سفر المزامير | 143 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّالِثُ وَٱلأَرْبَعُونَ
مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
«١ يَا رَبُّ، ٱسْمَعْ صَلاَتِي وَأَصْغِ إِلَى تَضَرُّعَاتِي. بِأَمَانَتِكَ ٱسْتَجِبْ لِي، بِعَدْلِكَ. ٢ وَلاَ تَدْخُلْ فِي ٱلْمُحَاكَمَةِ مَعَ عَبْدِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ. ٣ لأَنَّ ٱلْعَدُوَّ قَدِ ٱضْطَهَدَ نَفْسِي. سَحَقَ إِلَى ٱلأَرْضِ حَيَاتِي. أَجْلَسَنِي فِي ٱلظُّلُمَاتِ مِثْلَ ٱلْمَوْتٰى مُنْذُ ٱلدَّهْرِ.
هنا صرخة أخرى من صرخات طلب النجدة بينما المرنم في غياهب السجون. ونجد أن المزمور هذا أيضاً يحمل عنوان «لداود» مع أن ذلك غير مذكور في الترجمة السبعينية. ولكنه ينتمي بشكل طبيعي إلى المزمور سابقه وإن ظرف نظمه لا يستبعد أن يكون كما ذكرنا سابقاً في أيام ابنه أبشالوم. وتتميز هذه المزامير أنها تحمل طابع الحزن والأسى بل طابع التوبة والرجوع إلى الله وهي بذلك تختلف عن المزامير التي نظمت في أيام اضطهاد شاول. فتلك تحمل طابعاً آخر يدل على الاستناد إلى يد الله القديرة لكي تنجي من يد قديرة مماثلة ولا تحمل شيئاً من التوبة وطلب الغفران. ونجد في هذا المزمور أن كلمة سلاه تقسمه إلى قسمين متعادلين.
(١ – ٣) يدعم المرنم طلبه بأن الله يسمع صلاته ويصغي إلى تضرعاته بالنسبة إلى أمرين: الأول بالنسبة لأمانة الرب. فهو الذي وعد وعاهد وحاشا له أن يخلف عهوده التي قطعها. ثم ثانياً بالنسبة لعدل الرب فإن دعوى داود على أعدائه هي عادلة ولذلك يطلب أن يعاقب الرب المعتدي وبالتالي أن يعفو عنه فقد ذكر الآن خطاياه التي ارتكبها وكيف له أن يتبرر منها بغير العفو والسماح. وليس هو وحده في هذه الحالة بل أن كل حي هو كذلك لا بر له إذا وقف في محاكمة الرب. وفي العدد الثالث يلتفت إلى الرب مسترحماً من أجل ما يحتمله من اضطهاد الأعداء له حتى سحقه سحقاً ولم يعد بإمكانه أن يقف على رجليه ولذلك فهو قد ارتمى في مكان مظلم لا يجرؤ على الدنو من النور ولقد حُسب بين الموتى الذين ماتوا منذ زمن بعيد. مع أنه من الأحياء ولكن حياة هؤلاء هي أشبه بالموت منها بالحياة.
«٤ أَعْيَتْ فِيَّ رُوحِي. تَحَيَّرَ فِي دَاخِلِي قَلْبِي. ٥ تَذَكَّرْتُ أَيَّامَ ٱلْقِدَمِ. لَهَجْتُ بِكُلِّ أَعْمَالِكَ. بِصَنَائِعِ يَدَيْكَ أَتَأَمَّلُ. ٦ بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدَيَّ. نَفْسِي نَحْوَكَ كَأَرْضٍ يَابِسَةٍ. سِلاَهْ. ٧ أَسْرِعْ أَجِبْنِي يَا رَبُّ. فَنِيَتْ رُوحِي. لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي فَأُشْبِهَ ٱلْهَابِطِينَ فِي ٱلْجُبِّ. ٨ أَسْمِعْنِي رَحْمَتَكَ فِي ٱلْغَدَاةِ، لأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. عَرِّفْنِي ٱلطَّرِيقَ ٱلَّتِي أَسْلُكُ فِيهَا، لأَنِّي إِلَيْكَ رَفَعْتُ نَفْسِي. ٩ أَنْقِذْنِي مِنْ أَعْدَائِي يَا رَبُّ. إِلَيْكَ ٱلْتَجَأْتُ».
(٤ – ٦) ويصف في العدد الرابع تلك الحالة النفسية حينما ينصرف المنهزم إلى استجماع قواه فيجد عياء في روحه وحيرة في قلبه لا يدري ماذا يفعل وأين يذهب فلو أن الحيرة لم تقترن بالعياء لهان الأمر إذ كان يفتش عن مخارج جديدة يستعيد بها سابق عزه فتعود الأمور إلى مجاريها الطبيعية. ولا يعتم طويلاً حى يسترسل في الذكريات لكي يجد لنفسه حالة شبيهة يتعزى بها عن آلام حالته الحاضرة. وأخذ حينئذ يلهج بأعمال الرب وعجائبه التي أجراها نحو شعبه في القديم. ولا شيء كالتأملات العميقة تفرج عن النفس بلواها لا سيما إذا كانت مقترنة بروح التدين الحقيقي. وفي حالة كهذه بسطت أمامك يدي دليل التسليم للمشيئة الإلهية وفي الوقت ذاته أخذت أصلي إلى الله وهو الملجأ الأخير فإنه قد شعر أن نفسه كادت تموت من العطش الروحي حتى أشبهت القفر القاحل. وهنا ترتفع الموسيقى سلاه (راجع مزمور ٧٧: ٤ – ٧ وأيضاً ١٢ والأعداد بعده).
(٧ – ٩) هنا نبدأ بالقسم الثاني من المزمور فنجد أيضاً تكراراً عن مزامير سابقة (راجع مزمور ٦٨: ١٨ و٢٧: ٩ وقابله مع مزمور ١٠٢: ٣. وأيضاً قوله «أشبه الهابطين…» (راجع مزمور ٢٨: ١ وقابله مع مزمور ٨٨: ٥). وأيضاً حينما يذكر «اسمعني بالغداة رحمتك» فإننا نتذكر صلاة موسى (راجع مزمور ٩٠: ١٤) وقوله «لأني عليك توكلت» (راجع مزمور ٢٥: ٢) وغير مواضع أيضاً. والمرنم يلتمس أن يأتيه الصباح – الغداة برحمة جديدة تنسيه آلام ما مر به من قبل وهكذا ينقذ من الأعداء لأنه قد التجأ إلى الرب الذي لن يتخلى عن الصارخين إليه أبداً.
«١٠ عَلِّمْنِي أَنْ أَعْمَلَ رِضَاكَ، لأَنَّكَ أَنْتَ إِلٰهِي. رُوحُكَ ٱلصَّالِحُ يَهْدِينِي فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ. ١١ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِكَ يَا رَبُّ تُحْيِينِي. بِعَدْلِكَ تُخْرِجُ مِنَ ٱلضِّيقِ نَفْسِي، ١٢ وَبِرَحْمَتِكَ تَسْتَأْصِلُ أَعْدَائِي وَتُبِيدُ كُلَّ مُضَايِقِي نَفْسِي، لأَنِّي أَنَا عَبْدُكَ».
(١٠ – ١٢) وهو يريد الآن أن يتتلمذ بين يدي الله ويطلب أن يتعلم كيف يرضي الله. ليس من قبيل التمليق بل لأنه يحبه بهذا المقدار فهو يلتمس أن يتمم مشيئته ولا يسكت عن ذلك حتى ينهي ما شرع به من قبل. هذا الإله المحب الكريم الذي لا يترك عبده بل يهديه في أرض مستوية مستقيمة فلا يضل السبيل بل يعرف أين يذهب ويؤكد لنفسه الوصول إلى المحجة التي يريدها (راجع نحميا ٩: ٢٠ وأيضاً إشعياء ٢٦: ٧). ويمكن ترجمته أرض مستوية بأرض ميسورة أي مملوءة باليسر بدلاً من العسر فهي طريق لا تضل السالكين فيها (راجع تثنية ٤: ٤٣ وإرميا ٤٨: ٢١). وفي هذه الأعداد أيضاً نتذكر بعض المزامير التي مرت بنا فقوله «علمني أن أعمل رضاك» (راجع مزمور ٤٠: ٩). وقوله لأنك أنت إلهي (راجع مزمور ٤٠: ٦) وقوله روحك الصالح. والأرض المستوية (راجع مزمور ٥١: ١٤ و٢٧: ١١) بل وبقية ما ورد من هذه التعابير التي أصبحت مألوفة في كتاب المزامير مما يدلنا بوضوح عن مدى اقتباس هذا المؤلف من مزامير سابقة مما لا يعطي مجالاً للشك أن الناظم غير داود بالطبع. وهو إن طلب الرحمة لنفسه فإنما يطلب لأجل اسم الرب الذي يحييه. ولأن الرب عادل فهو لا يسمح أن يبقى متقيه في ضيق نفس ومرارة حياة. وقوله تستأصل أعدائي يذكرنا (مزمور ٩٤: ٢٣) لأن هؤلاء قد تمادوا في طغيانهم وأرادوا أن يمحوا عبادة الرب من الأرض فليكن نصيبهم الإبادة ولا يكونون فيما بعد. ويطلب المرنم هذا الطلب لأنه يشعر أنه بالمقابلة مع هؤلاء الأعداء فهو في حفظ بيد الله وأما اولئك فللهلاك والدمار لا محالة سائرون.
السابق |
التالي |