلَ، وَبِقُوَّتِكَ كُلَّ آتٍ. ١٩ وَبِرُّكَ إِلَى ٱلْعَلْيَاءِ يَا اَللّٰهُ ٱلَّذِي صَنَعْتَ ٱلْعَظَائِمَ. يَا اَللّٰهُ مَنْ مِثْلُكَ! ٢٠ أَنْتَ ٱلَّذِي أَرَيْتَنَا ضِيقَاتٍ كَثِيرَةً وَرَدِيئَةً، تَعُودُ فَتُحْيِينَا، وَمِنْ أَعْمَاقِ ٱلأَرْضِ تَعُودُ فَتُصْعِدُنَا».
(١٧) يعترف بأنه تلميذ عند قدمي الرب ويبدأ علمه منذ الصبا ويستمر كل الزمان. أي أنه منذ وعيه ومعرفته مميزاً بين الخير والشر قد أخذ يتعلم المثائل التي تلقى عليه فهي بعضها قد كان صعباً ثقيلاً وبعضها شاقاً عسر الفهم لأنه لم يكن ربما يفهم كل شيء ولكن مع مرور الزمان وتكرار الدروس قد رسخت حقائق في عقله حتى لا ينساها قط بل يخبر عنها حتى الآن. وهي عجائب أي أمور غير عادية قد اختبرها ويكنزها على الأيام والسنين (انظر مزمور ٢٥: ٤). وليس من الضروري أن تكون عجائب خارقة الطبيعة بل هي آيات ودلائل تشير إليه بدروس قيمة قد تعلمها ولا يريد أن ينساها أبداً.
(١٨) ومرة أخرى يطلب من الله أن لا يتركه في زمن الشيب والشيخوخة طالما له هذه الاختبارات القيمة على عقول الجيل الجديد ويلقيها دروساً تعلمها هو لكي يعلمها للآخرين أيضاً. لذلك فإن إطالة عمره ليس لمجرد أن يتمتع بلذة الحياة الدنيا بل ليخدم بها الآخرين ويقتادهم إلى أمور أعظم وأسمى. فهو يرى الجيل الجديد بدون حنكة واختبار وعليه أن يصغي إلى هذه النصائح الثمينة واختبارات الحياة التي مرت على هذه الشيخ الجليل فكما تعلم يريد أن يعلم ويفيد حتى يقبل الكثيرون لمعرفة الرب.
(١٩) كيف لا يفعل ذلك وموضوع كلامه هو الله ذاته بقدرته العجيبة وذراعه الممدودة للخلاص ومحبته الشاملة. إن بلاغة كلامنا وكثرته ووقعه يكون على نسبة الموضوع الذي نتكلم فيه والأشخاص الذين نعرفهم ونكرمهم ونريدهم أن يتعلموا. وهكذا فإن المرنم لديه بر الرب الواصل إلى السماء العلى ويملأ كل شيء بعظمته ومجده ومن مثله في الأرض أو في السماء؟ هو الذي صنع الأشياء الخطيرة وسيّر الحادثات بمقتضى حكمته غير المتناهية. لذلك فما على المرنم سوى أن يذيع هذا ويخبر به كل من يشاء.
(٢٠) نعم لقد سمح بخلال الأوقات الماضية بضيقات شديدة متنوعة. فإن قصده ليس التعذيب بل التهذيب فهو لا يسر بموت الخاطئ بل يريد له الحياة والنهضة على شرط أن ينهض أولاً لنفسه ويصلحها. لذلك فإن الله وإن سمح بسقوطنا ووصولنا إلى حافة الهلاك والموت حتى نكاد ندخل في جوف الهاوية إذا به يعود إلينا فيصعدنا مما نحن فيه وينتشلنا ويمنحنا حياة حقيقية كاملة. والمرنم لا يتكلم فقط عن اختباراته الشخصية بل هنا إشارة إلى ما أصاب الأمة كلها التي يتكلم بلسانها أيضاً فإن الله لن يتركنا قط بل يعود فيرحم بعد.
«٢١ تَزِيدُ عَظَمَتِي وَتَرْجِعُ فَتُعَزِّينِي. ٢٢ فَأَنَا أَيْضاً أَحْمَدُكَ بِرَبَابٍ، حَقَّكَ يَا إِلٰهِي. أُرَنِّمُ لَكَ بِٱلْعُودِ يَا قُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ. ٢٣ تَبْتَهِجُ شَفَتَايَ إِذْ أُرَنِّمُ لَكَ، وَنَفْسِي ٱلَّتِي فَدَيْتَهَا ٢٤ وَلِسَانِي أَيْضاً ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ يَلْهَجُ بِبِرِّكَ. لأَنَّهُ قَدْ خَزِيَ، لأَنَّهُ قَدْ خَجِلَ ٱلْمُلْتَمِسُونَ لِي شَرّاً».
(٢١) إنك يا الله سبب عظمتي الحقيقية وأنت وحدك تزيدها وترجع إليّ بالرجاء والتعزية وهنا أيضاً قد يفهم منه أن الله يعود فيرجع عظمة الأمة ويعطيها التعزية الكاملة الشاملة فلا تعود إلى أحزانها ومتاعبها فيما بعد. هنا يقرن الماضي بالحاضر بالمستقبل فكما كان لهم من قبل متاعب وضيقات إذا الحاضر يبسم لهم ويلوح المستقبل لامعاً زاهراً لأن الله حي ولا يتخلى عنهم إلى التمام.
(٢٢) والمرنم يستيقظ لواجبه تجاه حالة كهذه ولا يسكت عن الحمد والثناء فيأخذ ربابه بيده لينشد أناشيده العذبة الحلوة (قابل مع أيوب ٤٠: ١٤). ولا يغرب عن باله قط أن يذكر حق الله لأن ذلك هو موضوعه الأهم. بل ويستعمل العود أيضاً لكي يكمل التوازي في هذا البيت والقصد أنه يستعمل الآلات الموسيقية الدارجة المعروفة عنده أما حقيقة أو مجازاً والمهم أنه يحمد الرب قدوس إسرائيل إله الآباء والجدود الحي الموجود منذ الأزل وإلى الأبد لا يعتريه أي تغيير.
(٢٣) هذا العدد مأخوذ من (مزمور ٧٨: ٤١ ومزمور ٨٩: ١٩) وكلا المزمورين أقدم عهداً بلا شك من هذا المزمور الذي بين أيدينا بل وهو أقدم من سفر إشعياء الذي يستعمل هذا التعبير أي قدوس إسرائيل نحو ثلاثين مرة وأقدم من حبقوق الذي يستعمله مرة واحدة. أما إرمياء فيستعمله مرتين (انظر إرميا ١: ٢٩ و٤٠: ٥). وهنا يقول إن الشفتين واللسان كما القلب والضمير والنفس الداخلية جميعها تشترك بالحمد والثناء. لأن الفداء الذي قدمه الرب كان عظيماً بهذا المقدار حتى لا يسعه أن يسكت أو أن يمر بهذه الحوادث بعدم تمعن أو اكتراث.
(٢٤) وهذا اللسان الذي يشارك بالترنيم إنما يفعل شيئاً آخر إذ هو يلهج ببر الله بالكلام وليس بالغناء فقط. وهو منشغل بذلك اليوم كله على شكل دائم مستمر. لأن عظمة الله وقدرته وجبروته قد ظهرت مؤيدة بالبراهين القاطعة الواضحة التي لا تدع سبيلاً للشك والتخمين. وأما البشر هؤلاء الأعداء الذين أرادوا الحط من كرامته والاستخفاف بنصائحه وعدم الإصغاء بل أرادوا له الضرر والاذية إذا بهم الآن قد فشلوا فيما ذهبوا إليه وتراجعوا عن إتمام مقاصدهم الشريرة لأن الله معه وهو سيده الوحيد فماذا يفعل به البشر؟ أو ليس هذا من ثمار الإيمان المتطلع لله فقط؟
السابق |
التالي |