سفر المزامير | 103 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلثَّالِثُ
لِدَاوُدَ
«١ بَارِكِي يَا نَفْسِي ٱلرَّبَّ، وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ ٱسْمَهُ ٱلْقُدُّوسَ. ٢ بَارِكِي يَا نَفْسِي ٱلرَّبَّ، وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ. ٣ ٱلَّذِي يَغْفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكِ. ٱلَّذِي يَشْفِي كُلَّ أَمْرَاضِكِ».
وضع كلمة «لداود» لا يدل دلالة قاطعة أن داود هو صاحب المزمور إذ لا اللغة ولا ترتيب الأفكار مما يساعد على هذا الزعم. فهذا المزمور المملوء بالتفكير العميق واللهجة القديمة له تلوين آرامي مثل (المزامير ١٠٦ و١٢٤ و١٣٩). وهي شبيهة اللغة بـِ (٢ملوك ٤: ١ – ٧ وكذلك إرميا ١١: ١٥). وهذا المزمور ينقسم إلى أربعة أقسام وهي من (الأعداد ١ – ٥ وثم ٦ – ١٠ و١١ – ١٤ و١٥ – ١٨ و١٩ – ٢٢).
(١ – ٣) يلتفت المرنم إلى نفسه ويخاطبها لكي تبارك الرب لأن منه النعمة التي تفتدي وتخلص وتعزي وترفع للأعالي. وهذا الالتفات البياني مؤثر جداً فهو لا يخاطب نفسه فقط بل يجعلها تتكلم كأنه غريب عنها وهو يلتفت إلى باطنه أيضاً من قبيل التوكيد. ويكرر هذه العبارة «باركي يا نفسي الرب». من قبيل التوكيد أيضاً. فيذكر أولاً حسنات الرب. لأن كل ما يفعله الرب هو حسن في حد ذاته (راجع تكوين ١) فإن أعمال الخلق كلها حسنة فلم ينته نهار إلا ويكون ختامه حسناً مثل بداءته. ولكن الإنسان ينسى هذه الحسنات المتكررة ولا يفطن لها بالنسبة لاعتياده عليها حتى لا يحسبها حسنات وأما النسيان فهو رذيلة بحد ذاته في الأمور البسيطة المتداولة بين الناس فكم بالأحرى حينما ننسى ما يفعله الله نحونا من خيرات. ويبدأ بتعداد هذه الحسنات فيذكر الغفران لأن الرب لا يحاسبنا على ما نستحق بل على نسبة محبته العظيمة الفائقة. ثم يذكر أنه يشفي أمراضنا فهو طبيبنا الشافي الحقيقي وحده. وليس من الضروري أن يعني شفاء الأمراض الجسدية فقط بل قد تتناول الأمراض العقلية والروحية على السواء (راجع تثنية ٢٩: ٢١ وقابل مع ١أخبار ٢١: ١٩).
«٤ ٱلَّذِي يَفْدِي مِنَ ٱلْحُفْرَةِ حَيَاتَكِ. ٱلَّذِي يُكَلِّلُكِ بِٱلرَّحْمَةِ وَٱلرَّأْفَةِ. ٥ ٱلَّذِي يُشْبِعُ بِٱلْخَيْرِ عُمْرَكِ، فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ ٱلنَّسْرِ شَبَابُكِ. ٦ اَلرَّبُّ مُجْرِي ٱلْعَدْلَ وَٱلْقَضَاءَ لِجَمِيعِ ٱلْمَظْلُومِينَ. ٧ عَرَّفَ مُوسَى طُرُقَهُ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ أَفْعَالَهُ. ٨ ٱلرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ ٱلرُّوحِ وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ. ٩ لاَ يُحَاكِمُ إِلَى ٱلأَبَدِ وَلاَ يَحْقِدُ إِلَى ٱلدَّهْرِ».
(٤ – ٥) يقصد بالحفرة هنا أي الهاوية «شيأول» فإن الإنسان عندما يفقد الحياة ينزل إلى هناك لأنها مسكن الأموات وحينئذ يضع الله على رأس الإنسان إكليلاً من الرحمة والرأفة. إذن لنا من هذا أن الإنسان يحيا برحمة الله ورأفته وبدونهما لا حياة فيه ولا صحة. وليس ذلك فقط بل يستمر خيره على طول العمر فنشبع منه وهكذا تمر بنا الحياة كريمة قوية صالحة. ويقول إن النسر هو عنوان تجدد الشباب وطول العمر فبعد أن يبلغ من العمر عدداً من السنين إذا به يظهر بمظهر القوة والسطوة لأنه ملك الهواء.
(٦ – ٩) بل هو الله الذي يقضي بالعدل والإنصاف للجميع ولا سيما للمظلومين الذين لا يعترف البشر بحقوقهم فإن الله ذاته يعترف بها ويجريها. هو إله حنون ورحيم فكيف تغفل عينه عن أي المكروبين. وبعد ذلك يراجع التاريخ فيذكر موسى وأيامه الأول كيف استطاع أن يقود شعب الله لأن الله نفسه أرشده بعمود السحاب وخلص شعبه بواسطته بيد قديرة وحكمة مدبرة. ذلك الإله الرحيم الرؤوف يكرر هاتين الصفتين ويؤكدهما في القسم الثاني من العدد ذاته. وحينما يقول عرف موسى طرقه يشير المرنم إلى صلاة موسى (راجع خروج ٣٣: ١٣). وهو لا يحاكم إلى الأبد أي أنه لا يحاسب الناس على أغلاطهم ويحفظها ضدهم لئلا ييئسوا بل يفسح لهم مجال التوبة والرجوع إليه. ومع أنه إله قدوس ولا يرضى الشر فهو غير حقود على أحد لأنه يريد جميع البشر يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون.
«١٠ لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا، وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثَامِنَا. ١١ لأَنَّهُ مِثْلُ ٱرْتِفَاعِ ٱلسَّمَاوَاتِ فَوْقَ ٱلأَرْضِ قَوِيَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى خَائِفِيهِ. ١٢ كَبُعْدِ ٱلْمَشْرِقِ مِنَ ٱلْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا. ١٣ كَمَا يَتَرَأَّفُ ٱلأَبُ عَلَى ٱلْبَنِينَ يَتَرَأَّفُ ٱلرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ. ١٤ لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا. يَذْكُرُ أَنَّنَا تُرَابٌ نَحْنُ. ١٥ ٱلإِنْسَانُ مِثْلُ ٱلْعُشْبِ أَيَّامُهُ. كَزَهْرِ ٱلْحَقْلِ كَذٰلِكَ يُزْهِرُ».
(١٠) وهو رحيم رؤوف لأنه لا يعمل حسب الاستحقاق ولا يغضب طويلاً وإذا غضب فغضبه فقط على الخطيئة لا على الخاطئ بل يطلب من الخاطئ أن يعود عن غيه وعن آثامه لأن لا حياة فيه بدون ذلك. فرحمته إذن هي النهر الجاري وخطايانا هي التحولات في مجرى النهر فنمنع عنا ماءه الذي يروي العطشان ويسقي الأراضي. إذا جازى الله الإنسان كفعله يصبح شبيهاً بالإنسان بينما الله هو شبيه بذاته فقط وعلينا أن نعمل مشيئته لننال بركته ليس إلا.
(١١ – ١٤) في هذه الأعداد يقدم لنا المرنم تشابيه مختلفة لكي تقرب المعاني إلى أفهامنا فكما ترتفع السماء عن الأرض هكذا ترتفع رحمته على خائفيه الحافظين شهاداته السائرين في طريقه المستقيم. وهو من فرط محبته قد أبعد عنا المعاصي لكي لا نتذكرها فيما بعد بل يتوجب علينا أن ننساها أي لا نعود إليها قط. وفي قوله كما يترأف الأب يوجد مسحة من العهد الجديد إذ يشبه محبة الله بمحبة الآب لبنيه. هو الله الذي يعرف الإنسان لأنه خلقه وجبله من تراب الأرض لذلك يشفق عليه وعلى ضعفه وخطيئته ويريده أن يعود إليه بالتوبة وطلب الغفران (راجع أيوب ١١: ١١ و٢٨: ٢٣ وقابل ذلك مع أيوب ٧: ٧ وأيضاً مزمور ٧٨: ٣٩ و٨٩: ٤٨).
(١٥) والتشبيه بأن الإنسان كالعشب هو شيء قديم جداً (راجع مزمور ١٥: ٥ وما بعده وقابله مع إشعياء ٤٠: ٦ – ٨ و٥١: ١٢). فما هي مدة حياة الإنسان بالنسبة للأرض والجبال والبحار. فهو سريع الزوال كالعشب وله أيضاً مجد وجمال كالعشب بما فيه من زهور جميلة واخضرار خلاب (انظر إشعياء ٤٠: ٧ وما بعده).
«١٦ لأَنَّ رِيحاً تَعْبُرُ عَلَيْهِ فَلاَ يَكُونُ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مَوْضِعُهُ بَعْدُ. ١٧ أَمَّا رَحْمَةُ ٱلرَّبِّ فَإِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ عَلَى خَائِفِيهِ، وَعَدْلُهُ عَلَى بَنِي ٱلْبَنِينَ، ١٨ لِحَافِظِي عَهْدِهِ وَذَاكِرِي وَصَايَاهُ لِيَعْمَلُوهَا. ١٩ اَلرَّبُّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ ثَبَّتَ كُرْسِيَّهُ وَمَمْلَكَتُهُ عَلَى ٱلْكُلِّ تَسُودُ. ٢٠ بَارِكُوا ٱلرَّبَّ يَا مَلاَئِكَتَهُ ٱلْمُقْتَدِرِينَ قُوَّةً، ٱلْفَاعِلِينَ أَمْرَهُ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ كَلاَمِهِ. ٢١ بَارِكُوا ٱلرَّبَّ يَا جَمِيعَ جُنُودِهِ، خُدَّامَهُ ٱلْعَامِلِينَ مَرْضَاتَهُ. ٢٢ بَارِكُوا ٱلرَّبَّ يَا جَمِيعَ أَعْمَالِهِ. فِي كُلِّ مَوَاضِعِ سُلْطَانِهِ بَارِكِي يَا نَفْسِيَ ٱلرَّبَّ».
(١٦ – ١٨) إذا هبّ ريح حار جاف فإنه حالاً يذوي العشب وييبسه وهكذا الإنسان فإنه إذا مر عليه بعض المصائب القاسية فتتركه في حالة اليأس مقترباً إلى الموت. وكما تنثر الريح هذه الأعشاب اليابسة إلى كل مكان هكذا تذهب حياة الإنسان حتى لا يعود يعرفه أقرب الناس إليه ويصبح نسياً منسياً. وكما أن الريح تشير إلى أي نوع من أنواع المخاطر هكذا فإن رحمة الرب لا تتركنا بل تنجينا من هذه المخاطر جميعها ولا سيما أولئك الخائفين الله وحينئذ يجري عدله حتى يصل إلى بني البنين – فكما أنه يفتقد ذنوب الآباء بالأبناء حسب الوصية الثالثة هكذا فإن رحمته تصل إلى الأبناء كما الآباء فهو معنا في كل حين. ولكن هذه لمن يحفظون عهود الله ويمشون حسب وصاياه. فيعملون الأفضل لأنهم يعرفونه كذلك.
(١٩ – ٢٢) والآن يرتفع المرنم للأعالي فيصور لنا السماء وما فيها من ملائكة وأجناد وقوات وخدام. هناك كرسي الرب كما أن الأرض هي موطئ قدميه فهو الملك الحاكم على كل مخلوقاته السماوية أولاً والأرضية أيضاً. وهو يدعو هذه الأجناد كلها لكي تشترك في التسبيح ولا مثيل لذلك سوى المزمور ٢٩) ويظهر أنه يوجد رتب في السماويين (راجع لوقا ٢: ١٣ ومزمور ١٠٤: ٤ ودانيال ٧: ١٠ وعبرانيين ١: ١٤). ومن السماويين حسب رتبهم يتدرج إلى الأرضيين إلى جميع الذين يعملون مرضاته ويتممون أوامره ثم إلى أعماله العجيبة في المخلوقات الطبيعية فهي نفسها تشترك في تسبيح الله وحمده وتمجيده وأخيراً يعود إلى نفسه كما افتتح المزمور لأنه لو بارك الله كل هؤلاء ولم يشترك الإنسان في ذلك فباطلة كل عبادة وباطل كل تسبيح.
السابق |
التالي |