سفر المزامير | 72 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّانِي وَٱلسَّبْعُونَ
لِسُلَيْمَانَ
«١ اَللّٰهُمَّ أَعْطِ أَحْكَامَكَ لِلْمَلِكِ وَبِرَّكَ لٱبْنِ ٱلْمَلِكِ. ٢ يَدِينُ شَعْبَكَ بِٱلْعَدْلِ وَمَسَاكِينَكَ بِٱلْحَقِّ. ٣ تَحْمِلُ ٱلْجِبَالُ سَلاَماً لِلشَّعْبِ وَٱلآكَامُ بِٱلْبِرِّ. ٤ يَقْضِي لِمَسَاكِينِ ٱلشَّعْبِ. يُخَلِّصُ بَنِي ٱلْبَائِسِينَ وَيَسْحَقُ ٱلظَّالِمَ».
ليس من الضروري أن يكون العنوان «لسليمان» معناه أن سليمان قد كتبه بل أنه كتب في وصف سليمان ومدح ملكه بالأكثر لا سيما وهو العصر الذهبي الممتاز في مملكة إسرائيل الموحدة إذ لم تكن المملكتان قد انقسمتا بعد. فالناظم يذكر أمجاد عصر قديم يجعله مثالاً عالياً للعصر الذي عاش فيه هو كما نفعل نحن اليوم وكثيرون من الناس حينا نقول «سقى الله أياماً مضت…» ولكن الصعوبة هنا أن المزامير كلها يوضع عليها عادة اسم ناظميها فكيف نستطيع تغيير هذا الترتيب؟ ولا شك أن نسق الكتابة يبعد كثيراً عن نسق داود وهو أقرب لضرب الأمثال بتصوير المعاني واختصارها. والناظم قد اطلع على سفر أيوب الذي يظن أنه كتب في عصر سليمان. وربما كان هذا المزمور لتحية ملك ممسوح جديداً وكان يغني الشعب ابتهاجاً بذلك ولذلك فإن الكنيسة المسيحية قد استعملت هذا المزمور لعيد دخول المسيح إلى الهيكل.
(١) يذكر المزمور اسم «إلوهيم» في الافتتاح بقوله اللهم فهو إذاً من مزامير «إلوهيم» والصلاة موجهة إليه لكي يعطي أحكامه للملك الذي هو ابن ملك أيضاً أي من سلالة ملوكية عريقة أي أن يعطي الحكمة حتى تكون أراؤه مصيبة وقضاؤه عادلاً. ولا يكفي أن يطلب له الأحكام بل البر أيضاً. أي أن يتوجه بقلبه وأفكاره لله وهكذا تكون حكومته قد نالت موافقة السماء ورضاها أيضاً.
(٢) ذلك لأن الغرض من هذا الطلب هو العدل فلا يجري إلا الأحكام المنصفة العادلة لا سيما لديه مساكين كثيرون إذا لم يأخذ بناصرهم ولم ينتشلهم قد تدوسهم الفئة الظالمة تحت أقدامها. وهكذا فعلى الملك أن يحمل قسطاس العدل بين يديه لئلا يحيد الناس عن جادة الصواب وتكون العواقب وخيمة.
(٣) حينئذ هوذا الجبال يرتفع عليها راية السلام والوئام بل هوذا التلال العالية يسودها البر والعدل فلا يكون أحد من الناس مظلوماً أو غير نائل نصيبه من البحبوحة والخير. وقوله الجبال والآكام فالمعنى أن كل أنحاء البلاد لأنه لا يرى عن بعد سواها فهي الدليل على وجود بقية الأراضي وإن لم نرها بعيوننا. وحينما يكون سلام في البلاد حينئذ يزدهر العمران وترى آثار الخصب والبحبوحة في كل مكان.
(٤) هنا يعود لزيادة المعنى على العدد الثاني ويرينا أن حكم هذا الملك هو للإنصاف والعدالة فلا يكون إعوجاج في القضاء ولا ظلم على الرعية لا سيما الطبقة الفقيرة منها لأن في أيامه لا يكون ظلم ولا اغتصاب وإذا استمر الظالم على غيه ولم يرعو عن إثمه فما نصيبه سوى السحق التام.
«٥ يَخْشَوْنَكَ مَا دَامَتِ ٱلشَّمْسُ وَقُدَّامَ ٱلْقَمَرِ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. ٦ يَنْزِلُ مِثْلَ ٱلْمَطَرِ عَلَى ٱلْجُزَازِ، وَمِثْلَ ٱلْغُيُوثِ ٱلذَّارِفَةِ عَلَى ٱلأَرْضِ. ٧ يُشْرِقُ فِي أَيَّامِهِ ٱلصِّدِّيقُ وَكَثْرَةُ ٱلسَّلاَمِ، إِلَى أَنْ يَضْمَحِلَّ ٱلْقَمَرُ. ٨ وَيَمْلِكُ مِنَ ٱلْبَحْرِ إِلَى ٱلْبَحْرِ، وَمِنَ ٱلنَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي ٱلأَرْضِ. ٩ أَمَامَهُ تَجْثُو أَهْلُ ٱلْبَرِّيَّةِ، وَأَعْدَاؤُهُ يَلْحَسُونَ ٱلتُّرَابَ».
(٥) يعود هنا للعدد الأول ويخاطب الله ويقول إن الشعب يخشونه ويهابون اسمه على الدوام اي ما دامت الشمس والقمر (راجع دانيال ٣: ٣٣ وقابله أيوب ٨: ١٦) فيكون ذلك إلى الدهر والأبد وهكذا فإن حكم الملك العادل يجعل الشعب أن يخشى الله ويمجد اسمه إلى الأبد. وبالعكس فإن الملك الظالم وحكومته المعوجة تجعل الناس بعيدين عن الله إذ كما قيل «الناس على دين ملوكهم».
(٦) ليس من الضروري هنا «الجزاز» جمع جزة الخروف بل قد تكون تلك المروج المعشبة التي تقطع من أجل العشب الذي فيها فقط وليس من أجل ثمرها في المستقبل. فإن الحيوانات زمن الربيع تطعم بالأحرى هذه الأعشاب الخضراء بدلاً من الحبوب التي تكون قد أقتاتت عليها أثناء الشتاء. وقد يكون مخلوطاً بالتبن وأما الآن فهي تمرح في المروج الخضراء «ترتع فيها». وخوف الله ينزل منعشاً للأراضي مثلما ينزل المطر. وكم مرات حدث أن اصفر وجه الأرض في الربيع بسبب الجفاف والشمس المحرقة وبعد وقت نزلت الأمطار فتجدد وجه الأرض وعادت الخضرة بدل الاصفرار. وهكذا رحمة الله تصل للذين يخافونه ويعبدونه بالحق فهم لا يصيبهم الجوع بل دائماً في نضارة واخضرار.
(٧) هنا يعود للملك الذي بسبب عدله وإنصافه وبفضل ما يبذله من جهود مثمرة جبارة لأجل إحقاق الحق بين الناس وتسيير العدالة والإنصاف فيكون أن الصديق ينال في أيامه الفخار والمجد. فلأنه يحب البر هو نفسه لذلك يحب الأبرار والصالحين الذين ينالون أسمى المناصب وهم أعوانه لتسيير أمور الدولة على الأحكام العادلة وهكذا فتكون النتيجة بسيادة السلام في أنحاء المملكة ولا يكون أدنى داع للتذمر والشكوى طالما الملك يحب العدل والاستقامة وجميع الشعب ينالون حقوقهم ويعيشون سعداء في بحبوحة إلى الأبد.
(٨) هذا هو الملك العظيم الذي يباركه الرب ويمنحه سلطاناً واسعاً يصل من البحر إلى البحر أي من البحر الأحمر للمتوسط ومن الفرات إلى أبعد الأمكنة. هذا ما يتمناه له شعبه إذ يرون في مليكهم مثالاً حياً للعدالة فيدعون له بالملك الواسع الشامل الذي يمتد إلى أقصى الأمكنة المجاورة. والمعروف تاريخياً أن سليمان قد كان له هذا الملك الضخم بعد أن استراحت الأرض من الحروب التي عاناها والده الملك داود.
(٩) وهنا ينتقل من الأمور الداخلية في المملكة ذاتها إلى العلاقات الخارجية مع بقية الشعوب والممالك فيقول إن أهل البرية أي البدو الساكنون في أطراف المملكة يرعون الأغنام والمواشي فهؤلاء لا يستطيعون أن يقفوا في وجه الملك بل يطلبون رضاه خاضعين بل وجميع الأعداء لا يجسرون على رفع الرأس بل يتذللون أمامه إلى أقصى حدود المسكنة والذل مرتجين العفو والرضا منه لئلا تحل عليهم الويلات ولا يكونون.
«١٠ مُلُوكُ تَرْشِيشَ وَٱلْجَزَائِرِ يُرْسِلُونَ تَقْدِمَةً. مُلُوكُ شَبَا وَسَبَإٍ يُقَدِّمُونَ هَدِيَّةً، ١١ وَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ ٱلْمُلُوكِ. كُلُّ ٱلأُمَمِ تَتَعَبَّدُ لَهُ ١٢ لأَنَّهُ يُنَجِّي ٱلْفَقِيرَ ٱلْمُسْتَغِيثَ وَٱلْمِسْكِينَ إِذْ لاَ مُعِينَ لَهُ. ١٣ يُشْفِقُ عَلَى ٱلْمِسْكِينِ وَٱلْبَائِسِ وَيُخَلِّصُ أَنْفُسَ ٱلْفُقَرَاءِ. ١٤ مِنَ ٱلظُّلْمِ وَٱلْخَطْفِ يَفْدِي أَنْفُسَهُمْ، وَيُكْرَمُ دَمُهُمْ فِي عَيْنَيْهِ».
(١٠) وهذا الملك ذو السطوة والسلطان العظيمين يكون له هيبة ووقار في قلوب الناس في أبعد الأمكنة حتى إلى ترشيش (ربما أسبانيا) وجزائر البحر حتى كريت وما جاورها ربما. كذلك فلا يبقى اسمه ممتداً للغرب بل وللجنوب أيضاً حتى يصل إلى ملوك شبا وسبا في أقصى البلاد العربية (راجع ١ملوك ص ١٠). هؤلاء جميعاً يقدمون تقدمات وهدايا فيها علامات الخضوع لسيادة هذا الملك عليهم لأنهم يسعون لاسترضائه بشتى الطرق فيقدمون له هذه الأشياء كضريبة خفية.
(١١) بل أن الملوك كلهم يفعلون كذلك دليلاً على كمال سلطانه عليهم جميعاً ويخدمونه كالعبيد لأن لا سيادة لهم على رعيتهم إلا برضاه وتحت مطلق سلطانه.
(١٢) أما السبب الذي يعزو إليه الفضل في قيام مثل هذا الملك الضخم وامتداده ومدى سيطرته على الناس فهو أن هذا الملك يحب العدل والإنصاف ولا يهمه سوى إجراء الرحمة والخير للجميع ولا سيما للفقير الذي يستغيث به وينجد البائس الذي لا يهتم به أحد ولا يلتفت إليه. وهنا منتهى العدالة الملكية إذ حينما لا يعود لهذا المسكين المظلوم من يمد له يد الإسعاف يعود للملك ذاته ويطلب منه المساعدة وإذا به يلبي نداء الواجب حالاً وينجيه مما هو فيه ولا يتخلى عنه أبداً.
(١٣) يزيد في إشفاقه فلا يكتفي بالنجاة بل يتحنن بعد ويمد يده بالإحسان فلا يبقى في الأرض أي أثر من آثار المسكنة والهوان. بل لا يبقى شيء من الفقر إذ أن مساعدته السخية لا تبقي أحداً في أي ضيق أو عجز من أي نوع من الأنواع (راجع أيوب ٢٩: ١٢). فهو عطوف حنون كريم يشفق ويتحنن على كل أنواع البلايا والنكبات ويأخذ على عاتقه أن يفعل شيئاً لإزالتها والتخفيف عن عواتق المتألمين منها لأنه يرى أن لا ثبات لملكه ولا قيام لسلطانه إلا بتثبيت دعائم الإنصاف والرحمة للجميع.
(١٤) فلا يرضى بظلم عليهم ولا يمكن أن تمتد يد بالخطف أو النهب أو أي نوع من أنواع التعدي ذلك لأنه هو نفسه يتداخل في الأمر ويفدي أنفسهم أما بدفع ما يتوجب مقابل فكاكهم أو بواسطة أوامر صريحة يجعل كل شيء يعود إلى سابق مجراه الطبيعي من النظام الشامل. فهو يرى أن دم المساكين بدلاً من أن يفك جزافاً يصبح عزيزاً مكرماً في عينيه وبدلاً من الموت يكون لهم الحياة وبدلاً من المذلة والعار يكون المجد والعزة والكرامة.
«١٥ وَيَعِيشُ وَيُعْطِيهِ مِنْ ذَهَبِ شَبَا. وَيُصَلِّي لأَجْلِهِ دَائِماً. ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ يُبَارِكُهُ. ١٦ تَكُونُ حُفْنَةُ بُرٍّ فِي ٱلأَرْضِ فِي رُؤُوسِ ٱلْجِبَالِ. تَتَمَايَلُ مِثْلَ لُبْنَانَ ثَمَرَتُهَا، وَيُزْهِرُونَ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ مِثْلَ عُشْبِ ٱلأَرْضِ. ١٧ يَكُونُ ٱسْمُهُ إِلَى ٱلدَّهْرِ. قُدَّامَ ٱلشَّمْسِ يَمْتَدُّ ٱسْمُهُ. وَيَتَبَارَكُونَ بِهِ. كُلُّ أُمَمِ ٱلأَرْضِ يُطَوِّبُونَهُ. ١٨ مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ ٱللّٰهُ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ، ٱلصَّانِعُ ٱلْعَجَائِبَ وَحْدَهُ. ١٩ وَمُبَارَكٌ ٱسْمُ مَجْدِهِ إِلَى ٱلدَّهْرِ، وَلْتَمْتَلِئِ ٱلأَرْضُ كُلُّهَا مِنْ مَجْدِهِ. آمِينَ ثُمَّ آمِينَ. تَمَّتْ صَلَوَاتُ دَاوُدَ بْنِ يَسَّى».
(١٥) وهكذا من كان مهدداً بالموت يعود للعيش الحر والإنتاج المثمر إذ أن هذا المظلوم المسكين بالأمس يصبح قادراً أن ينال ذهباً من ملكه وعزاً ومجداً بسبب حياة الرخاء والغنى التي يعيشها الآن بعد أن زال عنه الخطر وأصبح في أمن وسلام. وهكذا فإن هذا الفقير بالأمس الذي اغتنى بفضل الملك ونال العز والكرامة يصلي للملك داعياً بدوام ملكه ويطلب له البركة والكرامة كل الأيام. هذه هي المكافأة التقوية التي يستطيع تقديمها فيقدمها بكل محبة قلبية وسخاء.
(١٦) وحيئنذ هذا الشعب الآمن الذي يبارك ملكه العادل المنصف ويتمنى له تمام الخير وبالتالي فإن ملكه يجري العدل والرحمة نحو الجميع إذا به يتكاثر ويثمر فيكون مثل تلك الزروع المتمايلة والمتموجة في رؤوس الجبال. أي أن الرخاء والبحبوحة يعمان الجميع. وهكذا فإن تمايلها يشبه تمايل تلك الغابات الكثيفة التي تكسو لبنان وتجعله رائعاً باخضراره وليس بثلوجه فقط. بل أن العشب يصبح في بهجة وحبور كما هي حالة الأرض في الربيع حينما تكسوها الزهور المختلفة الأشكال والألوان. فيكون التمني أن يزداد الشعب عدداً ويزداد غنىً وبهجة وكرامة.
(١٧) يعود للملك فيقول إن اسمه خالد لا يمحوه كرور الأيام والسنين. وكما يمتد نور الشمس لكي يصل إلى كل مكان وينعشه ويحييه هكذا فإن هذا الملك الجليل العادل يكون صيته مالئاً كل البقاع والأمكنة. حتى أن جميع الناس يتباركون به ويقدمون له المديح والثناء. ذلك لأن الله سيباركه ويغنيه ويتمم له كل خير على تعداد الحسنات التي قدمها وعلى نسبة جلائل الأعمال التي قام بها.
(١٨ و١٩) في هذين العددين يوجد البركة الختامية للقسم الثاني من المزامير التي تنتهي هنا. فإذاً يكون أصل ختام المزمور في العدد السابع عشر. والله إله إسرائيل صانع العجائب هي تعابير قديمة مألوفة (راجع مزمور ٨٦: ١٠ و١٣٦: ٤ وقابلهما مع أيوب ٩: ٨). ويتمنى المرنم أن تمتلئ الأرض من معرفة الرب ومن مجده الذي يعرف باسم خاص بإسرائيل فيكون معروفاً لدى الأمم جميعاً أيضاً. ويطلب الاستجابة على هذا الدعاء مكرراً بلفظة آمين ثم آمين.
مع أن الختام «تمت مزامير داود» إذا ببعض المزامير التابعة تحمل اسم داود أيضاً فكيف نفسر ذلك؟ والجواب أنه لم يكن من أهمية لمثل هذه الأسماء فإن داود هو مبدع هذا النوع من الشعر الديني الغنائي فليس كل ما يحمل اسمه هو من الضروري بقلمه بل هو بروحه وأسلوبه.
السابق |
التالي |