سفر المزامير | 140 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلأَرْبَعُونَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
«١ أَنْقِذْنِي يَا رَبُّ مِنْ أَهْلِ ٱلشَّرِّ. مِنْ رَجُلِ ٱلظُّلْمِ ٱحْفَظْنِي. ٢ ٱلَّذِينَ يَتَفَكَّرُونَ بِشُرُورٍ فِي قُلُوبِهِمْ. ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ يَجْتَمِعُونَ لِلْقِتَالِ. ٣ سَنُّوا أَلْسِنَتَهُمْ كَحَيَّةٍ. حُمَةُ ٱلأُفْعُوانِ تَحْتَ شِفَاهِهِمْ. سِلاَهْ».
هذا المزمور هو صرخة استنجاد من قلب مؤمن متألم. فهو محاط بالأعداء الذين يظهرون العطف ويضمرون ضده. هم أشبه بالحية اللينة الملمس ولكنها تلدغ ولا تشفق على أحد على حد قول الشاعر:
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها | عند التقلب في أنيابها العطب |
وهذا المزمور هو جريء أكثر مما هو جميل ويمكن نسبته للنسق الداودي حينما كان يصرخ داود طالباً النجدة من يد الله على أعدائه الكثيرين ولا سيما من يد أبشالوم ابنه. ولا يغرب عن بالنا مشابهة هذا المزمور للمزمورين ٥٨ و٦٤. ولا سيما أن ختام هذه المزامير هي متشابهة للغاية وتحوي مرارة قوية ضد الأعداء الذين يوجه غضبه ونقمته عليهم.
(١ – ٣) إن أهل الشر هم الذين يحيطون الناس بفخاخهم وينصبون لهم الأشراك حتى يقعوا فيها. وهم أقوياء مملؤون بالعنف والمفاسد فيرتكبوا جميع الموبقات والمظالم. هم في الوقت نفسه يصمّمون على الشر ويفتكرون به طويلاً لذلك هم مجرمون عن سابق تصور وتصميم. ولأنهم كذلك فهم يلهجون بالقتال اليوم كله ويضعون الخطط لارتكاب ما يرتكبون. ونجدهم يسنون ألسنتهم كما يسنون سكاكينهم وأدوات حربهم بالتمام (راجع مزمور ٦٤: ٤ و٥٨: ٥). وهذه الألسنة هي أشبه بحمة الأفعوان فينفث بها سمّه للقتال. فهؤلاء الأشرار إذن هم جريئون على ارتكاب الشر على قدر ما يضمرونه في قلوبهم فهم لهم حمة الأفعوان كما لهم عضته المميتة أيضاً. ولذلك فهم يفكرون الأفكار الخبيثة ولا يطول بهم الوقت حتى ينفذوها. فهم قوالون فعالون ولكنهم للشر والهلاك لسوء الحظ.
«٤ ٱحْفَظْنِي يَا رَبُّ مِنْ يَدَيِ ٱلشِّرِّيرِ. مِنْ رَجُلِ ٱلظُّلْمِ أَنْقِذْنِي. ٱلَّذِينَ تَفَكَّرُوا فِي تَعْثِيرِ خُطُوَاتِي. ٥ أَخْفَى لِي ٱلْمُسْتَكْبِرُونَ فَخّاً وَحِبَالاً. مَدُّوا شَبَكَةً بِجَانِبِ ٱلطَّرِيقِ. وَضَعُوا لِي أَشْرَاكاً. سِلاَهْ. ٦ قُلْتُ لِلرَّبِّ: أَنْتَ إِلٰهِي. أَصْغِ يَا رَبُّ إِلَى صَوْتِ تَضَرُّعَاتِي. ٧ يَا رَبُّ ٱلسَّيِّدُ، قُوَّةَ خَلاَصِي، ظَلَّلْتَ رَأْسِي فِي يَوْمِ ٱلْقِتَالِ. ٨ لاَ تُعْطِ يَا رَبُّ شَهَوَاتِ ٱلشِّرِّيرِ. لاَ تُنَجِّحْ مَقَاصِدَهُ. يَتَرَفَّعُونَ. سِلاَهْ. ٩ أَمَّا رُؤُوسُ ٱلْمُحِيطِينَ بِي فَشَقَاءُ شِفَاهِهِمْ يُغَطِّيهِمْ».
(٤ – ٥) يطلب من الله حفظاً لكي يتقي تلك الأيادي المرتفعة عليه بالعدوان لا سيما وهذا العدو هو رجل ظالم لا يخاف الله ولا يهاب أي إنسان. فهو الذي قد تفكر بأن يعرقل خطواته ويوقعه في التهلكة. ولا يبرح عن بالنا صورة الصياد الذي يبذل غاية جهده لكي يوقع الطيور في أحابيله فيصطادها. ونجد ذلك واضحاً في العدد السادس فقد صوّر لنا جيداً ماذا يفعل الصيادون للفتك بفريستهم. وفي حالة الشدة العظمى هذه ترتفع الموسيقى سلاه! لكي يعين الله بالشدائد وينقذ وينجي قبل فوات الأوان (راجع ١أخبار ١٨: ١٧ ونحميا ١١: ٢٤). وهذه الأحابيل والأشراك التي وضعوها تكاد تطبق على فرائسها وتنشب فيها ولا تستطيع حراكاً.
(٦ – ٩) هذا ما يفعله الأعداء به ولكن في وسط ضيقته العظيمة لا ينسى الله ويشعر بتلك العلاقة المتينة الكائنة بينهما. هذا الإله الذي يصغي للتضرعات ويستجيب الصلاة. هذا الإله مستعد ليخلص فكان ترساً في يوم القتال يظلل المؤمن به رأسه لئلا تصيبه السهام القاتلة (راجع إشعياء ٥٩: ١٧). ويلتمس في الوقت نفسه أن يفسد الرب مكايد الشرير ولا يسمح له أن ينال مآربه لأنها فظيعة وشريرة. أولئك الذين يفعلون بحسب فكر قلوبهم بكبرياء وغطرسة. ثم ترتفع الموسيقى سلاه مكررة طلب العون والنجدة.
وفي العدد التاسع نجد الأعداء ذوي رؤوس تحيط بالمرنم من كل جانب. هم يحيطون به كالجيش بالقلعة لكي ينظر من أي جهة يهاجمها بالعكس عن إحاطة الرب بالمؤمنين لكي يعينهم ويحميهم. ويطلب المرنم أن شفاه هؤلاء الأعداء تعود على أنفسهم أولاً بالضرر قبل أن تصيب المؤمنين.
«١٠ لِيَسْقُطْ عَلَيْهِمْ جَمْرٌ. لِيُسْقَطُوا فِي ٱلنَّارِ، وَفِي غَمَرَاتٍ، فَلاَ يَقُومُوا. ١١ رَجُلُ لِسَانٍ لاَ يَثْبُتُ فِي ٱلأَرْضِ. رَجُلُ ٱلظُّلْمِ يَصِيدُهُ ٱلشَّرُّ إِلَى هَلاَكِهِ. ١٢ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ ٱلرَّبَّ يُجْرِي حُكْماً لِلْمَسَاكِينِ وَحَقّاً لِلْبَائِسِينَ. ١٣ إِنَّمَا ٱلصِّدِّيقُونَ يَحْمَدُونَ ٱسْمَكَ. ٱلْمُسْتَقِيمُونَ يَجْلِسُونَ فِي حَضْرَتِكَ».
(١٠ – ١٣) وحينئذ فإن ألسنتهم هذه تصبح كالنار المحرقة التي تصيبهم أولاً بأذاها. وهكذا يسقطون في النار التي هم أشعلوها وأججوها وإن شاءوا فليسقطوا في الغمر العظيم وهم يحاولون أن يطفئوا أنفسهم من لهيب أنفسهم. ولا يغرب عن بالنا أن كلا النار والماء هما من أشد المخاطر الطبيعية التي يتعرض إليها الإنسان. لذلك فالمرنم يطلب من الله أن يهلكهم في أشد المخاطر طالما قد نصبوا من قبل أخطر الأشراك وأفظعها. وهكذا يرى أن الإنسان ذا اللسان الكذوب المرائي المحتال لا يمكن أن يبقى طويلاً وكذلك فإن الذي يصنع الشر لا بد أن يسقط في حبائله أولاً وينال عواقبه الوخيمة. فمن حاول أن يصطاد الآخرين أمسى أول المصيدين. ذلك لأن الله عادل وهو الذي لا يترك المساكين يتخبطون في ظلماتهم بل ينتشله إلى ملء النور والحياة الكريمة. وهكذا يجري الحق للذين قد امتهنهم الناس من قبل فعاشوا أذلاء يائسين منكوبين. ولا نكتم أن اللغة هنا تلبس حالة قشيبة من الانتعاش والبهجة فقد زال اليأس الذي استحوذ عليه من قبل وملأ قلبه الرجاء السعيد واضمحل الضعف من نفسه وأصبح في قوة. هو فرحان سعيد بالله القدير الذي يحوّل كل شيء لخدمة المؤمن كما أنه يستخدم الحوادث ليس للضرر بل لنفع الإنسان وتثبيته في الحق والحياة (راجع أيوب ٤٢: ٢). وهكذا يختم مزموره بحمد اسم الرب لأن ذلك هو واجب الصديقين الأول وبدلاً من أن يطردوا من أرض الأحياء إذا بهم يجلسون في حضرة الله لكي يتمتعوا بأمجاده كل حين. وأي شيء أسعد للمؤمن من أن يكون في حضرة الله العلوية لا شيء من اضطراب الدنيا وأتعابها يمكنها أن تزعزع سلامه.
السابق |
التالي |