سفر المزامير

سفر المزامير | 58 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّامِنُ وَٱلْخَمْسُونَ

لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. عَلَى «لاَ تُهْلِكْ». لِدَاوُدَ. مُذَهَّبَةٌ

«١ أَحَقّاً بِٱلْحَقِّ ٱلأَخْرَسِ تَتَكَلَّمُونَ، بِٱلْمُسْتَقِيمَاتِ تَقْضُونَ يَا بَنِي آدَمَ؟ ٢ بَلْ بِٱلْقَلْبِ تَعْمَلُونَ شُرُوراً فِي ٱلأَرْضِ. ظُلْمَ أَيْدِيكُمْ تَزِنُونَ. ٣ زَاغَ ٱلأَشْرَارُ مِنَ ٱلرَّحِمِ. ضَلُّوا مِنَ ٱلْبَطْنِ، مُتَكَلِّمِينَ كَذِباً».

هذا المزمور هو صرخة الانتقام فبينما يقول المزمور السابق «أسنانهم أسنة ولسانهم سيف ماضٍ» إذا بهذا المزمور يقول «اللهم كسّر أسنانهم في أفواههم». ومما لا شك فيه أنه مزمور شديد اللهجة قاس لا يرحم ولا يشفق وهو يطلب لأعدائه العدل والانتقام. وكلماته هي أشبه بالرعد القاصف لا شيء من الهوادة فيها ولا اللين. وإن داود هذا الذي استطاع أن يكتب مزامير الحنان وطلب الرحمة يمكنه الآن أن يجازي أفكار عصره ويظهر الشدة والقوة ولا يتراجع أمام أعدائه مهما كلفه الأمر.

(١) ويترجم ديلتش هذا العدد بقوله:

هل أنتم بالحق يا أيها الآلهة تتكلمون بالبر؟

وهل أنتم بالعدل تدينون بني البشر؟

ويقول أيضاً إن الأوفق أن نترجمه «هل أنتم بالحق تملون علينا صمت البر؟». وقد يكون المعنى أنه يخاطب الناس ذوي المراتب السامية الذين لهم كالآلهة أن يقضوا بين الناس بالعدل والحق. وعلينا أن نراجع القرينة التاريخية فنرى أن أبشالوم وأتباعه قد استخدموا ادعاءهم إجراء العدل والإنصاف بين الناس لكي يربحوا إليهم قلوب الشعب. زاعمين أن سيدهم أبشالوم هو قسطاس العدل للجميع. لذلك فداود يخاطب هؤلاء المدعين كأنهم عادلون فوق عدل البشر هل هم بالحق يفعلون ذلك؟ وهل عدلهم بين الناس هو لأجل العدل ذاته وحسن القضاء ولوجه الله الكريم؟

(٢) ولكنه لا يطيل التساؤل ولا يترك أدنى شك في ذهن السامع بل حالاً يؤكد عكس ذلك فيظهرهم للملاء أنهم يتظاهرون بغير ما يضمرون. وهكذا فإن إتيانهم الفضل كان لغاية في نفس يعقوب! ومن قديم الزمان كان الميزان إشارة لإجراء العدل والإنصاف ولذلك قال عنهم «تزنون ظلم أيديكم». وما كان يحسبه الناس عدلاً لم يكن في الحقيقة سوى الظلم عينه.

(٣) إن هؤلاء الأشرار قد زاغوا منذ نشأتهم الأولى ولم ينفعهم التأديب شيئاً. وكان سبب ضلالهم الأعظم لما يطلبه الحق والواجب لأنه أي عقوق أعظم من أن يعق الابن أباه؟ وأي عذر أكبر من أن يغدر الإنسان بوالده ويتكلم عن صيته زوراً وبهتاناً.

«٤ لَهُمْ حُمَةٌ مِثْلُ حُمَةِ ٱلْحَيَّةِ. مِثْلُ ٱلصِّلِّ ٱلأَصَمِّ يَسُدُّ أُذُنَهُ، ٥ ٱلَّذِي لاَ يَسْتَمِعُ إِلَى صَوْتِ ٱلْحُواةِ ٱلرَّاقِينَ رُقَى حَكِيمٍ. ٦ اَللّٰهُمَّ كَسِّرْ أَسْنَانَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمِ. ٱهْشِمْ أَضْرَاسَ ٱلأَشْبَالِ يَا رَبُّ. ٧ لِيَذُوبُوا كَٱلْمَاءِ، لِيَذْهَبُوا. إِذَا فَوَّقَ سِهَامَهُ فَلْتَنْبُ».

(٤) مشهور عن الحية أنها عدو قديم للإنسان (راجع تكوين ٣: ١٥) ولذلك فالمرنم يشبه عداوة هؤلاء بالحية وبحمتها السامة القتالة. فبعد أن يلخص شر هؤلاء الأشرار بأنه كذب متأصل في القلب ولا شيء يذبله أو يخففه يعود إلى هذه العبارات الشديدة التي تتعاقب الواحدة بعد الأخرى كأنه النبال الشديدة ترمي هؤلاء الأعداء. وهم ليسوا في عداوة بسيطة إذ ليس كل الحيات سامة بل هم مثل أنحس أنواعها مثل الصل الذي لا يسمع ولأنهم هم لا يسمعون ولا يرعوون عن غيهم لذلك فقد هووا إلى دركات الشر والرذيلة. ويظهر أن المرنم يعتقد بأنه يوجد أناس أشرار بالطبع ولا شيء من القوى البشرية تردعهم عن غيهم بل كلما حاول المصلحون إصلاحهم ازدادوا شراً فهم مجرمون جناة لا قبل للناس باحتمالهم.

(٥) فهم لا يستمعون حتى إلى الحواة الراقين الذين لهم «النفثات» السحرية والذين يعرفون أصول الفن والحكمة وهذا دليل أنهم لا يقبلون أية نصيحة. أما الحواة حسب رأي الأقدمين فهم الذين يضعون العقد على ألسنة الحيّات فلا تعض وفي الوقت ذاته يفكونها متى شاءوا. وهكذا فلا المحبة العميقة ولا الحكمة البشرية يمكنهما أن تغيرا شيئاً من النوايا السيئة المتأصلة في القلوب الخبيثة. ولأنهم كذلك فلم يبق أمام داود إلا أن يتمنى زوالهم من الوجود ويصلي لله من أجل أن يفعل ذلك معهم.

(٦) لا شك أن هذا العدد شديد جداً ولا سيما أن يقوله والد على ولده! وهذا منتهى الشقاء والمرارة القلبية التي ما بعدها مرارة! ويظهر أنه لقد كان حدود للمحبة الأبوية في قلب داود تنتهي عندها فيتمنى لهؤلاء الأعداء وإن يكن أبشالوم بينهم أن يهلكوا جميعاً متحطمين. ولكننا نرى من التاريخ المقدس أن داود حنق على يوآب بن صروية لأنه قتل أبشالوم يطلب أن تتهشم أسنانهم لكي لا ينهشوا بها وأن تذهب أضراسهم لكي لا يفترسوا بها الصالحين.

(٧) لا شيء يذهب سريعاً مثل الماء فهو لا يقوم بنفسه بل يحتاج لوعاء ويوضع فيه. ويطلب المرنم إذا كانوا جامدين في أماكنهم ربما كالجليد أو الثلج فليذوبوا وحينئذ فليسيلوا ويجروا حتى لا يستطيعوا أن يبقوا في مكان معين. كذلك هؤلاء الأعداء إذا استطاعوا أن يعدّوا أنفسهم ويحضروا سهامهم ويفوقوها على الآمنين فلا تسمح يا رب إن هذه السهام تصيب أحداً بل لتنبُ بعيداً.

«٨ كَمَا يَذُوبُ ٱلْحَلَزُونُ مَاشِياً. مِثْلَ سِقْطِ ٱلْمَرْأَةِ لاَ يُعَايِنُوا ٱلشَّمْسَ. ٩ قَبْلَ أَنْ تَشْعُرَ قُدُورُكُمْ بِٱلشَّوْكِ، نِيئاً أَوْ مَحْرُوقاً، يَجْرُفُهُمْ. ١٠ يَفْرَحُ ٱلصِّدِّيقُ إِذَا رَأَى ٱلنَّقْمَةَ. يَغْسِلُ خُطُوَاتِهِ بِدَمِ ٱلشِّرِّيرِ. ١١ وَيَقُولُ ٱلإِنْسَانُ: إِنَّ لِلصِّدِّيقِ ثَمَراً. إِنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ قَاضٍ فِي ٱلأَرْضِ».

(٨) ما معنى في ذوبان الحلزون وهل هذا حقيقة أم هو من قبيل المجاز؟ وما علاقته مع سقط المرأة بقوله «مثل سقط المرأة لا يعاينوا الشمس!». يقول التلمود «إن الله لم يخلق شيئاً عبثاً فقد خلق الحلزون (البزاقة) لتشفي الجروح بأن توضع عليها». وهو الأرجح الحلزون العريان بدون بيته المعروف. وهنا يصف كيفية سيره البطيء كيف أنه يذوب ويتقلص في موضع لكي يمتد إلى الآخر وليس إذا ذوباناً بالفعل بل وصف سيره البطيء. هكذا هؤلاء الأعداء العاملون سراً سيكون نتيجتهم الاضمحلال وعدم الحياة كما هي الحالة مع السقط الذي لا يعيش.

(٩) لا فرق إذا كان لا يزال اللحم نيئاً أو بحالة الغليان وقبل أن يحترق الشوك تحت القدور. ولا يزال حتى اليوم أغلب النار التي تستعمل هي مثل هذا النوع في أغلب الأمكنة القروية ولا سيما في الشرق. إذاً فالطبخة التي حاول أبشالوم طبخها لم تنطبخ قط. إذ أن الله قد كشف عن مؤامرتهم وأفسد خططهم الشيطانية. وهذا دليل على أن الله لا يتخلى عن مراقبة الناس جميعاً فيعامل الصديقين بما يستحقونه من الخير كما أنه يعاقب الأشرار.

(١٠) وهنا ينتهي إلى الدينونة التي يدين الله بها الناس فإن النتائج ظاهرة للعيان. والفكرة الواضحة هنا هي من العهد القديم بالكلية. إن الصديق يشمت بأعدائه ويسر بأن يرى النقمة والجزاء العادل الصارم يصيبانهم. بل أنه يغسل أرجله بدماء هؤلاء الأشرار الذين يذبحون جزاء تمردهم وعصيانهم. ولا شك أن الصورة رهيبة ولا شيء من الحنو والرحمة فيها ولكن لا يغرب عن بالنا العصر الذي نحن بصدده كما لا ننسى أية إساءة قد سببها أبشالوم لوالده.

(١١) يفرح الصديق بالنتيجة التي يحصل عليها أخيراً فإن انخذاله إلى حين وكذلك فإن نجاح الأشرار إلى وقت محدود ليس إلا. وهكذا فكما أن الشجرة تثمر بعد مرور عواصف الشتاء هكذا فإن البار ببره يحيا ويتقدم. وحينئذ يتحقق الجميع بأن العدالة تعم الناس ويرون أن القضاء صارم وأنه يوجد إله يجريه ولا يبطئ قط (انظر الجامعة ٥: ٧ و٨). ولأنه ابتدأ بمخاطبة هؤلاء الحكام العتاة الظالمين الأشرار إذا به يتلفت إليهم أخيراً ويريهم أن القضاء الحق الدائم هو لله وحده.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى