سفر المزامير

سفر المزامير | 17 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّابِعُ عَشَرَ

صَلاَةٌ لِدَاوُدَ

«١ اِسْمَعْ يَا رَبُّ لِلْحَقِّ. اُنْصُتْ إِلَى صُرَاخِي. أَصْغِ إِلَى صَلاَتِي مِنْ شَفَتَيْنِ بِلاَ غِشٍّ. ٢ مِنْ قُدَّامِكَ يَخْرُجُ قَضَائِي. عَيْنَاكَ تَنْظُرَانِ ٱلْمُسْتَقِيمَاتِ. ٣ جَرَّبْتَ قَلْبِي. تَعَهَّدْتَهُ لَيْلاً. مَحَّصْتَنِي. لاَ تَجِدُ فِيَّ ذُمُوماً. لاَ يَتَعَدَّى فَمِي. ٤ مِنْ جِهَةِ أَعْمَالِ ٱلنَّاسِ فَبِكَلاَمِ شَفَتَيْكَ أَنَا تَحَفَّظْتُ مِنْ طُرُقِ ٱلْمُعْتَنِفِ. ٥ تَمَسَّكَتْ خُطُوَاتِي بِآثَارِكَ فَمَا زَلَّتْ قَدَمَايَ».

(١) يلمس المطالع بهذا المزمور اضطراب العاطفة حتى لا يستطيع المرنم أن يعبر عن كل ما يكنه قلبه. يشبه هذا المزمور سابقه بذكر الله في الليل. قابل العدد الثالث هنا مع العدد السابع من المزمور السابق. وعادةً مزامير داود هي سهلة التعبير تجري كالنهر الهادئ في صفائه ولكن هنا نجد عدم نعومة في كثير من التعابير لا سيما حينما يصف حالة أعدائه فهو يصفهم بألقاب التحقير (راجع المزمور ٥٩: ١٢ – ١٤ و٥٦: ٨ و٣١: ١٠ – ١٣ و١٤٠: ١٠ و٥٨: ٧) يرجو الله إلهه أن يصغي لدعواه التي هي حق وأن ينصت لصراخه ويسمع صلاته فهو لا يطلب ملكاً لنفسه كما يدعي شاول عدوه وحينما يقول هذا لا غش في كلامه قط.

(٢) فهو يلتمس أن ينال حكم القضاء عليه ليس من العدوّ بل من الله الذي هو ديّان الجميع. إن الإنسان عادة لا يستطيع أن يرى مستقيمات الآخر فكم بالأحرى إذا كان ذلك الإنسان شريراً بعيداً عن الله فحكمه ظالم وجائر للغاية (راجع ١صموئيل ٢٤: ١٢).

(٣) إن عدل الله يطمئن الأبرار وفي الوقت ذاته يرعب الأشرار ويزعجهم. هنا يذكر ثلاثة أمور فإن الله قد جرّب قلبه ثم قد حفظه في الليل لئلا يصيبه أي ضرر ثم نقاه من كل زغل ومحّصه كما يفعل الصائغ في بوتقته وكانت النتيجة أنه كان أعلى من أي عار أو مذمة وكان فمه صادقاً أميناً لا يتعدى على أحد. وقد تكون الترجمة بدلاً من «لا تجد فيّ ذموماً الخ…» إذا تفكرت بالشر فلا يتعدّى فمي.

(٤) أعمال الناس هنا تصرفاتهم. وإذا كنا نحاسبهم عليها نعيش بتعاسة وشقاء. ولكنه يتحفظ من جهتهم ولا يتكلم كل ما يخطر بباله بل يتكلم بكلام الرب فقط. والمعتنف هو الذي يفعل الضرر عن سابق تصميم وبصورة عنيفة صارمة. وكإنما هؤلاء الأشرار يأتون عليه من طرق مختلفة فيتجنبهم على قدر طاقته وكان سبيل خلاصه هو الاستعانة بناموس الله.

(٥) ثم يتابع التعبير ذاته فلأنه طلب أن يتحفظ من صرامة الأشرار لذلك يتبع استمرار الخطوات التي تنجي وتخلّص. فهو يتبين الأثر ويتبعه وحينئذ لا يزل ولا يسقط بل يبقى ثابتاً يسير باستقامة إلى الهدف الذي يقصده (انظر أيوب ٢: ٤٠ وأمثال ١٧: ١٢ والجامعة ٤: ٢).

«٦ أَنَا دَعَوْتُكَ لأَنَّكَ تَسْتَجِيبُ لِي يَا اَللّٰهُ. أَمِلْ أُذُنَيْكَ إِلَيَّ. ٱسْمَعْ كَلاَمِي. ٧ مَيِّزْ مَرَاحِمَكَ يَا مُخَلِّصَ ٱلْمُتَّكِلِينَ عَلَيْكَ بِيَمِينِكَ مِنَ ٱلْمُقَاوِمِينَ. ٨ ٱحْفَظْنِي مِثْلَ حَدَقَةِ ٱلْعَيْنِ. بِظِلِّ جَنَاحَيْكَ ٱسْتُرْنِي ٩ مِنْ وَجْهِ ٱلأَشْرَارِ ٱلَّذِينَ يُخْرِبُونَنِي، أَعْدَائِي بِٱلنَّفْسِ ٱلَّذِينَ يَكْتَنِفُونَنِي. ١٠ قَلْبَهُمُ ٱلسَّمِينَ قَدْ أَغْلَقُوا. بِأَفْوَاهِهِمْ قَدْ تَكَلَّمُوا بِٱلْكِبْرِيَاءِ».

(٦) إن المخاطر التي تعترض سبيله عظيمة ولكن رحمة الله أعظم. إن الله قادر أن يساعد ودائماً مستعد أن يفعل ذلك مع الذين يدعونه. يطلب إلى الله أن يحفظه من الشرير (انظر ١يوحنا ٥: ١٨) فلا يسقطه بالتجربة ولا يتحمل بعد ذلك أهوال الخطيئة. يجب أن يستلفت نظرنا كثرة تكراره أن يسمع الله ويصغي إليه.

(٧) وأرى ترجمتها «أظهر رحمتك مخلصاً المعتصمين من المقاومين بيمينك». ولا شك أن هذا العدد في الأصل العبراني في حالة الغموض. والفكرة على ما اعتقد أنه يطلب عون يمين العلي لأنه يتكل على الرب ضد أولئك المقاومين لاسمه بل المحاربين يمينه. يطلب أن تكون هذه المراحم ممتازة منظورة تقنع جميع الناس حتى غير المؤمنين.

(٨) إن الله بعنايته العظيمة حفظ العين من الضرر فوضعها في مكان حصين جداً فإذا جاءتها لطمة أصابت العظام حولها ولم تصبها هي وهكذا يطلب المرنم من الله أن يحفظه على هذه الصورة أي في مكان حصين لا تطاله التجارب والويلات ولا مكايد الأعداء. ثم يتابع التشبيه إلى شيء أخر فهو يطلب الحماية كما يفعل النسر بفراخه فيضعها تحت جناحيه (انظر تثنية ٣٢: ١١) وأما تشبيه الدجاجة المذكور (متّى ٢٣: ٣٧) فهو غريب عن مألوف العهد القديم. وأجنحة الرب هي الأذرع الأبدية الممدودة بالرحمة والإحسان تحتضن كل اللاجئين إليه.

(٩) هذه الترجمة حرفية أكثر من اللازم والأفضل أن نقول «من الأشرار الذين يخربونني من أعدائي الألداء الذين يحيطون بي». وهؤلاء الأعداء المحاصرون كادوا يصلون لغايتهم فهم في الأعقاب يكادون يمسكوننا. هم ينالون بغيتهم منا ويحتجون أنهم ينظرون لبعيد غير مبالين بنا مع أنهم يريدون مسكنا وتحطيمنا.

(١٠) هم متكبرون وقحون يتكلمون دائماً بتعظم ولا سيما لأعدائهم. وفي الوقت ذاته لا يخافون الله ولا يهتمون بأوامره ووصاياه ذلك لأنهم يحسبون ما هم عليه من رفعة شأن وكبر يجعلهم مغترين بذواتهم لا يحسبون لشيء حساباً. وإغلاق القلب جعله أن لا يعي ولا ينتبه ولا يسمع لشيء (انظر مزمور ٧٣: ٧ وقابله مع أيوب ١٥: ٢٧). هم منغمسون باللذات يؤكدون أن الغد لهم ولا يعرفون أن يفتدوا الوقت ولا يحسبون الأيام شريرة (راجع رؤيا ١٣: ٥ و٦). ويستعملون بنوع خاص أفواههم التي لا تخاف الله ولا تهاب إنساناً. قلبهم سمين لأن أفواههم سمينة على نسبة ما شبعوا من المسمنات.

« ١١ فِي خُطُوَاتِنَا ٱلآنَ قَدْ أَحَاطُوا بِنَا. نَصَبُوا أَعْيُنَهُمْ لِيُزْلِقُونَا إِلَى ٱلأَرْضِ. ١٢ مَثَلُهُ مَثَلُ ٱلأَسَدِ ٱلْقَرِمِ إِلَى ٱلٱفْتِرَاسِ، وَكَالشِّبْلِ ٱلْكَامِنِ فِي عِرِّيسِهِ. ١٣ قُمْ يَا رَبُّ. تَقَدَّمْهُ. اِصْرَعْهُ. نَجِّ نَفْسِي مِنَ ٱلشِّرِّيرِ بِسَيْفِكَ، ١٤ مِنَ ٱلنَّاسِ بِيَدِكَ يَا رَبُّ، مِنْ أَهْلِ ٱلدُّنْيَا. نَصِيبُهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ. بِذَخَائِرِكَ تَمْلأُ بُطُونَهُمْ. يَشْبَعُونَ أَوْلاَداً وَيَتْرُكُونَ فُضَالَتَهُمْ لأَطْفَالِهِمْ. ١٥ أَمَّا أَنَا فَبِٱلْبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ. أَشْبَعُ إِذَا ٱسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ».

(١١) يتابع نفس الفكرة ويؤكدها. هم يتبعون آثارنا كما تفعل كلاب الصيد بكل دقة ومهارة. وقد اشتهر عن الأقدمين ولا سيما العرب انهم كانوا يكشفون الضائع من إنسان أو حيوان باتباع آثاره وقد مهر البعض في ذلك إلى درجة بعيدة. وقد توصل بعضهم أن يعرف صفات الحيوان وعيوبه وعاداته من آثاره التي يتركها في الأرض. وغاية هؤلاء الأعداء أن يرمونا لأن ذلك أهون عليهم حتى يتغلبوا علينا.

(١٢) حتى الآن له عادة أن يتبع فريسته ورأسه ملاصق للارض لكي لا تفوته حركاتها فيهجم عليها وهي لا تشعر بوجوده. وكذلك حينما يهاجم الجاموس أو سرب منه بعض الأعداء يخفضون رؤوسهم للأرض ويركضون بسرعة وشجاعة نادرتين. معروف أن اللبوة وهي تربي أشبالها تضعهم في محل أمين جداً لا يمكن أن يطالهم أحد وهي عندئذ أشد بطشاً وفروسية من الأسد نفسه. والأسد هو مثال البطش منذ قديم الزمان حينما يستعمل قواه المدهشة للفتك. هكذا هؤلاء الأعداء اللاحقون به. فلا شيء يثنيهم ولا يهابون أحداً.

(١٣) ولكنه يستنجد ويستصرخ الله ويطلب إليه أن يستعمل سيفه وهو أمضى سلاح فتاك عندئذ (انظر إشعياء ١٠: ٥ و١٥ و١٣: ٥ وحبقوق ١: ١٢ وأعمال ٤: ٢٨) يطلب إليه أن يلاقي هذا العدو المهاجم بدلاً منه. وأن يتغلب عليه لكي يخلّص نفسه ولا يهلكها. يقرّ المرنم أنه لا يستطيع أن يخلّص نفسه بنفسه لذلك يطلب سلاحاً أمضى ويتكل على الله وما أجمل أننا نهرع إليه عند نفاد حيلتنا.

(١٤) الناس يقصد بهم الذين يعيشون لهذه الدنيا وفي سبيلها فقط ولا ينظرون للآخرة وما فيها من دينونة. قد يكون المعنى إن هؤلاء الناس لهم كل خيرات الدنيا يتمتعون بها أنفسهم ولهم أولاد كثيرون يورثونهم إياها حينما ينقلون من هذه الدنيا فهم أناس ماديون بكل معنى الكلمة آلهتهم بطونهم ولا يعرفون غيرها ومع ذلك لا يهتمون لما يأتي به المستقبل لأنهم يحسبون أن كل شيء هو لهم فما يفضل عنهم يتركونه لأولادهم. يعيشون بخير الله وينكرون فضله.

(١٥) إذا كان أولئك الأشرار منكري جميل الله لهم شبعهم من هذه الدنيا فالمرنم ليس كذلك لأن شبعه أن ينظر وجه الرب (راجع عدد ١٢: ٨ وأيضاً خروج ٣٣: ٢٠) وهو يستيقظ كإنما يرى شبه الرب في الرؤيا فتنكشف أمامه رحمة الرب ويتحقق نعمته في حياته وحينئذ يطمئن به كل الاطمئنان أحداً.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى