سفر المزامير

سفر المزامير | 27 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّابِعُ وَٱلْعِشْرُونَ

لِدَاوُدَ

«١ اَلرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي، مِمَّنْ أَخَافُ؟ ٱلرَّبُّ حِصْنُ حَيَاتِي، مِمَّنْ أَرْتَعِبُ؟ ٢ عِنْدَ مَا ٱقْتَرَبَ إِلَيَّ ٱلأَشْرَارُ لِيَأْكُلُوا لَحْمِي، مُضَايِقِيَّ وَأَعْدَائِي عَثَرُوا وَسَقَطُوا. ٣ إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْشٌ لاَ يَخَافُ قَلْبِي. إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ فَفِي ذٰلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ. ٤ وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ ٱلرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ ٱلرَّبِّ، وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ».

قد يكون أن داود كتب الأعداد الستة الأولى من هذا المزمور فقط وأما البقية فالمرجح أن كتبها كاتب آخر لأن المزمور مقسوم إلى قسمين متباينين.

(١) إن الرب نور عندما تشتد ظلمات الحياة من تعاسة وضيق وحزن وما أشبه يكفيه أن يشرق عليه نور الرب فتتبدد كل ظلمة. وهذه أول مرة يشبه الله بالنور وهو تشبيه بارع لطيف للغاية ونجده (إشعياء ٤٠: ١). أما في العهد الجديد فموجود بكثرة (انظر متّى ٥: ١٣ ويوحنا ١: ٩ و١٢: ٤٦) فالرب نور له لكي يهتدي وخلاص لكي ينجو. بل بعد نجاته يعتز بحصنه فلا يقدر أحد أن يسبب له أي خوف أو اضطراب.

(٢) «ليأكلا لحمي» هذا تعبير قوي كإنما هؤلاء الأعداء وحوش ضارية والكلام مجازي يقصد به الاغتياب والسعاية والنميمة (انظر أيوب ١٩: ٢٢). ولكن هؤلاء الأعداء لا يستطيعون شيئاً لأنهم يعثرون ويسقطون. لأن الساعي بالضرر يضر نفسه أولاً. والذي يلحق الأذى بالغير يكون أول المتأذين. والمرنم يرى اندحار العدو كشيء مسلم به سلفاً لا يحتاج للبرهان.

(٣) وفي هذا العدد يرتفع المرنم لملء الجسارة الروحية المقدسة ولا يقصد قط أن يتباهى ويتفاخر بل أن يفخر بإلهه الذي هو نوره وخلاصه كما افتتح الكلام فالجيش النازل عليه لا يخيفه. وفي وسط المعركة واشتدادها هو مطمئن البال. إن الشجاعة بحد ذاتها ليست عدم الخوف بتاتاً لأن ذلك مستحيل إذ الخوف هو غريزة طبيعية في أي إنسان ولكن الشجاعة هي أن نطمئن في وسط عدم الاطمئنان ونتشجع بالله فقط (راجع أمثال ١٦: ١٥). وقوله «ففي ذلك» أي رغماً عن كل ذلك وهذا لا ينفي وجود الخوف ولكنه يثبت وجود الشجاعة وهذا يكفي المؤمن المتكل على الله لكي ينال الاطمئنان والسلام (انظر لاويين ٢٦: ٢٧ وقابله مع مزمور ٧٨: ٣٢).

(٤) شيء واحد يشتهيه. أجل إن الرب معه ولو كان في وسط الأعداء والمضطهدين يحتمل كل أنواع الضيقات ولكن متمناه الآن أن يكون في بيت الرب. أي أن يكون له تلك المناجاة السماوية والعلاقة الروحية الوطيدة. فهو يود أن ينظر ويتفرس ملياً بجمال القداسة التي ينالها من مثل هذا الاجتماع. هذا حنين عميق جداً يهز أوتار القلوب ويدعو أي إنسان للمثول إلى بيت الله للتعبد والخشوع والصلاة. إن مطلبه الأول هو السكنى بقرب الله وهي عادة قديمة على ما يظهر في الشرق وحتى اليوم إن بعض المنقطعين للعبادة يسكنون الهياكل والمعابد (مثل سمعان الشيخ وحنة لوقا ١).

«٥ لأَنَّهُ يُخَبِّئُنِي فِي مَظَلَّتِهِ فِي يَوْمِ ٱلشَّرِّ. يَسْتُرُنِي بِسِتْرِ خَيْمَتِهِ. عَلَى صَخْرَةٍ يَرْفَعُنِي. ٦ وَٱلآنَ يَرْتَفِعُ رَأْسِي عَلَى أَعْدَائِي حَوْلِي، فَأَذْبَحُ فِي خَيْمَتِهِ ذَبَائِحَ ٱلْهُتَافِ. أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ لِلرَّبِّ. ٧ اِسْتَمِعْ يَا رَبُّ. بِصَوْتِي أَدْعُو فَٱرْحَمْنِي وَٱسْتَجِبْ لِي. ٨ لَكَ قَالَ قَلْبِي: قُلْتَ ٱطْلُبُوا وَجْهِي. وَجْهَكَ يَا رَبُّ أَطْلُبُ. ٩ لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي. لاَ تُخَيِّبْ بِسَخَطٍ عَبْدَكَ. قَدْ كُنْتَ عَوْنِي، فَلاَ تَرْفُضْنِي وَلاَ تَتْرُكْنِي يَا إِلٰهَ خَلاَصِي».

(٥) هنا يشرح المرنم لماذا يريد أن يسكن في بيت الرب وما معنى تلك الشهوة السامية التي اشتهاها. هناك مخبأ له في يوم تشتد فيه الضيقات عليه حتى لا يدري ماذا يفعل. بل يستره داخل خيمته ويحميه ولا يتخلى عنه مهما لحقه الأعداء من الخارج. هو في حرز وأمان لأنه دخل في حمى الرب. فإذا كان الأعرابي حتى الآن يضحي بنفسه وعياله في سبيل إجارة مستجير حتى ولو كان عدواً من قبل فكم بالأحرى الرب يمنح حمايته للاجئين إليه والمتكلين عليه؟ بل إن الرب يرفعه كإنما على صخرة وقد يكون الفكرة لكي يهرب من أمواج البحر المتلاطمة حواليه فهو أرفع منها لا تطاله بأي سوء.

(٦) «والآن» أي وقد نال ما تمناه فهو مرتفع الرأس عالي الجبين. وأولئك الأعداء أصبحوا في أسفل من جراء اندحارهم. لقد قصد الأعداء له ضراً وبه سوءاً ولكن الرب لم يسلم تقيه لأيديهم لذلك هو فخور بما نال سعيد بما أنعم الله عليه وهكذا يتمم فريضة الدين فيذبح ذبيحة الشكر القلبي على هذا الخلاص بل ينشد مع ذلك ويغني أطيب الأغاني والأناشيد الروحية. فإن الذي خلّصه من ضيقه قد وفى بكل مواعيده وحقق له كل رغباته.

(٧) هنا كما ذكرنا نأتي على الأرجح إلى قسم متميز عن المزمور يكاد لا يمت لما تقدم بأية صلة. وكل ما هنالك أنه يتابع فكرة وجود الضيق ويطلب الرحمة من الله أن ينجيه مع أنه من قبل ذلك أن الله ستره وخبأه وارتفع على أعدائه. لذلك هنا انحدار في المعاني عما تقدم. يتذلل أمام الرب ويصرخ ويستنجد ويسترحم وكأنما الاستجابة بعيدة عنه.

(٨) هنا أيضاً يرى أن يطلب وجه الرب أي يلتمس رضاه. وفي تكرار المعنى «وجهك يا رب أطلب» توكيد جميل للغاية (انظر أيوب ٤٣: ٣) إن الله يأمرنا أن نطلب وجهه والمرنم يصدع بالأمر ويطل بما يريده الرب منه. واتكاله هنا ليس بالنسبة لأي قول معين بل بالنسبة لمواعيد الرب وعهوده بصورة عامة.

(٩) في هذه الأدعية القصيرة جمال وروعة فهي تتعاقب آخذه بعضها برقاب بعض تصور لنا إنساناً ملهوفاً يتكلم كلاماً كثيراً وبسرعة طالباً العون والنجاة. يلتمس وجه الرب بأن هذا الوجه لا ينحجب عنه ولا يبتعد ويلتمس أن ينجح في طلبه ثم يذكر الرب بأنه كان عونه سابقاً فليسكن كذلك لاحقاً أيضاً. وينهي الدعاء بأن يكون مقبولاً ولا يترك من الخلاص.

«١٠ إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي وَٱلرَّبُّ يَضُمُّنِي. ١١ عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ، وَٱهْدِنِي فِي سَبِيلٍ مُسْتَقِيمٍ بِسَبَبِ أَعْدَائِي. ١٢ لاَ تُسَلِّمْنِي إِلَى مَرَامِ مُضَايِقِيَّ، لأَنَّهُ قَدْ قَامَ عَلَيَّ شُهُودُ زُورٍ وَنَافِثُ ظُلْمٍ. ١٣ لَوْلاَ أَنَّنِي آمَنْتُ بِأَنْ أَرَى جُودَ ٱلرَّبِّ فِي أَرْضِ ٱلأَحْيَاءِ ١٤ ٱنْتَظِرِ ٱلرَّبَّ. لِيَتَشَدَّدْ وَلْيَتَشَجَّعْ قَلْبُكَ وَٱنْتَظِرِ ٱلرَّبَّ».

(١٠) هنا منتهى الاستعطاف بل من أروع مظاهر الإيمان الحي. فلا محبة أعظم ولا عناية أتم من عناية الوالدين بأولادهم ولكن! هنا يصور محبة أعظم مما تشاهد في الوالدين أيضاً وهي ما يظهره الله نحو المؤمنين به والملتمسين رضاه. لو قال المرنم «ولو تركت أبي وأمي فالرب يضمني». لحسبنا الكلام لداود وناسب تماماً مع ما ورد في (١صموئيل ٢٢: ٣ وما بعده). وقوله يضمني أي لو تركت يتيماً فإن الرب يجعلني من أحد أفراد عائلته الكبرى.

(١١) يلتمس أن ينجو من كل المخاطر كأنه وعل مطارد من صيادين يطلبون أن يمسكوه. ولأنه أصبح الآن في عداد عائلة الله الذين نالوا محتماه لذلك فهو يلتمس أن يتعلم كيف يسلك في طرق الله. ويلتمس الهداية لئلا يسقط في يد أعدائه اللاحقين به ليلاً ونهاراً.

(١٢) وهو يرجو أن ينال خلاصاً تاماً من هؤلاء الأعداء ويطلب من إلهه أن لا يسلمه لأيديهم لا سيما وهم قوم ظلام شهدوا عليه زوراً وأرادوا به سوءاً ولم يتهيبوا قط من أي الأشياء.

(١٣) يظهر هذا العدد كإنما هو ناقص لأنه بقوله «لولا» كنا ننتظر أن نسمع منه ماذا يحدث يا ترى؟ كما وأنه في قوله «آمنت» كإنما يعني شيئاً حدث في الماضي ولا علاقة له في الحاضر والمستقبل بل بالعكس فإن المعنى هو الإتمام أي أنه مؤمن حقاً بإلهه ولذلك يرى جود الرب عليه وعلى كل حي. فكما أن الخطر موجود ومداهم والأعداء كثار ويتعقبونه مع ذلك فهو مؤمن. فيكون الجواب في هذا الترجي باولا أنه يكفيه إيمانه بالله فيرى جوده ويتمتع به.

(١٤) وهذا الإيمان يدعوه أن ينتظر لأن الإيمان إذا لم ينتظر فهو ليس إيماناً بالمعنى الحقيقي ولا هو اتكال. يبدأ العدد بقوله انتظر الرب وثم يختمه بالكلمات ذاتها انتظر الرب وفي هذا التكرار توكيد جميل للمعنى الذي يقصده. ولا سيما قد وضع بينهما هذه العبارة أن يتشدد ويتشجع لأن الانتظار بدون ذلك لا يفيد شيئاً. عليه أن ينتظر سعيداً فرحاناً. لأن الشجاعة لا تتحقق ولا تكمل نتائجها إلا بمثل هذا الانتظار.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى