سفر المزامير | 145 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلْخَامِسُ وَٱلأَرْبَعُونَ
تَسْبِيحَةٌ لِدَاوُدَ
«١ أَرْفَعُكَ يَا إِلٰهِي ٱلْمَلِكَ، وَأُبَارِكُ ٱسْمَكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ. ٢ فِي كُلِّ يَوْمٍ أُبَارِكُكَ، وَأُسَبِّحُ ٱسْمَكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ. ٣ عَظِيمٌ هُوَ ٱلرَّبُّ وَحَمِيدٌ جِدّاً، وَلَيْسَ لِعَظَمَتِهِ ٱسْتِقْصَاءٌ».
هذا المزمور هو تسبيحة لله الملك المنعم الجواد ويحمل اسم داود في عنوانه. ومما نلفت إليه الأنظار هو أن هذا المزمور هو الوحيد الذي يحمل كلمة «تهله» العبرانية. وجمعها «تهاليم» وهي المزامير بالذات. وهو من تلك المزامير المرتبة حسب أحرف الهجاء كما رأينا من قبل المزمور المئة والتاسع عشر وغيره كالمزمور المئة والثامن والثلاثين وهو يتناول موضوعين هامين الأول عناية الله بخلائقه. والثاني صلاح الله وبرّه. وقد قال باكيوس عنه أنه يحوي طلب البركة وتقديم الشكر لله على إنعاماته فيتعلمه أولادنا قبل أي وجبة للطعام. وهذ المزمور هو الذي كان تستعمله الكنيسة المسيحية للشكر لدى وجبة الغداء. كما أنها تستعمل العدد الخامس عشر منه لدى ممارسة الشركة المقدسة.
والمزمور يحوي واحداً وعشرين بيتاً وينقص حرف النون من أحرف الهجاء العبرية هي اثنان وعشرون حرفاً وكل بيت مؤلف من شطرين كما نلاحظ.
(١ – ٣) بداءة هذا المزمور هي مألوفة عندنا وتذكرنا (بالمزمور ٣٠: ٢) كما تذكرنا بالمزامير الهجائية المملوءة بالحمد والتسبيح والشكر كما في (مزمور ٣٤: ٢). وهو يدعو الله الملك كما في (المزمور ٢٠: ١٠ وأيضاً ٩٨: ٦). أما إذا كان المؤلف ملكاً أيضاً فتكون هذه التسبيحة أعمق وأعظم إذ يتكلم عن اختبار شخصي ويضع نفسه تحت تصرف هذا الملك الإلهي الذي هو ملك الملوك ورب الأرباب. وحينما يخاطب هذ الملك القدير يبارك اسمه إلى الدهر والأبد أي على الدوام فينسى حدود الزمان مع هذا الإله الذي لا ابتداء أيام له ولا نهاية. وقد ذهب البعض أن من جملة البراهين على الخلود هو هذا الاشتياق الروحي بأن ينصرف الإنسان لله بالتسبيح والتمجيد إلى الأبد ويشارك بذلك الملائكة العلويين.
وليس لعظمته استقصاء أي لا يصل إلى عمقها (راجع إشعياء ٤٠: ٢٨ وأيوب ١١: ٧ وما يليه). فالإنسان يستطيع أن يصل إلى الظواهر فقط ولا يرى كنه الأشياء فكم بالأحرى أن يفهم أسرار الله ويدرك مدى تلك العظمة الإلهية.
«٤ دَوْرٌ إِلَى دَوْرٍ يُسَبِّحُ أَعْمَالَكَ، وَبِجَبَرُوتِكَ يُخْبِرُونَ. ٥ بِجَلاَلِ مَجْدِ حَمْدِكَ وَأُمُورِ عَجَائِبِكَ أَلْهَجُ. ٦ بِقُوَّةِ مَخَاوِفِكَ يَنْطِقُونَ، وَبِعَظَمَتِكَ أُحَدِّثُ. ٧ ذِكْرَ كَثْرَةِ صَلاَحِكَ يُبْدُونَ، وَبِعَدْلِكَ يُرَنِّمُونَ. ٨ اَلرَّبُّ حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ، طَوِيلُ ٱلرُّوحِ وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ. ٩ ٱلرَّبُّ صَالِحٌ لِلْكُلِّ، وَمَرَاحِمُهُ عَلَى كُلِّ أَعْمَالِهِ. ١٠ يَحْمَدُكَ يَا رَبُّ كُلُّ أَعْمَالِكَ، وَيُبَارِكُكَ أَتْقِيَاؤُكَ».
(٤ – ٧) أما هذه العظمة فقد اخبر بها الأنبياء ورآها الراؤون ولو شيئاً من أمجادها وكانت النتيجة أنهم سبحوا أعمال الرب وأخذوا يخبرون بقوته وسلطانه إلى كل الزمان. فالآباء بدورهم يخبرون ابناءهم وهؤلاء يخبرون من يأتي بعدهم على التوالي إلى أن يعم معرفة الرب كل بني شعبه. وهكذا فالناظم بدوره لا ينفك يسبح هكذا ويخبر الآخرين بهذا الجلال الإلهي ويذيع تلك العجائب التي أثبتت للملإ أن الرب هو الله وحده وهو ملك العالمين مما في السماء وما على الأرض. هو الغالب الذي ينتصر على كل شيء حتى أن كل الأشياء ترتعد أمام الرب لأنه هو مرجعها الأخير الوحيد ولذلك فالشاعر يحدث بهذه العظمة وينطلق لسانه بالكلام عنها غير هياب بل يؤدي رسالة لا يستطيع كتمانها زماناً طويلاً ومما يقابل هذه العظمة الإلهية إنما الصلاح والعدل. وعلى الناس أن يعترفوا بذلك ويبدوه للآخرين ويرنموا به فرحين مبتهجين وليس فقط أن يعترفوا بعظم الرب وقدرته.
(٨ – ١٠) يأتي الآن لأوصاف الرحمة التي يتصف بها (راجع مزمور ١٠٣). والتي تظهر لنا بصورة لا تقبل أدنى شك أنه إذا غضب على الإنسان فغضبه ليس للانتقام ولكنه لإرجاع الخاطئ عن شروره. هي محبة ورحمة وحنان لا تفصل أحداً من الناس إلا الذي فصل نفسه بملء مشيئته واختياره. لذلك فهو صالح للكل ورحمته تشمل الجميع وتخبر بأجلى بيان عن مدى هذه المحبة وعظمتها. بل أن الإنسان الذي يخاف الله عن محبة وعمق اختبار لهذه المراحم يتوجب عليه أن يخبر الآخرين أيضاً الذين لا يرون بعيونهم هذه العظمة ولا يسمعون بآذانهم ما تقدمه لهم من معان. على الأتقياء واجب يؤدونه نحو غير الأتقياء إذ يقودونهم للرب الإله الذي يستحق كل حمد وبركة.
«١١ بِمَجْدِ مُلْكِكَ يَنْطِقُونَ وَبِجَبَرُوتِكَ يَتَكَلَّمُونَ، ١٢ لِيُعَرِّفُوا بَنِي آدَمَ قُدْرَتَكَ وَمَجْدَ جَلاَلِ مُلْكِكَ. ١٣ مُلْكُكَ مُلْكُ كُلِّ ٱلدُّهُورِ، وَسُلْطَانُكَ فِي كُلِّ دَوْرٍ فَدَوْرٍ. ١٤ اَلرَّبُّ عَاضِدٌ كُلَّ ٱلسَّاقِطِينَ وَمُقَوِّمٌ كُلَّ ٱلْمُنْحَنِينَ. ١٥ أَعْيُنُ ٱلْكُلِّ إِيَّاكَ تَتَرَجَّى، وَأَنْتَ تُعْطِيهِمْ طَعَامَهُمْ فِي حِينِهِ. ١٦ تَفْتَحُ يَدَكَ فَتُشْبِعُ كُلَّ حَيٍّ رِضىً. ١٧ ٱلرَّبُّ بَارٌّ فِي كُلِّ طُرُقِهِ وَرَحِيمٌ فِي كُلِّ أَعْمَالِهِ».
(١١ – ١٣) وهذا الاعتراف يجعلونه شاغلهم وديدنهم لا ينون في تأديته ولا يتراجعون حتى يعم الاعتراف بالرب في كل مكان وحتى يقبل الجنس البشري بجملته إلى هذه المعرفة حت يعم ملكه المجيد كل العالم. فهم ينطقون بالتمجيد ويتكلمون بالجبروت الإلهي حتى لا يكون تمجيد للإنسان بل لله وهكذا يقلع البشر عن جهلهم وغوايتهم بالقوة ويعترفون بها لله وحده القوي الجبار. وفي العدد الثاني يكرر الفكرة التي وردت في العدد العاشر ولكن بأكثر بيان وأعظم بلاغة. والواجب على المؤمنين ليس أن يعرفوا فقط بل أن يعرّفوا. ليس أن يعتقدوا هم فقط بل يجعلون الناس معتقدين. وحينئذ يرى الناس أن هذا الملكوت هو لكل الدهور لا تغيير فيه ولا تبديل لا في الشخص الإلهي المعبود كما ولا في أمجاده العظمة أو سلطانه الذي يتداول على البشرية ولا يدول أبداً (راجع مزمور ٤٥: ١٨ وأستير ٩: ٢٨). هذا السلطان الذي يضم إليه كل الأشخاص والأشياء (راجع أفسس ١: ١٠ وأيضاً دانيال ٣: ٣٣ و٤: ٣ و٤: ٣١ و٣٤).
(١٤ – ١٧) ولأنه إله حنان ورحيم كما ورد في العدد ٨ لذلك فهو يظهر هذه السجايا الإلهية فيعضد الساقطين والبائسين حتى أنهم لا يترجون سواه وهو لا يخيب سؤل قلوبهم إذ يمنحهم الطعام في حينه فلا يجوعون قط بل لهم شبع وسرور في كل شيء وكل حال. هذا الإله هو أب في بيته وسيّد في كل أعماله وكما تلتفت جميع العيون في البيت إلى صاحبه الأول هكذا تلتفت البشرية وجميع المخلوقات إلى الرضا الإلهي. هو يفتح يده دليل الكرم لأن قبض اليد دليل البخل. هذا الإله الذي يسلك في كل طرق بارة ويرحم في كل عمل يعمله.
«١٨ ٱلرَّبُّ قَرِيبٌ لِكُلِّ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَهُ، ٱلَّذِينَ يَدْعُونَهُ بِٱلْحَقِّ. ١٩ يَعْمَلُ رِضَى خَائِفِيهِ وَيَسْمَعُ تَضَرُّعَهُمْ، فَيُخَلِّصُهُمْ. ٢٠ يَحْفَظُ ٱلرَّبُّ كُلَّ مُحِبِّيهِ، وَيُهْلِكُ جَمِيعَ ٱلأَشْرَارِ. ٢١ بِتَسْبِيحِ ٱلرَّبِّ يَنْطِقُ فَمِي، وَلْيُبَارِكْ كُلُّ بَشَرٍ ٱسْمَهُ ٱلْقُدُّوسَ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ».
(١٨ – ٢١) وهو إله متنازل قريب في متناول كل إنسان على شرط أن ذلك الإنسان يدعوه بالحق ويخلص في دعواه من كل قلبه. لأنه يوجد أناس يدعون ولكنهم مراؤون يفعلون ذلك وقت مسيس الحاجة ثم بعد ذلك ينسون الله ولا يذكرونه أبداً. وهنا يشير إلى تلك الصلاة الحقيقية الخارجة من أعماق القلب والمعبرة عن نوايا الإنسان وأفكاره الداخلية وليس مجرد ما يدعيه (راجع إشعياء ٢١: ١٣). يجب أن تكون الصلاة بإيمان وحرارة واتكال حتى يستجيب الله حسب قصده وليس حسب ما يشاؤه الإنسان ذاته لأننا لا نعلم ما نصلي من أجله (راجع إشعياء ١٠: ٢٠ و٤٨: ١ وأيضاً راجع يوحنا ٤: ٢٣ وما بعده).
وهو يعمل ما يرضي خائفيه وهكذا يسمع التضرع ويخلّص وبالتالي يحفظ الذين يطلبونه بمحبة وإكرام كما أنه يرذل الأشرار لأنهم رذلوا أنفسهم وبالتالي يهلكهم لأنهم لم يعرفوا زمان افتقادهم ولم يتوبوا عن خطاياهم بل عاشوا في إثم وعناد وكان لهم الهلاك المحتوم. وأخيراً يصل للختام ويضع واجباً على فمه أن ينطق بالتسبيح (راجع تثنية ٣٢: ٤٣). فهو ينطق بالتسبيح بالنسبة لهذه الاختبارات الروحية الشخصية التي مرت عليه بل إنه يلتفت إلى الناس جميعاً – وهنا الأتقياء وغيرهم – ويطلب منهم ما هو واجب الخلائق نحو خالقهم الواحد العظيم أن يباركوا اسم الرب القدوس ولا يفترون في ذلك أبداً بل يستمرون عليه إلى الدهر والأبد (راجع زكريا ١٤: ١٩).
السابق |
التالي |