سفر المزامير | 69 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ وَٱلسِّتُّونَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. عَلَى اَلسَّوْسَنِّ. لِدَاوُدَ
«١ خَلِّصْنِي يَا اَللّٰهُ لأَنَّ ٱلْمِيَاهَ قَدْ دَخَلَتْ إِلَى نَفْسِي. ٢ غَرِقْتُ فِي حَمْأَةٍ عَمِيقَةٍ وَلَيْسَ مَقَرٌّ. دَخَلْتُ إِلَى أَعْمَاقِ ٱلْمِيَاهِ وَٱلسَّيْلُ غَمَرَنِي. ٣ تَعِبْتُ مِنْ صُرَاخِي. يَبِسَ حَلْقِي. كَلَّتْ عَيْنَايَ مِنِ ٱنْتِظَارِ إِلٰهِي».
يرجح أن الداعي لكتابة هذا المزمور هو صرخة الاستنجاد من أعماق الحزن والشقاء بل في سبيل ما تحمله المرنم من اضطهاد لأجل الحق الذي اعتنقه وحاول السير بموجبه. وهو يختلف عن المزمور سابقه اختلافاً تاماً فإن المتكلم هنا هو فرد من الناس وليس مجموعة المؤمنين وهو الأرجح داود في وقت اضطهاد شاول له ذلك الاضطهاد الشديد فيصرخ من أعماق قلبه. وهو في كثير من النقاط يشبه ما ورد في حياة داود عندئذ فهناك ترك الاتباع (مزمور ٥٩: ٩ و٣١: ١٢ و٢٧: ١٠). بل هناك الصوم المضني (مزمور ٥٩: ١١ و١٠٩: ٢٤) وهناك ذكر الأعداء (راجع مزمور ٣٥ و٥٩ و١٠٩) ثم يدعو رفاقه الذين جاهدوا واحتملوا الاضطهاد معه (مزمور ٥٩: ٣٠ و٢٢: ٢٧ و٣١: ٢٥). ولكن الشبه الأعظم هو بينه وبين (المزمور ٥٩).
ولكن فريقاً كبيراً من المفسرين يعزو كتابته لإرميا وليس لداود بالنسبة لوصف الاضطهاد العظيم الذي احتمله هذا النبي من أهل عناثوت (قريته) وبالنسبة لانطباقه على أخلاق إرمياء وعلى نسق الكتابة التي يتميز بها إرمياء. وكذلك فهذا المزمور هو من مزامير الآلام أي التي اقتبس منها السيد المسيح وقت الصلب وهو يشبه المزمور الثاني والعشرين من هذا القبيل.
(١) يطلب الخلاص من الله والصورة هنا أن المرنم في حالة الغرق أي أن الويلات حوله تطغى حتى تشبه الطوفان الذي تطغى مياهه على كل شيء حولها. وقوله «دخلت إلى نفسي». أي لم تعد هذه الويلات خارجية بل قد أصابت المؤمن إذ لا يهم إذا طغت ولم تصل إلينا بل كنا نحن في مأمن منها. وإنما الخطر الآن قد أصبح داخلياً.
(٢) والشيء المؤسف هو أن المرنم أصبح مدعاة الهزء والسخرية. فقد غرق في حمأة مملوءة بالأوحال (انظر يونان ٢: ٦ وإرميا ٤: ١٠) وهذه الحمأة لا مقر لها أي من كثرة عمقها فهي تبتلع كل من ينزل فيها ولا يعود يظهر. وقد تبين له أنه قد رسب في العمق لأن كثرة المياه كانت شديدة وغامرة.
(٣) وقد أصبح في حالة اليأس لأنه كلَّ من الصراخ بدون جدوى وقد نشف حلقه ويبس (انظر إرميا ٤٥: ٣). وأيضاً فإن عينيه قد كلتا من التطلع إلى هنا وهناك ليرى هل أرسل الله خلاصه وجعله في مأمن وسلام.
«٤ أَكْثَرُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي ٱلَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلاَ سَبَبٍ. ٱعْتَزَّ مُسْتَهْلِكِيَّ أَعْدَائِي ظُلْماً. حِينَئِذٍ رَدَدْتُ ٱلَّذِي لَمْ أَخْطَفْهُ. ٥ يَا اَللّٰهُ أَنْتَ عَرَفْتَ حَمَاقَتِي، وَذُنُوبِي عَنْكَ لَمْ تَخْفَ. ٦ لاَ يَخْزَ بِي مُنْتَظِرُوكَ يَا سَيِّدُ رَبَّ ٱلْجُنُودِ. لاَ يَخْجَلْ بِي مُلْتَمِسُوكَ يَا إِلٰهَ إِسْرَائِيلَ. ٧ لأَنِّي مِنْ أَجْلِكَ ٱحْتَمَلْتُ ٱلْعَارَ. غَطَّى ٱلْخَجَلُ وَجْهِي. ٨ صِرْتُ أَجْنَبِيّاً عِنْدَ إِخْوَتِي وَغَرِيباً عِنْدَ بَنِي أُمِّي».
(٤) وما أشد هؤلاء الأعداء وما أكثر عددهم. هم أكثر من شعر الرأس وبغضهم لي بلا سبب أي أنهم متحاملون ينساقون مع الهوى فلا تعرف صداقتهم يوماً ولا تميز عداوتهم فيمكن تجنبهم في الوقت المناسب (انظر مزمور ٤٠: ١٣ و٣٨: ٢٠ و٣٥: ١٩ وقابله مع مزمور ١٠٩: ٣ إن كان من جهة الموضوع أو اللغة). وهؤلاء الأعداء يطلبون هلاكي أي أنهم أعداء ألداء لا يرضيهم شيء سوى موت خصومهم تماماً. ويظهر قوله «رددت الذي لم أخطفه» أنه مثل دارج عندئد (راجع إرميا ١٥: ١٠) فهؤلاء الأعداء معتادون على الظلم والاعتصاب.
(٥) يلتفت المرنم هنا إلى نفسه ويرى بكل تواضع حماقته وذنوبه التي لا يمكن أن تخفى على الله الذي خلقه. ولا شك أن اعتراف المرنم بحماقته هو أول خطوة في سبيل الفهم وبالعكس فإن الذي يدعي المعرفة فإنها أول خطوة نحو الحماقة الحقيقية. كما أن الاعتراف بالذنوب هو أول خطوة في سبيل التخلص منها. ولا يمكننا أن نصل للكمال بمجرد ادعائنا له بل أن نسعى بتواضع للوصول إليه بكل حكمة وتؤدة.
(٦) أي إذا رأى الناس ما يعيبني أنا المتكل عليك فإنهم يخزون ويندحرون إذ يشعرون أن انتظاري للرب لم يكن في محله. ويكرر هنا اسم الرب فتارة يسميه رب الجنود وطوراً إله إسرائيل وذلك زيادة في التقرب والتكريم لاسمه تعالى «لأن من أحب شيئاً أكثر من ذكره». إن الذي يصلي هنا هو الإنسان الخاطئ بكل ما فيه من شرور وآثام يرتجي رحمة العلي.
(٧) وهنا سبب صلاته فقد احتمل العار والمذلة بسبب تمسكه بإلهه (انظر مزمور ٤٦: ٢٣ وإرميا ١٥: ١٥). فقد امتلأ الوجه بالخجل حتى لم يعد يعرف بين الناس (انظر أيضاً مزمور ٤٤: ١٦ وقابله مع مزمور ٨٣: ١٧) لقد تغيرت ملامحه من الضعف والهزال حتى أن الذين كانوا يعرفونه جيداً لم يعرفوه (مزمور ٣٨: ١٢ ومزمور ٨٨: ٩ وأيوب ١٩: ١٣ – ١٥ وإرميا ١٢: ٦).
(٨) وهكذا فحتى إخوته وهم أعرف الناس به وأقربهم إليه أصبح أجنبياً بينهم وقد كرر المعنى بقوله أنه أصبح غريباً بين بني أمه أي إخوته الأقرب إليه. لأنه عادة بنو الأم الواحدة هم بنو الأب والأم معاً. إذ أن تعدد الزوجات كان شيئاً مألوفاً عندئذ وليس الأمر كذلك في تعدد الأزواج (راجع تكوين ٤٩: ٨).
«٩ لأَنَّ غَيْرَةَ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي، وَتَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ. ١٠ وَأَبْكَيْتُ بِصَوْمٍ نَفْسِي، فَصَارَ ذٰلِكَ عَاراً عَلَيَّ. ١١ جَعَلْتُ لِبَاسِي مِسْحاً، وَصِرْتُ لَهُمْ مَثَلاً. ١٢ يَتَكَلَّمُ فِيَّ ٱلْجَالِسُونَ فِي ٱلْبَابِ، وَأَغَانِيُّ شَرَّابِي ٱلْمُسْكِرِ. ١٣ أَمَّا أَنَا فَلَكَ صَلاَتِي يَا رَبُّ فِي وَقْتِ رِضًى. يَا اَللّٰهُ بِكَثْرَةِ رَحْمَتِكَ ٱسْتَجِبْ لِي، بِحَقِّ خَلاَصِكَ».
(٩) هنا يصف المرنم حزنه الشديد من أجل حالة بيت الرب المؤسفة ولا ندري تماماً ما هي هذه الحالة هل المعنى في ذلك هو حالة جمهور العابدين وعدم ذهابهم لبيت الله وقيامهم بفروض العبادة الواجبة. أم أنهم لهم مظاهر التقوى الخارجية ولكنهم منكرون قوتها فيعيشون في السطحيات فقط ولذلك حينما يأتيهم نذير يردهم إلى طريق الهدى والصواب يعيّرونه ويشتمونه ولا يقبلون نصحه ولا بوجه من الوجوه.
(١٠) هذا البكاء المصحوب بالصوم هو دليل الاعتراف العلني وطلب الصفح من الله لأجل ذنوب أمته وشعبه وبدلاً من أن يرتدع الناس عن غيهم وخطيئتهم إذا بهم يعيرونه ويحسبون ذلك عاراً عليه ليس إلا (انظر مراثي ٣: ١٤ وقابله مع ٥: ١٤ وأيوب ٣٠: ٩). وقوله أبكيت بصوم نفسي أي قد رافق صومي هذا الحزن الشديد من الحالة السيئة التي أصبح الشعب فيها ولكن بدلاً من أن يكون ذلك مدعاة لرجوعهم عن إثمهم إذا بهم يعيروني هازئين ضاحكين.
(١١) وكان أن لبس المسح علامة الحزن والحداد على هذه الحالة المحزنة وقلت علّهم يرجعون عن غيهم ويستفيدون ولكن هوذا قد أصبحت لهم مثلاً في السخرية والعار. فبدلاً من أن يستفيدوا تمادوا وبدلاً من أن يتعظوا ويفهموا إذا بهم يصلون إلى أعمق دركات الشر والفساد.
(١٢) أي الجالسون في باب المدينة قرب ساحتها العامة ولا تزال العادة حتى اليوم يجلس أهل القرى في ساحة قريتهم لقص الأحاديث وتداول النوادر والأخبار. ولكن مما يأسف له المرنم حقاً أن هذا التداول كان يحمل طابعاً فاسداً رديئاً إذ قد لاكته الألسنة وأصبح علكة في الأفواه. ومن هم هؤلاء الناس سوى أحط الطبقات. وقد تمادوا في هزئهم حتى أصبح هذا المرنم بمواضيع الأغاني التي ينشدها السكيرون أثناء سكرهم وعربدتهم.
(١٣) ولكن هنا التفات جميل. إذ أنه يتخلص من الناس حواليه ليلتفت إلى الله. فما قام به من صوم وذرفه من دموع ولبسه من مسوح كل ذلك جعله أن لا يعتمد على أي الناس بل أن يركن إلى من هو مصدر كل عون ورشاد. والله يرضى عن صلاة كهذه ويقبلها (إشعياء ٤٩: ٨) ويستعمل كلمة الرب والله في وقت واحد. وهو يستنجد برحمة الله الواسعة لأنه يستجيب الدعاء ولا يغفل لحظة عن الصارخين إليه ليلاً ونهاراً.
«١٤ نَجِّنِي مِنَ ٱلطِّينِ فَلاَ أَغْرَقَ. نَجِّنِي مِنْ مُبْغِضِيَّ وَمِنْ أَعْمَاقِ ٱلْمِيَاهِ. ١٥ لاَ يَغْمُرَنِّي سَيْلُ ٱلْمِيَاهِ، وَلاَ يَبْتَلِعَنِّي ٱلْعُمْقُ، وَلاَ تُطْبِقِ ٱلْهَاوِيَةُ عَلَيَّ فَاهَا. ١٦ ٱسْتَجِبْ لِي يَا رَبُّ لأَنَّ رَحْمَتَكَ صَالِحَةٌ. كَكَثْرَةِ مَرَاحِمِكَ ٱلْتَفِتْ إِلَيَّ. ١٧ وَلاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنْ عَبْدِكَ، لأَنَّ لِي ضِيقاً. ٱسْتَجِبْ لِي سَرِيعاً. ١٨ ٱقْتَرِبْ إِلَى نَفْسِي. فُكَّهَا. بِسَبَبِ أَعْدَائِي ٱفْدِنِي».
(١٤) هنا يبدأ قسم آخر من هذا المزمور هوذا الخطر الذي كان فيه من قبل يزداد شدة وهوذا المتاعب تزداد تضييقاً عليه. ولا ندري تماماً هل هذا الطين من باب الحقيقة أو المجاز وهنا مجال للحسبان أن إرمياء نفسه قد يكون هو الناظم لأن أعداءه قد أنزلوه في بئر لولا رحمة الله لهلك فيها. ولا شك أن الغرق في الطين والأوحال هو من أفظع أنواع الغرق. وهكذا هو بعض هؤلاء الأعداء الذين جعلوني في أعماق المياه ولا أكاد أطفو لحظة حتى أنزل لحظات.
(١٥) كإنما سيل من المياه يتقدم نحوه ولا يرى منفذاً لينجو به من الخطر المحدق. وهو يرى أن الغرق لا شك آت عليه وحينئذ يبتلع ولا منقذ. وتطبق عليه الهاوية أي تتقوض أركانها وتنزل عليه وهكذا لا يعود يرى فيما بعد. هنا يكرر المرنم هذه الصورة عن العمق والهاوية مما يجعل الكلام من باب الحقيقة لا من أساليب البيان فقط.
(١٦) يطلب استجابة الرب له لأن رحمته صالحة أي لا تتركه وإن يكن كما في العدد ٢ قد سقط في الحفرة فهو يرجو أن لا يقضى عليه ولا يكون سقوطه كاملاً للفناء. إن الرب صالح وكل تدابيره إذا صالحة (انظر مزمور ١٠٩: ٢١) وهذا الصلاح هو وسيلة النجاة من كل شر (مزمور ٦٣: ٤ انظر أيضاً مزمور ٥١: ٣ والمراثي ٣: ٣٢). وقوله التفت إليَّ في آخر العدد ليس من قبيل الأمر بل الاستعطاف المبني على رحمة الرب وليس على ما يستحقه هذا الطالب.
(١٧) ويتابع صلاته فيطلب أن لا يحجب وجه الرب عن عبده لا سيما وهو في الضيق وكيف يكون له الفرج؟ وإنما قد طال انتظاره ويطلب جواباً سريعاً وحاسماً من إلهه. لا شيء يؤثر في النفس المؤمنة مثل الاطمئنان بالله والثقة بأنه يسمع ويستجيب.
(١٨) والسبب الذي يجعله يطلب مثل هذا الطلب هو لكي ينجو من الأعداء. وطلبه أن يفك الله نفسه فهي إذاً في أغلال ترسف مقيدة ولا يستطيع التحرر من ذاته. بل يطلب أن يعطى فدية عنه فهو أسير موحش بعيد الأهل والدار ولا يمكنه من ذاته أن يعطي فدية إذ ليس لديه الموارد الكافية ولكن الله يستطيع كل شيء فهو يطلب الفكاك والفدية ليعود إلى سابق حياته السعيدة الحرة.
«١٩ أَنْتَ عَرَفْتَ عَارِي وَخِزْيِي وَخَجَلِي. قُدَّامَكَ جَمِيعُ مُضَايِقِيَّ. ٢٠ ٱلْعَارُ قَدْ كَسَرَ قَلْبِي فَمَرِضْتُ. ٱنْتَظَرْتُ رِقَّةً فَلَمْ تَكُنْ وَمُعَزِّينَ فَلَمْ أَجِدْ. ٢١ وَيَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَماً، وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلًّا. ٢٢ لِتَصِرْ مَائِدَتُهُمْ قُدَّامَهُمْ فَخّاً وَلِلآمِنِينَ شَرَكاً. ٢٣ لِتُظْلِمْ عُيُونُهُمْ عَنِ ٱلْبَصَرِ وَقَلْقِلْ مُتُونَهُمْ دَائِماً».
(١٩) في هذا العدد أيضاً نجد من آثار إرمياء بوضعه مثل هذه الكلمات المترادفة «عاري وخزيي وخجلي» (راجع إرميا ١٣: ١٤ و٢١: ٥ و٧ و٣٢: ٣٧) كما أنها موجودة في (مزمور ٣١: ١٠ و٤٤: ٤ و١٧: ٢٥). وكذلك ذكره العلقم في الطعام والخل في الشراب فهذا شيء مألوف في إرمياء (راجع إرميا ١٥: ٥ و٨: ١٤ و٩) وهذا إشارة إلى منتهى المصائب والآلام بينما الأعداء يهزأون ويحتقرون.
(٢٠) إن هذا العار قد جعل له هماً كبيراً لم يستطع حمله فكانت النتيجة المرض. شعر أولاً بانكسار في قلبه وخاطره والسبب في شدة حزنه بالأحرى هو أنه قد انتظر من بعض أصدقائه أن يحتاطوه بشيء من اللطف والرقة فلم يبادلوه شيئاً من ذلك. وأية خيبة يا ترى هي أعظم من خيبة الصداقة الزائفة الكاذبة. وكان بحاجة للتعزية ولكن قد خاب فأله من أي المعزين.
(٢١) لقد تقدم ذكر العلقم في الطعام والخل في الشراب (في العدد ١٩). والعلقم علاوة على مرارته الشديدة فهو من النباتات السامة أيضاً وقديماً كانوا يخلطون بين الأمرين في بلاد الشرق فما كان مراً كان ساماً أيضاً. وقوله «يجعلون في طعامي» أي يخلطون ويمزجون بقصد الإيقاع به لكي يودوا بحياته. وقديماً كانت هذه الوسيلة تستعمل للاغتيال بواسطة طعام أو شراب.
(٢٢) ولكنه يطلب أن ما يضعونه من طعام أمام الآخرين يكون لهم أولاً حتى إذا كان من ضرر يقع عليهم ويصابون به قبل أي إنسان. وهم الذين يحسبون أنفسهم آمنين يقعون هم أولاً في الشرك الذي جعلوه لغيرهم. يقولون سلام وطمأنينة لهم ولكن لا شيء من ذلك لهم (إشعياء ٥: ٣).
(٢٣) وإذا عيونهم المتعطشة لمرأى الدماء ستظلم ولن ترى بعد الآن. لقد قصدوا الغدر والاعتداء ولكنهم لن يروا نتائجهما كما رتبوا. وهوذا متونهم التي يحسبونها شديدة ومتينة لكي تلحق الأذى بالآخرين إذا بها تصبح ضعيفة متلقلقة لأن قوة الله ضدهم وهكذا فهم لن ينالوا مأرباً مما قصدوه بل سيخيبون خيبة كاملة (انظر أيوب ١٣: ٢١ ومزمور ٢٩: ٧).
«٢٤ صُبَّ عَلَيْهِمْ سَخَطَكَ، وَلْيُدْرِكْهُمْ حُمُوُّ غَضَبِكَ. ٢٥ لِتَصِرْ دَارُهُمْ خَرَاباً وَفِي خِيَامِهِمْ لاَ يَكُنْ سَاكِنٌ. ٢٦ لأَنَّ ٱلَّذِي ضَرَبْتَهُ أَنْتَ هُمْ طَرَدُوهُ، وَبِوَجَعِ ٱلَّذِينَ جَرَحْتَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ. ٢٧ اِجْعَلْ إِثْماً عَلَى إِثْمِهِمْ وَلاَ يَدْخُلُوا فِي بِرِّكَ. ٢٨ لِيُمْحَوْا مِنْ سِفْرِ ٱلأَحْيَاءِ، وَمَعَ ٱلصِّدِّيقِينَ لاَ يُكْتَبُوا».
(٢٤) يطلب إلى الله أن يصب عليهم غضباً وسخطاً مقابل ما يريدون أن يعطوا المرنم من شراب الخل وما يريدون أن يلحقوه به من شر وأذية. وهو لا يريد أن ينتقم لنفسه منهم بل يستنجد بإلهه القادر أن يقابل إساءتهم بما يستحقون (راجع مزمور ٧٩: ٦ وهوشع ٥: ١٠ وإرميا ١٠: ٢٥). ولأنه يطلب من الله أن يعاملهم بسخطه وغضبه فهو يريد الاقتصاص منهم بمنتهى الشدة والعنف ولا يريد أية مساهلة معهم أبداً فيقابل سخطهم عليه وغضبهم بسخط الله وغضبه عليهم.
(٢٥) ويشتد بالغضب عليهم بأن يطلب هدم بيوتهم حتى تصبح بلا ساكن. ولا شك أن تمنياً كهذا عند الساميين القدماء هو من أفظع الأشياء (راجع تكوين ٢٥: ١٦) وكذلك أيوب الأصحاح الأول. وهو يطلب لأعدائه هذا الويل العظيم لسبب اضطهادهم له وإساءتهم معاملته على تلك الصورة الوحشية الفظيعة.
(٢٦) يظهر أنه كان للمرنم شركاء في احتمال هذا الاضطهاد فبعد أن يذكر نفسه في القسم الأول من هذا العدد «الذي ضربته أنت هم طردوه» يعود فيقول «وبوجع الذين جرحتهم يتحدثون» أولئك الذين قد دعاهم الله لكي يحملوا العبء مع المرنم ويشاطروه كل الآلام والمتاعب التي يتحملها في سبيل الله ونشر كلمته المقدسة بين الناس (راجع مزمور ١٠٩: ٢٢ وإرميا ٨: ١٨).
(٢٧) وهكذا فإنه يتمنى لهم أن ينحدروا من خطيئة إلى خطيئة ومن إثم إلى إثم لأن نعمة الله ورضاه قد رفعتا عنهم ولذلك فهم ينحدرون إلى الغضب السحيق. وهكذا فإن تراكم الآثام عليهم يشبه تراكم القصاص الذي لا شك سيكون نصيبهم العادل لأن الله لن يتركهم في غيهم وضلالهم دون أن ينالوا العقاب الأخير حتى يعودوا إلى الحق والصواب (راجع إرميا ١٦: ١٨). ولذلك فهم لن يتوبوا ولن يرجعوا إلى البر بل سيبقى غضب الله عليهم إلى الأبد.
(٢٨) وهو يتمنى أن يمحقهم محقاً ولا يبقى لهم ذكر في أرض الأحياء (راجع خروج ٣٢: ٣٢ وقابله مع إشعياء ٤: ٣ ودانيال ١٢: ١). والمرنم يتكلم فقط عن هذه الدنيا إذ لم تكن الآخرة واضحة أمامه. ولا نجد ذكراً صريحاً للخلود إلا في العهد الجديد وبواسطة المخلص يسوع المسيح الذي أنار الحياة والخلود وصار باكورة الراقدين. وقوله «الصديقون» فهم الصالحون وورثة الملكوت الإلهي وهكذا يتمنى فصلهم بتاتاً والقضاء عليهم قضاء مبرماً أبدياً.
«٢٩ أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَكَئِيبٌ. خَلاَصُكَ يَا اَللّٰهُ فَلْيُرَفِّعْنِي. ٣٠ أُسَبِّحُ ٱسْمَ ٱللّٰهِ بِتَسْبِيحٍ، وَأُعَظِّمُهُ بِحَمْدٍ. ٣١ فَيُسْتَطَابُ عِنْدَ ٱلرَّبِّ أَكْثَرَ مِنْ ثَوْرِ بَقَرٍ ذِي قُرُونٍ وَأَظْلاَفٍ. ٣٢ يَرَى ذٰلِكَ ٱلْوُدَعَاءُ فَيَفْرَحُونَ، وَتَحْيَا قُلُوبُكُمْ يَا طَالِبِي ٱللّٰهِ. ٣٣ لأَنَّ ٱلرَّبَّ سَامِعٌ لِلْمَسَاكِينِ وَلاَ يَحْتَقِرُ أَسْرَاهُ».
(٢٩) يعود إلى نفسه ويرى حالته الشديدة وكآبته ولكنه بلغة (حبقوق ٢: ٤) يعيش بالإيمان بأن خلاص الرب وحده يرفعه. بل هو محفوظ به محاط بالعناية الحنونة. وهنا مقابلة بين نفسه وبين أولئك الذين ذكرهم من قبل. وهي مقابلة ذات مغزى مؤثر بعيد كما (مزمور ٤٠: ١٨) لقد كانوا من قبل في ارتفاع ولكنهم سيهبطون الآن بينما المرنم الذي كان في انخفاض وكآبة فهو سيرتفع ويصل إلى علو لن ينزل منه بعد ذلك.
(٣٠) وعليه فهو لن يفتر عن الحمد والتسبيح قط. وقوله «أسبّح اسم الله بتسبيح» فذلك من قبيل التوكيد واللغة العبرانية من هذا القبيل تشبه اللغة العربية باشتقاقها السامي القديم. ولا يكتفي بالغناء والتسبيح بل يعظم اسم الرب بالحمد وتقديم أسمى شعائر القلب أمام الله عربون الشكر الدائم والاحترام لجلاله الأقدس.
(٣١) وهذا الحمد هو أثمن في عيني الله وأطيب من تقديم الذبائح. وأما ثور البقر ذو القرون والأظلاف فهو ثور فتي ابن سنة تقريباً أو أنه لا يتجاوز سنه الثلاث سنوات وهكذا يكون حائزاً الشروط القانونية لتقديمه ذبيحة لله (راجع ١صموئيل ١: ٢٤). وهو من الحيوانات الطاهرة ذوات الأظلاف والمجترة كما ورد في (سفر اللاويين الأصحاح ١١). فيقول المرنم إن هذا الحيوان الحائز كل الصفات والشروط الممتازة للذبيحة لا يقاس بشيء بالنسبة لما يرفعه الإنسان المؤمن من تسبيح وحمد.
(٣٢) وهكذا فإن المؤمنين الذين نالوا الاضطهاد واحتملوه صابرين ودعاء سوف يكون لهم الآن الفرح الكامل ولا يشعرون بالهزيمة والانخذال. بل هوذا قلوبهم تمتلئ سلاماً وقوة وشجاعة والسر في ذلك كله هو لأنهم طلبوا الله فوجدوه فهو ليس عن أحد منا بعيداً. وقد رأى الودعاء هذا لأنهم كانوا ينتظرونه لذلك فإن سكوتهم السابق بل وانخذاله كان وقتياً سيعقبه هذا الانتصار الظاهر (راجع أيوب ٢٢: ١٩).
(٣٣) لقد احتمل أولئك الودعاء مع المرنم ونالوا الشقاء والآلام كما نال هو ولذلك فهم الآن يتمتعون بالسعادة والهناء كما هو أيضاً يتمتع. ويرى الودعاء ذلك فيفرحون كما رأينا في العدد السابق ذلك لأن الله يسمع أصواتهم ولا يتغاضى عن متاعبهم وصراخهم. وهكذا فإن الله لا يحتقر «أسراه» أي الذين يلجأون إليه ويسلمون لمقاصد قدرته ومحبته. فهم أسرى بمعنى أنه لا يجوز أن يأتوا أمام إلههم بأية حركة أو يبدوا أي اعتراض بل يخضعون له خضوعاً حقيقياً كاملاً.
«٣٤ تُسَبِّحُهُ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ، ٱلْبِحَارُ وَكُلُّ مَا يَدِبُّ فِيهَا. ٣٥ لأَنَّ ٱللّٰهَ يُخَلِّصُ صِهْيَوْنَ وَيَبْنِي مُدُنَ يَهُوذَا، فَيَسْكُنُونَ هُنَاكَ وَيَرِثُونَهَا. ٣٦ وَنَسْلُ عَبِيدِهِ يَمْلِكُونَهَا، وَمُحِبُّو ٱسْمِهِ يَسْكُنُونَ فِيهَا».
(٣٤) وهل عجيب أن يسلّم المؤمن نفسه لله ويظهر خضوعه كما يقدم حمده وتسبيحه. أليس أن السموات جميعها بكل جنودها تفعل ذلك. أليس أن الأرض كلها بكل مخلوقاتها من نبات وحيوان وإنسان. من كل ما في هذا الوجود من جلائل وعظائم إن كان على الأرض اليابسة أو وسط البحار وكل الحيوانات السابحة فيه. فإن هذه جميعها لا بد لها أن تظهر سجودها وتسبيحها للقادر على كل شيء لأن كل أحكامه عادلة ولا يترك خائفيه الودعاء بل يسندهم وينجيهم.
(٣٥) قد يكون هذا العدد والعدد الذي يليه مزيدين على هذا المزمور في أصل وضعه لأنه يذكر خلاص صهيون ورجوع السبي. بل يذكر بناء المدن المتهدمة ولا تعود خراباً والذين كانوا بعيدين مغتربين سيعودون للأوطان وتكون عامرة وآهلة فيهم. سوف لا يرثها أحد من الأمم العدوة المجاورة ولا ينقطع ذكر اسم الله عليها فهي بالأصل تخصه وقد أعطاها لشعبه ولا يمكن أن يتخلى عنهم للأبد (راجع إشعياء ٤٤: ٢٣). والمرنم يرى متنبئاً أن نسل هؤلاء المستضعفين سيكونون أقوياء. ووارثين ويحولون خراب مدينتهم إلى عمران ويظهر خلاص الرب أكيداً أمام عيون الجميع.
(٣٦) وهذا العدد أيضاً كما رأينا متصل اتصالاً وثيقاً بسابقه ويصعب علينا أن نحسب أن كتابته كانت في عصر داود ولكن يزول الكثير من الصعوبة إذا حسبنا أن إرمياء قد كتبه أو أحد تلاميذه المعاصرين أو الذين عاشوا بعيد عصره بقليل وحينئذ يصبح هذان العددان لهما معنى واضح. لقد عاش إرمياء حتى رأى ما تنبأ عنه بأم عينه ولذلك كانت آلامه من هذا القبيل مضاعفة. وقد ميّز إرمياء بين أورشليم ومدن يهوذا (راجع إرميا ٣٤: ٧). وإن يكن أن النبي قد رأى سقوط المدينة المقدسة فهو لم يعدم أملاً يلوح أمامه في الأفق البعيد أن العناية الإلهية لا تترك إلى النهاية بل سيكون خلاصاً عظيماً بعد الضيق العظيم.
السابق |
التالي |