سفر المزامير | 139 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلتَّاسِعُ وَٱلثَّلاَثُونَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ
«١ يَا رَبُّ، قَدِ ٱخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. ٢ أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ. ٣ مَسْلَكِي وَمَرْبَضِي ذَرَّيْتَ، وَكُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ».
لهذا المزمور نقاط عديدة مشتركة مع المزمور سابقه وهو سامي المعاني جليل الفوائد ولا سيما من الناحية التعليمية واللاهوتية ومن الناحية الشعرية أيضاً فهو يستحق أن يلحق بمزامير داود من جهة النسق العالي وإن لم يكن من جهة التأليف بالنسبة لكثرة الكلمات الآرامية الواردة فيه وهي تخص العصور المتأخرة في التاريخ اليهودي. ويستعمل المزمور هذه الكلمة «لداود» من قبيل التبرك وإنه يتبع النسق الداودي.
ينقسم المزمور إلى ثلاثة أقسام الأول من العدد ١ – ١٢ والثاني من ١٣ – ١٨ والثالث من ١٩: ٢٤. ويرى المرنم أن الله عالم بكل شيء وحاضر في كل مكان وعنايته الإلهية تحيط بالإنسان من كل جانب ولا يستطيع أحد أن يجد أي مهرب. ثم يتناول هذا الإنسان المخلوق بقدرة الله ويذكرنا بواجب الإنسان نحو خالقه. وأخيراً يلتفت إلى أعداء الله وينصحهم بالتوبة والرجوع قبل فوات الأوان. ومهما يكن من أمر فإن الناظم شاعر من الطبقة الأولى وأفكاره تلبس حلل الروعة والجمال وإن يكن أن اللغة العبرانية كانت قد امتزجت بالآرامية لا سيما بعد الرجوع من السبي ويظهر تأثير ذلك في سفري دانيال وعزرا على وجه خاص.
(١ – ٣) يذكرنا العدد الأول بما رود في مزمور ٢٣ وهذا العدد يرينا حالاً تلك العلاقة الوطيدة الكائنة بين الله والإنسان فالله وحده يختبر الإنسان في كل حالاته وهكذا يعرفه معرفة تامة. لذلك فهو الذي يعرفه لدى الجلوس أي في أوقات الراحة والطمأنينة كما أنه يعرفه في وقت القيام أي حينما ينهض للعمل ويتمم جميع الواجبات ولا يلزم الله قط أن يقارب للإنسان حتى يعرفه بل هو يعرفه من بعيد ولا يخفى عليه خافية. وهو يعرف كيف يسلك وأي الطرق يتبعها كما أنه يعرف أين يرتاح وكيف يجلس آمناً مطمئناً. ذلك لأن الرب نفسه يذريه أي يحميه ويقف حاجزاً بينه وبين عواصف الحياة. والرب يفعل ذلك لأنه يعرف حاجة الإنسان للنجدة ثم أهمية هذه النجدة وموافقتها للإنسان.
«٤ لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا. ٥ مِنْ خَلْفٍ وَمِنْ قُدَّامٍ حَاصَرْتَنِي، وَجَعَلْتَ عَلَيَّ يَدَكَ. ٦ عَجِيبَةٌ هٰذِهِ ٱلْمَعْرِفَةُ فَوْقِي. ٱرْتَفَعَتْ، لاَ أَسْتَطِيعُهَا. ٧ أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ ٨ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. ٩ إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ ٱلصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي ٱلْبَحْرِ، ١٠ فَهُنَاكَ أَيْضاً تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ».
(٤ – ٦) وهذه المعرفة الإلهية للإنسان تجعلها متسلطة على دقائق الأمور وحذافيرها حتى أن كلمة واحدة لا تفلت من اللسان إلا والرب قد عرفها من قبل. بل أن يد الله القديرة قد حاصرته من كل جانب أي لا تسمح له أن يتيه في الأرض ويفتخر كما يشاء (راجع أيوب ٩: ٢٣). وهذه اليد قديرة تصل إليه أينما كان فهو بعنايتها يحيا ولولاها لكان بين الهالكين. وكيف يمكن للإنسان أن يدرك هذه المعرفة التي تتسلط عليه كما يتسلط الهواء على رئتي الإنسان فلا يحيا بدون أن يستنشقه وكما يتسلط الماء على السمك السابح فيه. هي معرفة ليس بمقدور الإنسان الوصول إلى كنهها لأنها قد ارتفعت جداً لأنها سماوية وهو بين الأرضيين.
(٧ – ١٠) وأما الهرب هنا فمسبب عن الشعور بالخطية فيريد الإنسان أن يختبئ كما فعل الأب الأول آدم حينما ناداه الله أين أنت (راجع تكوين ٣: ٨ – ١٠). هذا الإله الموجود في كل مكان فهو يملأ السموات بمجده كما أنه جعل الأرض موطئاً لقدميه بل هو في أعماق الأودية السحيقة لأن لا علو عنده ولا عمق ولا بعد ولا قرب فهو في كل مكان. وهل يستطيع أن يهرب بأن يأخذ أجنحة يطير بها من أقصى الأرض إلى أقصاها كما ينتشر نور الصبح فيملأ الأفق البعيد بالأنوار وفي غير أمكنة يذكر جناحي الشمس (راجع ملاخي ٣: ٢٠) وأيضاً جناحي الريح (راجع مزمور ١٨: ١١). وهو يأخذ جناحين للطيران كما في (خروج ١٠: ١٦). حتى إذا استطعت أن أذهب بعيداً إلى أقاصي البحر المتوسط حيثما جزر الأمم. ولكن في تلك الأمكنة البعيدة هوذا الله موجود ليهدي ويشدّد ويقوّي.
«١١ فَقُلْتُ: إِنَّمَا ٱلظُّلْمَةُ تَغْشَانِي. فَٱللَّيْلُ يُضِيءُ حَوْلِي! ١٢ ٱلظُّلْمَةُ أَيْضاً لاَ تُظْلِمُ لَدَيْكَ، وَٱللَّيْلُ مِثْلَ ٱلنَّهَارِ يُضِيءُ. كَٱلظُّلْمَةِ هٰكَذَا ٱلنُّورُ. ١٣ لأَنَّكَ أَنْتَ ٱقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي. ١٤ أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ ٱمْتَزْتُ عَجَباً. عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذٰلِكَ يَقِيناً. ١٥ لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي حِينَمَا صُنِعْتُ فِي ٱلْخَفَاءِ وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ ٱلأَرْضِ. ١٦ رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَوَّرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا. ١٧ مَا أَكْرَمَ أَفْكَارَكَ يَا اَللّٰهُ عِنْدِي! مَا أَكْثَرَ جُمْلَتَهَا! ١٨ إِنْ أُحْصِهَا فَهِيَ أَكْثَرُ مِنَ ٱلرَّمْلِ. ٱسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكَ».
(١١ – ١٢) يعود أخيراً بعد أن يرى الأبعاد لا شيء في نظر الله إلى آخر ملجأ يلتجئ إليه الشرير وهو الظلام فيحاول أن يختفي تحت أستاره ولكن الله هو النور ذاته فهل يجتمع النور والظلام معاً؟ وهوذا الليل يضمحل متبدداً أمام الضوء المشرق من العلاء. إن الليل هو في نظر الإنسان فقط وإن الظلمة هي في البعد عن الله ليس إلا إذن لا ليل ولا نهار في عيني الله لأنه وحده فوق جميع خلائقه فهو الذي يتسلط عليها ويتحكم بها بحسب مشيئته الإلهية.
(١٣ – ١٨) هذا الإله القادر على كل شيء والحاضر في كل مكان والعالم بكل شيء هو نفسه يعرف هذا الإنسان لأنه صوّره ونسجه في بطن أمه لذلك فهو يعرف دخائله بالتمام ليس للإنسان إلا أن يحمده من كل جوارحه لا سيما والإنسان يفعل ذلك وهو مأخوذ بعاطفة التعجب من كل ما يختبره وحينئذ يعود إلى نفسه ويتأكد هذه الحقيقة الماثلة أمام عينيه. حتى أن العظام في مراكزها الداخلية في الجسم كانت ظاهرة أمام الله وإن تكن قد صيغت بعيدة عن أي الأنظار (راجع أيوب ١: ٢١).
وقد رأى الله أعضاء الإنسان وكوّنها وعرف تفاصيلها وكتبها في سفره حتى تأخذ شكلها الذي يعينه وتقوم بوظائفها المرتبة المعروفة. وهكذا فإن الله قد عرف الإنسان وهو جنين لأن الزمان عنده غير محدود. ولذلك فأفكار الله كريمة وواسعة لأنها تشمل كل شيء وهي في العدد مثل الرمل الذي لا يحصى. وهي مرقومة في كتابه العزيز حيث يخبرنا عن أعمال الخليقة والمرنم يقرأ ذلك ويتعب من كثرة المراجعات حتى ينام وإذا به يستيقظ بعد ذلك ويجد نفسه لا يزال يطالع ما كتبه الله عن أعماله العظيمة.
«١٩ لَيْتَكَ تَقْتُلُ ٱلأَشْرَارَ يَا اَللّٰهُ. فَيَا رِجَالَ ٱلدِّمَاءِ ٱبْعُدُوا عَنِّي. ٢٠ ٱلَّذِينَ يُكَلِّمُونَكَ بِٱلْمَكْرِ نَاطِقِينَ بِٱلْكَذِبِ، هُمْ أَعْدَاؤُكَ. ٢١ أَلاَ أُبْغِضُ مُبْغِضِيكَ يَا رَبُّ وَأَمْقُتُ مُقَاوِمِيكَ؟ ٢٢ بُغْضاً تَامّاً أَبْغَضْتُهُمْ. صَارُوا لِي أَعْدَاءً. ٢٣ ٱخْتَبِرْنِي يَا اَللّٰهُ وَٱعْرِفْ قَلْبِي. ٱمْتَحِنِّي وَٱعْرِفْ أَفْكَارِي. ٢٤ وَٱنْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَٱهْدِنِي طَرِيقاً أَبَدِيّاً».
(١٩ – ٢١) لقد أكثر المرنم من تأملاته الروحية في هذه الخليقة العجيبة التي تشمل العالمين جميعها والتي تشمل الإنسان هذا المخلوق العجيب الذي هو زينة مخلوقات الله. وقد سما في تفكيره إلى أعلى المراتب وحاول أن يدمج نفسه بين عباد الله الصالحين الذين يطالعون الكتاب ويأتمرون بأوامره ولا يغرب عن باله أن يرى الشواهد ناطقة بعظمة الخالق التي لا تستقصى. وفي العدد ١٩ نكاد نذهل من هذا الهبوط المفاجئ فيطلب أن يقتل الأشرار الذين لا يؤمنون بالله بل قد نكثوا العهود وخانوا المواثيق حتى أراقوا الدماء فلا عجب أن تهرق دماؤهم هم بدورهم الآن. نشعر بالألم الذي يشعر به المرنم من أناس أشرار لا يتورعون عن القتل وهم يفعلونه بالمكيدة والمكر بينما يتظاهرون بعكس ما يضمرون. هم كذابون أعداء الله وشبعه. وفي العدد ٢١ يسائل نفسه ما هو الواجب عليه تجاه حالة كهذه؟ ألا يغار غيرة للرب كما فعل إيليا (راجع ١ملوك ١٩: ١٠). ولا يطول به الوقت حتى يجاوب نفسه ويقول أنه يبغضهم ويعاديهم إلى التمام.
(٢٢ – ٢٤) و هل بغض الأعداء لأجل الرب إلا فضيلة في نظره؟ لأنه لا يستطيع أن يتساهل مع أي الأشياء التي تفسد عليه إيمانه بالله كما لا يستطيع أن يتساهل مع أولئك الوثنيين من سكان الأمم الذين قد احتقروا إله إسرائيل واضطهدوا شعبه إلى أبعد الحدود.
وأخيراً يعود المرنم إلى نفسه لكي يطلب من الله أن يفحصه ويختبره ويرى هل فيه أمور ملتوية باطلة (راجع إرميا ٦: ١٦ وأيضاً أيوب ٢٢: ١٥ وإرميا ١٨: ١٥). وهل سلوكه أعوج غير صالح ولا مستقيم ويود أن يهتدي للطريق الأبدي الذي يسلك فيه على الدوام. لأن طريق الخطأ لا يوصل إلا إلى الهلاك ومن الحكمة إنما العودة عنه بأول فرصة سانحة وبأسرع وقت ممكن.
السابق |
التالي |