سفر المزامير | 102 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّانِي
صَلاَةٌ لِمِسْكِينٍ إِذَا أَعْيَا وَسَكَبَ شَكْوَاهُ قُدَّامَ ٱللّٰهِ
«١ يَا رَبُّ ٱسْتَمِعْ صَلاَتِي، وَلْيَدْخُلْ إِلَيْكَ صُرَاخِي. ٢ لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي فِي يَوْمِ ضِيقِي. أَمِلْ إِلَيَّ أُذُنَكَ فِي يَوْمِ أَدْعُوكَ. ٱسْتَجِبْ لِي سَرِيعاً. ٣ لأَنَّ أَيَّامِي قَدْ فَنِيَتْ فِي دُخَانٍ، وَعِظَامِي مِثْلُ وَقِيدٍ قَدْ يَبِسَتْ».
إذا حسبنا المزمور المئة والواحد تنهدة عميقة فإن هذا المزمور هو صلاة كما نجد ذلك في العنوان. وليس من الضروري أن يكون المرنم قد كتب هذا عن اختبارات شخصية أم أنه يكتب بلسان شعب الله. فهو يستعمل لغة التثنية وإشعياء كما أنه مطلع تماماً على المزامير السابقة لأيامه. وهو وإن يكن قادراً أن يحلق الى أجواء عالية من التفكير والاختبار الروحي فهو في الوقت ذاته يأخذ عن السابقين ما يجده مناسباً وجميلاً.
(١ – ٣) موضوع المزمور مما يلفت الأنظار إذ يخبرنا عن مسكين قد ناء بحمله ولم يستطع السير بعد فلم يجد أفضل من الشكوى أمام الله. فإذن صلاته هي شكواه أيضاً. فيبدأ بتعبير مألوف جداً مما يكثر وروده على الذهن وبالتالي يتكلم به الفم بكل جلاء وبيان ولا يشعر المطالع أنه في بيئة غريبة عن بقية المزامير (قابل مع المزمور ٣٩: ١٣ و١٨: ٧ و٨٨: ٣). فيطلب من الله أن يسمع صلاته وهكذا يريد أن يدخل حالاً في حضرته تعالى. ويلتمس من الله أن يسنده في الضيق ويلتفت إليه معيناً ويسمعه مستغيثاً (قابل مع المزمور ٢٧: ٩ و٥٩: ١٧ و٣١: ٣ و٥٦: ١٠ و٦٩: ١٨ و١٤٣: ٧). وهو يطلب أن يستجاب له سريعاً قبل فوات الأوان فهو في حالة لا تسمح له بالانتظار أو إنه في حالة قد انتظر فيها طويلاً ولم يعد من مجال للسكوت بعد. وفي العدد الثالث نرى المرنم يستعمل تعابيره الخاصة فيرينا صورة موقدة وفيها دخان متصاعد وعظامه ذاتها هي الوقيد. ويوجد دخان لأن النار غير مشتعلة جيداً وهو في مصائب كثيرة تكاد تفنيه ولكنه لم يفن تماماً إذ لا يزال فيه بقية وإن يكن في حالة محزنة.
«٤ مَلْفُوحٌ كَٱلْعُشْبِ وَيَابِسٌ قَلْبِي حَتَّى سَهَوْتُ عَنْ أَكْلِ خُبْزِي. ٥ مِنْ صَوْتِ تَنَهُّدِي لَصِقَ عَظْمِي بِلَحْمِي. ٦ أَشْبَهْتُ قُوقَ ٱلْبَرِّيَّةِ. صِرْتُ مِثْلَ بُومَةِ ٱلْخِرَبِ. ٧ سَهِدْتُ وَصِرْتُ كَعُصْفُورٍ مُنْفَرِدٍ عَلَى ٱلسَّطْحِ. ٨ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ عَيَّرَنِي أَعْدَائِيَ. ٱلْحَنِقُونَ عَلَيَّ حَلَفُوا عَلَيَّ. ٩ إِنِّي قَدْ أَكَلْتُ ٱلرَّمَادَ مِثْلَ ٱلْخُبْزِ، وَمَزَجْتُ شَرَابِي بِدُمُوعٍ».
(٤ – ٥) ينتقل بنا المرنم إلى صورة أخرى وهي كثيرة الوجود في بلادنا إذ نرى عشباً ملفوحاً من شدة الحرارة لا سيما إذا تعوّق المطر عن النزول وحينئذ فكثير من المزروعات والأعشاب تتلف بسبب طول الجفاف. وهكذا كان قلبه فقد نضب منه دم الحياة المنعش المحيي (راجع هوشع ٩: ١٦ وقابله مع مزمور ١٢١: ٦) وضربة الشمس موجودة بكثرة في هذه البلاد (راجع ٢ملوك ٤: ١٩). وكانت مصيبة عظيمة هكذا حتى لم ينتبه لنفسه ولم يأكل شيئاً. وإذا به بعد ذلك ينشف ويصبح عظمه ولحمه شيئاً واحداً. وهذه التنهدات الطويلة المستمرة بالفعل تضني الجسم وتورده موارد العطب.
(٦ – ٨) قد يكون «قوق البرية» هو الذي يسميه العامة «القاق» أي نوع من أنواع الغربان الليلية أو أنه البومة الصغرى ذات القرون. وهو يشبّه نفسه هكذا دليل الشؤم من كثرة هذا التنهد الذي طال أمده فأصبح صراخه وتنهده أشبه بهذه الأصوات الحزينة التي تملأ نفوس سامعيها بالتعاسة والشقاء. وكلا البوم والغراب من الطيور النجسة المكروهة من قديم الزمان. بل يشبه نفسه بعصفور والأرجح «دوري» فهو على ما يظهر قديم جداً في هذه البلاد. وهو يراه عصفوراً منفرداً كما يرى على سطوح المنازل ولا سيما في الطقس البارد. ومما زاد في بليته أن أعداءه قد شمتوا به ولا من مشفق بل وجد البعض منهم قد توعده وحلفوا عليه بالهلاك والدمار.
(٩) وهو لفرط بليته قد أكل خبزه مزيجاً بالرماد. والأرجح أنه قد خبز في بيته ولم تكن صنعته جيدة قاصداً أن يأكل خبز ملة أي يحمي الرماد ويلصق العجين عليه حتى يخبز وكانت النتيجة أنه أكل خبزه مملوءاً بالرماد كما أنه شرب دموعه من كثرة ما بكى على نفسه تاعساً شقياً وحيداً منفرداً لا يهتم به أحد سوى الهزء والشماتة والسخرية. أو أنه لكثرة ما جلس في الرماد دليل حزنه وآلامه النفسية المتزايدة.
«١٠ بِسَبَبِ غَضَبِكَ وَسَخَطِكَ، لأَنَّكَ حَمَلْتَنِي وَطَرَحْتَنِي. ١١ أَيَّامِي كَظِلٍّ مَائِلٍ، وَأَنَا مِثْلُ ٱلْعُشْبِ يَبِسْتُ. ١٢ أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَإِلَى ٱلدَّهْرِ جَالِسٌ، وَذِكْرُكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. ١٣ أَنْتَ تَقُومُ وَتَرْحَمُ صِهْيَوْنَ، لأَنَّهُ وَقْتُ ٱلرَّأْفَةِ، لأَنَّهُ جَاءَ ٱلْمِيعَادُ. ١٤ لأَنَّ عَبِيدَكَ قَدْ سُرُّوا بِحِجَارَتِهَا وَحَنُّوا إِلَى تُرَابِهَا. ١٥ فَتَخْشَى ٱلأُمَمُ ٱسْمَ ٱلرَّبِّ وَكُلُّ مُلُوكِ ٱلأَرْضِ مَجْدَكَ».
(١ – ١١) ويعزو السبب كله لأن الله غير راض عنه لذلك فهو وحيد حتى أن إلهه نفسه لم يعره أي اهتمام فنبذه خارجاً نبذ النواة فارتمى يئن متأسفاً على نفسه لا شيء يعزيه في حالته السيئة هذه (انظر أيوب ٣٠: ٢٢) فإن الله قد أزال الأرض من تحته فلم يعد واقفاً على أرض راسخة ثابتة وكانت النتيجة أن أصبحت أيامه سريعة الزوال كما هي حالة الظل المائل نحو المغيب فهو لا يكاد يهدأ في مكان واحد. بل هو أشبه بالعشب اليابس وقد مر الكلام عن ذلك حتى أنه لم يعد ينفع لشيء سوى أن يطرح للنار فيحترق. فهو مثل العشب الذي اقتلع من جذوره فيبس من شدة الحرارة وهو كذلك بحرارة زفيره الملتهب.
(١٢ – ١٤) ولكنه يعود بالإيمان إلى الله ويراه جالساً على عرشه وهو راي المرنم – لا يفتأ يذكره كما فعل آباؤه وجدوده من قبل. إنه قد خسر الصحة ربما ولكنه لم يخسر الإيمان. وهنا يجد مجالاً للكلام عن آلامه وليس عن نفسه فقط فيطلب لها الرحمة والرضا. ذلك لأنه يرى أن الوقت قد حان. يوجد زمان معيّن برحمة الله لا يمكن إلا أن يتم وحيئنذ يعود الرب فيرضى ويشفق (انظر مزمور ٧٥: ٣ وحبقوق ٢: ٣). وهو وقت الفداء بعد وقت الافتقاد فإذن الله يؤدب ولا ينسى ويهدي ولا يترك نفوسنا في الأحزان.
(١٤ – ١٥) حينما يقرأ الإنسان هذا العدد الرابع عشر تتحرك عواطفه ويرى أن هذا الشعب المبعد الغريب الديار يلتمس رجوعاً لأنه يفرح بحجارة أورشليم ويحن إلى التراب نفسه الذي تدوسه الأقدام. فإذن عبيد الرب لا يحبون بابل ولا ينعمون فيها أبداً بل يتمنون الرجوع (نحميا ٣: ٢٤ و٤: ٢). وحينئذ يكتشفون الحجارة من بين المزابل ليرجعوها إلى أماكنها على قدر الإمكان. ولكنه في الوقت نفسه يمد بصره بالإيمان إلى زمان أفضل حينما يعرف اسم الرب لدى الناس جميعاً فيخشاه الملوك وتتعبد له الشعوب.
«١٦ إِذَا بَنَى ٱلرَّبُّ صِهْيَوْنَ يُرَى بِمَجْدِهِ. ١٧ ٱلْتَفَتَ إِلَى صَلاَةِ ٱلْمُضْطَرِّ، وَلَمْ يَرْذُلْ دُعَاءَهُمْ. ١٨ يُكْتَبُ هٰذَا لِلدَّوْرِ ٱلآخِرِ، وَشَعْبٌ سَوْفَ يُخْلَقُ يُسَبِّحُ ٱلرَّبَّ. ١٩ لأَنَّهُ أَشْرَفَ مِنْ عُلْوِ قُدْسِهِ. ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ إِلَى ٱلأَرْضِ نَظَرَ ٢٠ لِيَسْمَعَ أَنِينَ ٱلأَسِيرِ، لِيُطْلِقَ بَنِي ٱلْمَوْتِ، ٢١ لِكَيْ يُحَدَّثَ فِي صِهْيَوْنَ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ وَبِتَسْبِيحِهِ فِي أُورُشَلِيمَ ٢٢ عِنْدَ ٱجْتِمَاعِ ٱلشُّعُوبِ مَعاً وَٱلْمَمَالِكِ لِعِبَادَةِ ٱلرَّبِّ».
إن الله يتمم وعده وحينئذ يتحقق حلم المنتظرين. فهم يصبرون على شيء ثم يحصلون عليه بوجه التحقيق (راجع إشعياء ٤٠ – ٤٦ وقابل ذلك مع (إشعياء ٥٩: ١٩ و٦٠: ٢). كذلك انظر إشعياء ٤٠: ١ – ٥).
(١٦) يضع هنا أمامنا لماذا يمتد اسمه بين الشعوب فالسبب هو لأنه يبني صهيون ويضع مجده فيها. لذلك فليس المجد من البشر مهما عظموا بل الرب نفسه هو الذي يعيدهم ويثبتهم ولا يتركهم فيما بعد. وقوله في (العدد ١٧) صلاة المضطر أي صلاة العائدين من السبي منهم في حالة العري والضعف والغربة والمذلة وهكذا هم في نظر الناس لا يرجى منهم أي خير ولا يكتب لهم أي نجاح. ولكن الله لا يرذلهم ولو كانوا في هذه الحالة المرذولة لأن شفقته أعظم من بؤسهم فيستطيع أن يصل إليهم ولو كانوا في الأعماق.
(١٨ – ٢٢) وهذا وعد الحاضر للمستقبل. ولأنه قد تمت مواعيد سابقة فهكذا ستتم مواعيد لاحقة. حتى أن الأحفاد يعرفون أن دور الأجداد يتحقق فيهم أيضاً. سيكتب الله لهم المواعيد تترى بحيث لا يتم الواحد حتى يبدأ الآخر. ذلك لأن هذا الإله ليس بعيداً بل قد التفت من السماء ونظر بؤس البائسين فتحنن عليهم وأشفق على المصابين فسندهم في ضيقاتهم وقواهم للصمود بعد. فهو الذي يسمع الأسير – لأن هؤلاء المسبيين هم في حالة أشبه ما يكون بحالة الأسر لا يستطيعون الذهاب أو الحراك. بل هم قد حكم عليهم بالموت بالنسبة لسوء الحالة التي هم فيها. ولكنه يعود فيلتفت إلى رحمة الرب مرة أخرى فيجد فيها عزاء وقوة ويذيع تسبيح الإله العظيم في أورشليم مكان قدسه. فتكون أورشليم حينئذ ملتقى جميع الشعوب ومجتمع الممالك (انظر إشعياء ٦٠: ٤) إنه لزمان مجيد عظيم يتم فيه ذلك الخلاص الموعود والفداء الذي يعم البشر بواسطة أورشليم ومبتدءاً من أورشليم ذاتها.
«٢٣ ضَعَّفَ فِي ٱلطَّرِيقِ قُوَّتِي. قَصَّرَ أَيَّامِي. ٢٤ أَقُولُ: يَا إِلٰهِي لاَ تَقْبِضْنِي فِي نِصْفِ أَيَّامِي. إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ سِنُوكَ. ٢٥ مِنْ قِدَمٍ أَسَّسْتَ ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. ٢٦ هِيَ تَبِيدُ وَأَنْتَ تَبْقَى، وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى، كَرِدَاءٍ تُغَيِّرُهُنَّ فَتَتَغَيَّرُ. ٢٧ وَأَنْتَ هُوَ وَسِنُوكَ لَنْ تَنْتَهِيَ. ٢٨ أَبْنَاءُ عَبِيدِكَ يَسْكُنُونَ، وَذُرِّيَّتُهُمْ تُثَبَّتُ أَمَامَكَ».
(٢٣ – ٢٨) نعجب كيف يعود المرنم إلى نفسه ويخبرنا عن أشياء شخصية أصابته هو نفسه. فيقول إنه ضعيف العزيمة خائر القوى. فقد كانت طريقه متعبة شاقة (انظر تثنية ٨: ٢). بل يرى أن هذه المصائب قد قصرت حياته فهو في هم مقيم لذلك فهو يخاف أن يموت قبل أن يبلغ آخر الشوط. ويرجو الله أن يطيل عمره بعد حتى ينهي سيرته ويتمم رسالته. وكان الأوفق له أن يموت مبكراً في أول الطريق ولا يموت الآن في نصفها. فإن الذي ينقطع كان الأوفق له أن لا يسافر بدلاً من أن لا يتم سفرته ولا يصل إلى مبتغاه. ويلتفت إلى الله فيجده هو الباقي وحده بينما البشر زائلون وإذا كان يأسف لشيء فهو أن يُقبض إلى خالقه قبل أن يرى تمام الخلاص. ذلك الإله الذي بيده الأرض والسموات وقد أسس الأولى ثابتة وصنع الثانية بيديه ولكن هذه الأرض ذاتها متغيرة وهذه السموات متقلبة دائرة مثل ثوب يبلى ومثل رداء سريع التحول والتغير ولكن الله الخالق العظيم هو وحده الحي الباقي إلى أبد الآبدين.
وثم يلتفت إلى عبيد الله المؤمنين فيرى أنهم ولو ذهبوا هم فإن أبناءهم يسكنون الأرض ويثبتون فيها بواسطة ذراريهم. إذن فوعد الله صادق وأمين لا بد أن يتم إن لم يكن مع الآباء فهو سيتم مع الأبناء. ويستعمل كاتب سفر العبرانيين (الأعداد ٢٥ – ٢٧). ويمجد بها المسيح. فهو الذي يأتي أيضاً ليدين العالمين لأنه جاء أولاً لكي يفديهم.
السابق |
التالي |