سفر المزامير | 57 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّابِعُ وَٱلْخَمْسُونَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. عَلَى «لاَ تُهْلِكْ». مُذَهَّبَةٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا هَرَبَ مِنْ قُدَّامِ شَاوُلَ فِي ٱلْمَغَارَةِ.
«١ اِرْحَمْنِي يَا اَللّٰهُ ٱرْحَمْنِي، لأَنَّهُ بِكَ ٱحْتَمَتْ نَفْسِي، وَبِظِلِّ جَنَاحَيْكَ أَحْتَمِي إِلَى أَنْ تَعْبُرَ ٱلْمَصَائِبُ. ٢ أَصْرُخُ إِلَى ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ، إِلَى ٱللّٰهِ ٱلْمُحَامِي عَنِّي. ٣ يُرْسِلُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَيُخَلِّصُنِي. عَيَّرَ ٱلَّذِي يَتَهَمَّمُنِي. سِلاَهْ. يُرْسِلُ ٱللّٰهُ رَحْمَتَهُ وَحَقَّهُ».
هو أحد المزامير الثلاثة التي ترنم على لحن «لا تهلك» وهو هذا المزمور والمزموران اللذان يليانه. وهنا مجال للسؤال هل هذا هو نفسه اللحن للصلاة المذكورة في (تثنية ٩: ٢٦ أو ١صموئيل ٢٦: ٩ أو إشعياء ٦٥: ٨). وقوله مشيراً إلى هرب داود من وجه شاول في المغارة لا نعلم منه هل تلك مغارة عدلام المذكورة (١صموئيل ٢٢) أو هي المغارة عند عين جدي (١صموئيل ٢٦). وهذا المزمور مع أنه يشترك مع مزامير كثيرة في كثير من المعاني بقوله ارحمني يا الله. وتشبيهه الأعداء بالأشبال والأسود والحماية بظل الجناحين ونصب الشبكة لخطواته وإن رحمة الله تعظم فوق السماوات ومع ذلك فله طابع خاص يتميز به عن غيره وذلك ثقته التامة بخلاص الرب وكثير من معانيه واردة بعد ذلك في (المزمور ١٠٨ فليراجع).
(١) يطلب الرحمة والحماية ويجدهما في ظل الجناحين فهو لا يستطيع مواجهة المصائب بنفسه لذلك يحتمي إلى أن تعبر عنه. وحالته حالة سابح طغى عليه الموج لذلك يلتمس صخرة مرتفعة يحتمي بها إلى أن يعبر الخطر عنه (قابل هذا بما ورد في إشعياء ٢٦: ٢) وهو شبيه بالمزمور سابقه إن كان من جهة الخطر المداهم أو من جهة تجربة الخطيئة. وهو يبدأ بالصلاة والشكوى ويختم بالحمد والشكران.
(٢) إن اتجاهه في حالة كهذه هو نحو الله الذي ينقذه وينجيه من كل المخاطر. يحتمي بالجناحين كما تفعل الفراخ الصغيرة تحت جناحي أمها فتدفأ وتأمن. ولذلك فصراخه لله هو عن تأكيد الاستجابة لأنه سيحامي عنه (راجع لوقا ٢٢: ٣٧). والجناح أيضاً دليل السرعة فإن الله لا يبطئ قدومه ولا يترك الصارخين إليه دون استجابة لطلباتهم.
(٣) هوذا الله العلي غير بعيد عن أولاده فهو يرسل وينجيهم. وخدامه هم الملائكة الذين يصدعون بأمره ويقومون بأعماله. وأما الذين طلبوا نفسه فقد انخذلوا نهائياً وارتدوا إلى الوراء متراجعين ولا يستطيعون شيئاً الآن. بل كان نصيب هؤلاء العار والمذلة ويختم بسلاه بارتفاع نغم الموسيقى. وقوله يرسل رحمته وحقه فهما العون اللازم للمرنم وقد طلب الرحمة أولاً لأن الحق وحده لا يكفي بل إذا كان له الحق فقط فهو هالك لا محالة.
«٤ نَفْسِي بَيْنَ ٱلأَشْبَالِ. أَضْطَجِعُ بَيْنَ ٱلْمُتَّقِدِينَ بَنِي آدَمَ. أَسْنَانُهُمْ أَسِنَّةٌ وَسِهَامٌ، وَلِسَانُهُمْ سَيْفٌ مَاضٍ. ٥ ٱرْتَفِعِ ٱللّٰهُمَّ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ. لِيَرْتَفِعْ عَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ مَجْدُكَ. ٦ هَيَّأُوا شَبَكَةً لِخَطَوَاتِي. ٱنْحَنَتْ نَفْسِي. حَفَرُوا قُدَّامِي حُفْرَةً. سَقَطُوا فِي وَسَطِهَا. سِلاَهْ. ٧ ثَابِتٌ قَلْبِي يَا اَللّٰهُ ثَابِتٌ قَلْبِي. أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ».
(٤) نفسه بين الأشبال دليل الخطر المداهم فهو في خطر الموت في كل برهة من حياته لا يدري كيف ينجي نفسه. وإنه يضطجع بين المتقدين الذين يحمى غضبهم لدى كل سانحة ولا يمكن أن يؤمن شرهم لأن طبعهم غضوب ويدهم سريعة بالأذية والضرر. ويظهر أن اختباره بالناس حواليه كان صعباً مراً لأنه يذكر عن بني آدم هؤلاء أنهم سلاح ماضٍ ولكنه بيد العدو اللئيم الشديد المراس. وهم الوحوش الضارية لذلك فإن أسنانهم كأسنان أولئك ولكنهم يزيدون عليهم أن لسانهم الذي يجب أن يستعمل لحمد الله وشكره إذا به يستعمل للتقتيل والتنكيل.
(٥) ولكنه يعود فيقابل مرة أخرى بالعون الذي له من السماء. وفي هذا صورة لطيفة لإظهار الفرق بين هؤلاء الناس الأشرار وبين الله الذي يرتفع بمجده وجلاله وهو بدلاً من أن يخيف يحمي وبدلاً من أن يلتهم الذين أمامه كنار محرقة فهو يسمو عليهم جميعاً ليتمجد بسلطانه على كل الكائنات.
(٦) هؤلاء الأعداء الكائدون قد وضعوا شبكة أمامي ليوقعوني بها. وهوذا نفسي قد انحنت من الهموم والأحزان ولا أستطيع أن أنجو مما نصبوه لي. والانحناء دليل على أنه مثقل الأحمال فلا يستطيع أن يمشي رافع الرأس عالي الجبين (انظر مزمور ١٠٩: ٢٢). ولم يكتف هؤلاء الأعداء بنصب الشبكة فوق الأرض لكي يوقعوا المرنم فيها. بل حفروا حفرة في الأرض لكي يخفوا ما فعلوه ولا يتظاهرون بشيء ويخفون شيئاً آخر. ولكن النتيجة كانت عليهم بالوبال. وقد سقطوا في الحفرة التي حفروها لغيرهم. ثم ينهي كلامه بارتفاع الموسيقى دليل الانتهاء الحسن.
(٧) ولكن المرنم لم يتزعزع إيمانه ولم يتغير قط وأعظم دليل على ذلك هو أنه لا يزال يغني ويرنم لأن الإنسان عادة لا يفعل ذلك إلا بحالة الارتياح والسرور. إن مثل هذا الإيمان هو مدعاة الراحة والسلام وهو لا يظهر حقيقة إلا في أوقات المصاعب والضيقات حينئذ نعرف من نحن وما هو مقدار إيماننا (انظر رومية ٥: ٣ وأفسس ٥: ٢٠).
«٨ ٱسْتَيْقِظْ يَا مَجْدِي. ٱسْتَيْقِظِي يَا رَبَابُ وَيَا عُودُ. أَنَا أَسْتَيْقِظُ سَحَراً. ٩ أَحْمَدُكَ بَيْنَ ٱلشُّعُوبِ يَا رَبُّ. أُرَنِّمُ لَكَ بَيْنَ ٱلأُمَمِ. ١٠ لأَنَّ رَحْمَتَكَ قَدْ عَظُمَتْ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ، وَإِلَى ٱلْغَمَامِ حَقُّكَ. ١١ ٱرْتَفِعِ ٱللّٰهُمَّ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ. لِيَرْتَفِعْ عَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ مَجْدُكَ».
(٨) جاء في التلمود تفسير خاص لهذا العدد وهو أن من عادة داود كان أن يعلق عوداً فوق رأسه فحينما ينتصف الليل ويقبل على آخره كانت ريح الشمال تهب وتضرب على الأوتار مما جعلها تخرج أنغاماً بنفسها دون أن يكون هناك يد تضرب عليها. فكان ينهض على صوتها ويسرع في قراءة الشريعة المقدسة إلى أن يتكامل وجه السحر. وقال راشي إن داود كان يفاخر الناس قائلاً «إن الفجر كان يوقظ الملوك الآخرين أما أنا فأوقظ الفجر». أما مجده هنا فهي نفسه بالذات التي يريدها أن تستيقظ وتنهض باكراً وعند ذلك تستيقظ أيضاً آلات الموسيقى وتشاركه في إنشاده وتسبيحه لله وهذا شبه قول الشاعر:
قم في الدجى أيها المتعبد | حتى متى فوق الأسرة ترقد |
(٩) إن حمد هذا المرنم شامل يسمعه كل إنسان وهو يفتخر بما يذيعه من آيات الحمد والثناء. وربما رأى بعين النبوءة أن مزاميره هذه ليست له ولا للعصر الذي يعيش فيه ولا للناس الذين يسكن بينهم بل هي لكل زمان وسيخلد ذكرها ما بقي الإنسان. وتكون مدعاة للابتهاج والترنم وخدمة الكنائس حتى أن بعضها لا تستعمل سوى مزامير داود ويترك كل الأناشيد العصرية وما أشبه ولا يستعملون للترنم بالكنائس إلا ما هو مكتوب في الكتاب المقدس.
(١٠) يعود فيكرر هاتين الكلمتين الرحمة والحق الأولى عظمت إلى السموات فهي رفيعة وسامية جداً ولا شيء يضاهيها في الجلال. وكذلك الحق فهو إن احتجب بالغمام أحياناً فإنما ذلك إلى حين. لأن الحق هو أشبه بالشمس المشرقة التي قد تحجبها الغيوم وتقلل من نورها وحرارتها ولكن لا يطول الوقت حتى تعود فتشرق مرة ثانية وتكون سبب الخير والقوة والحياة على وجه هذه الأرض. إن الله الكلي القدرة سيظل مرتفعاً فوق إفهام بني البشر وأعلى من جميع مداركهم وما على الإنسان المؤمن إلا أن يسبح بحمد ربه ويذيع شكره وجلاله إلى أبد الآبدين.
(١١) وأخيراً يأتي لهذا القرار الجميل البارع. وقد أدرك الرسول بولس شيئاً من عظمة الله وجلاله بقوله «حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ ٱلْقِدِّيسِينَ مَا هُوَ ٱلْعَرْضُ وَٱلطُّولُ وَٱلْعُمْقُ وَٱلْعُلْوُ…» (أفسس ٣: ١٨) وهذا هو العدد الخامس ذاته ولا يختلف عنه إلا بما لا يؤبه له. إن السماء والأرض تشتركان في هذا التمجيد وهما متعلقتان واحدتهما بالأخرى بتاريخ طويل قديم وإنما جلال الله القديم الأيام ومجده وعظمته فهي تعم العالمين وتكسو كل الكائنات بما توشيه فيها من آيات الجمال والثناء والتكريم.
السابق |
التالي |