سفر المزامير | 68 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّامِنُ وَٱلسِّتُّونَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ. تَسْبِيحَةٌ
«١ يَقُومُ ٱللّٰهُ. يَتَبَدَّدُ أَعْدَاؤُهُ وَيَهْرُبُ مُبْغِضُوهُ مِنْ أَمَامِ وَجْهِهِ. ٢ كَمَا يُذْرَى ٱلدُّخَانُ تُذْرِيهِمْ. كَمَا يَذُوبُ ٱلشَّمْعُ قُدَّامَ ٱلنَّارِ يَبِيدُ ٱلأَشْرَارُ قُدَّامَ ٱللّٰهِ. ٣ وَٱلصِّدِّيقُونَ يَفْرَحُونَ. يَبْتَهِجُونَ أَمَامَ ٱللّٰهِ وَيَطْفِرُونَ فَرَحاً».
إنه والحق يقال لمزمور عظيم ليس بالنسبة لطوله ونفسه الشعري العالي بل لما يتضمنه من أمور خاصة به يمتاز على غيره من المزامير بما يضعه موسى عن فم هارون وأبنائه ويطلب من الله لدى تقويض خيمة الاجتماع أن يسير الرب أمامهم (عدد ١٠: ٣٥) وقال هتزج إنه ليس من السهل فهم هذا المزمور فهماً تاماً فهو على نمط ترنيمة دبورة يسمو بما فيه من الشعور والخيال الروحي بل هو يحوي أمجد ما في الآداب العبرانية القديمة بصورة مختصرة ولكنها جلية. فيه بركة موسى لإسرائيل ونبؤة بلعام وأفكار سفر التثنية وترنيمة حنة. ولكن اللغة واضحة وجريئة مما يجعلها أن تكون قائمة بذاتها. ولنا فيه نحو ثلاث عشرة كلمة لا نجدها في غيره. ومما يكرره الناظم كثيراً هو ذكر اسم الله أو الرب بصورة تستلفت الأنظار. وقد اختلف المفسرون كثيراً في موعد نظم هذا المزمور ولا مجال لبحث هذه الاختلافات الآن والأرجح أنه كتب أثناء حرب داود ضد سوريا وبني عمون (راجع ٢صموئيل ١٠: ٦). وقد استمرت الحرب عندئذ سنتين. والمزمور ينبض كله بالإيمان وإن الله يولي النصر لشعبه وهذا برهان كاف أنه سينتصر على جميع الشعوب. وهو ينقسم إلى قسمين فالأول يتناول (١ – ١٨) والثاني (١٩ – ٣٥). وهنا نسأل هل داود هو بالحقيقة ناظم هذا المزمور؟ ولهجة المزمور أن بني آساف هم الناظمون لا داود. ويذهب البعض أن نسقه يخص المملكة الشمالية (أفرايم) أكثر جداً من اليهودية. وإذا كان العدد ٢٨ يدل على مخاطبة الملك فمن المستبعد جداً أن يكون داود نفسه هو الناظم إذ من هو هذا الملك الذي يخاطبه. ثم أليس أن العدد ٢٧ يجعلنا نفتكر بموعد انقسام المملكة إلى شطريها الرئيسيين. والأرجح أن المزمور يدل دلالة واضحة على الحملة التي شنها يهورام ويهوشافاط ضد موآب ولكن الاعتراض على هذا هو أن هذه الحملة ليس بتذكارها ما يستحق أن ينظم الشاعر مزمور عليها.
(١) يبدأ المرنم كلامه بأمنية طالما رددها الشعراء الذين انتظروا خلاص الرب وصلوا من أجل قدومه. إذا قام الرب ناهضاً لعون شعبه فحينئذ جميع الأعداء يتبددون وهكذا فإن البار يفرح ويتعظم على نسبة معاكسة ما يفشل الشرير وينخذل. وإذا راجعنا (عدد ١٠: ٣٥) نجد أن هذا الكلام هو صلاة فيلتمس من الله أن يبدد الأعداء والمبغضين.
(٢) إن انخذال هؤلاء الأشرار أمر محقق وحالتهم عندئذ مثل الدخان الذي تذهب به الريح كل مذهب تقطعه إلى كل جهة وتحمله باتجاه سيرها. بل هم كالشمع الذي يذوب ويضمحل محترقاً أمام وجه النار. إن ذهاب الدخان هو دليل ضعف البشري وعدم الاستقرار فبينما نجد الدخان أسود كثيفاً متصاعداً إذا به بعد وقت قليل لا يبقى منه شيء. وكذلك الشمع الذي يظهر الشدة والقسوة طالما هو في حالة البرودة ولكن حينما يقابل النار لا يقوى على الصمود قط.
(٣) ولكن الصديقين الذين كانوا تحت نير الاستعباد إذا بهم يتهللون ويطفرون فرحين بعدما أصاب أعداءهم الأشرار هذه المصائب بواسطة الرب القدير. إن مواجهة الرب الذي نهض لنجدة شعبه كإنما نار خرجت من لدنه وطردت هؤلاء الأشرار وبددت شملهم وجعلت الخلاص حقيقياً أفلا يفرح الشعب عندئذ ويتهلل؟ بل ليكن فرحه كاملاً لا يشوبه شائبة.
«٤ غَنُّوا لِلّٰهِ. رَنِّمُوا لٱسْمِهِ. أَعِدُّوا طَرِيقاً لِلرَّاكِبِ فِي ٱلْقِفَارِ بِٱسْمِهِ يَاهْ، وَٱهْتِفُوا أَمَامَهُ. ٥ أَبُو ٱلْيَتَامَى وَقَاضِي ٱلأَرَامِلِ اَللّٰهُ فِي مَسْكَنِ قُدْسِهِ. ٦ اَللّٰهُ مُسْكِنُ ٱلْمُتَوَحِّدِينَ فِي بَيْتٍ. مُخْرِجُ ٱلأَسْرَى إِلَى فَلاَحٍ. إِنَّمَا ٱلْمُتَمَرِّدُونَ يَسْكُنُونَ ٱلرَّمْضَاءَ. ٧ اَللّٰهُمَّ عِنْدَ خُرُوجِكَ أَمَامَ شَعْبِكَ، عِنْدَ صُعُودِكَ فِي ٱلْقَفْرِ سِلاَهْ».
(٤) هوذا الله نفسه يتقدم سائراً أمام شعبه لذلك يطلب المرنم أن يحمده الشعب ويرنموا لاسمه وأن يستعملوا آلات الطرب في سبيل ذلك وأن يمهدوا له طريقاً ليركب في وسطهم. نجد في (إشعياء ٤٠: ٣٠) أن الرب يطلب مساعدة شعبه. بينما هنا يتقدم أمام شعبه الذين يسيرون وراءه ويغلبون بقدرته فقط. وهو يركب في القفار لكي يصل إلى الأعداء في أول بادرة ممكنة وهي القفار الموصلة إلى بلاد موآب وإلى ربة عمون (انظر ٢صموئيل ١٠: ٧ وما يليه) وقابل (إشعياء ٥٧: ١٤ و٦٢: ١٠). واسمه ياه أي الموجود. واهتفوا أمامه هتاف الظفر.
(٥) هذا الإله الكائن منذ الدهور جالس في مسكن قدسه. في سماء الجلال والعظمة ليحكم على التاريخ ويسير كل شيء حسب مشيئته. ولكنه أبو الأيتام لذلك لا عز لهم ولا رحمة تطالهم إلا بواسطته وكذلك هو قاضي الأرامل أي ينصفهم ولا يسمح لأي كان أن يعتدي على حقوقهم ويمتهنهم. فإذا كان الناس ظالمين غير رحومين بالأيتام والأرامل فإن الله لا يتخلى عنهم ولا يتركهم.
(٦) بل هو الذي لا يترك المنفردين والموحشين في وحدتهم بعيدين عن الأنس والتسلية كما وإنه يصل للأسرى ويخرجهم للراحة والبحبوحة ويرجعهم للأوطان سالمين. ولكنه حالاً يقول عن المتمردين إنهم يسكنون الرمضاء فيعيشون في أعظم مشقات الحياة ويدوسون على حجارة حارة لاذعة من شدة حرارة الشمس لأن هؤلاء المتمردين بعيدون عن رضا الله عليهم لذلك يتيهون في مثل هذه البراري الجرداء المهلكة. إن الله قد سار ويسير أمام شعبه ويقودهم إلى مراتع الأمن والسلام مخلصاً نفوس أتقيائه الصارخين إليه. وهنا يذكرهم على الأرجح ببرية سيناء وما احتملوه من مشقات ومخاطر ولكن الله كان معهم ولم يتركهم قط وهكذا فهو لا يتركهم الآن.
(٧) في هذا العدد يعيد الناظم ما ورد في ترنيمة دبورة (انظر قضاة ٥: ٤ وما يليه) وكلام دبورة ذاته يعود إلى ما ورد في (تثنية ٣٣: ٢ وخروج ١٩: ١٥ وما يليه) وعلى الأرجح إن مصدر ما ورد في (حبقوق ص ٣) هو من هنا. خروج الرب كما في (إشعياء ٢٦: ٢١) فهو في مقدمة إسرائيل يقودهم كما يفعل الرئيس الواثق بالغلبة والانتصار.
«٨ ٱلأَرْضُ ٱرْتَعَدَتِ. ٱلسَّمَاوَاتُ أَيْضاً قَطَرَتْ أَمَامَ وَجْهِ ٱللّٰهِ. سِينَاءُ نَفْسُهُ مِنْ وَجْهِ ٱللّٰهِ إِلٰهِ إِسْرَائِيلَ. ٩ مَطَراً غَزِيراً نَضَحْتَ يَا اَللّٰهُ. مِيرَاثُكَ وَهُوَ مُعْيٍ أَنْتَ أَصْلَحْتَهُ. ١٠ قَطِيعُكَ سَكَنَ فِيهِ. هَيَّأْتَ بِجُودِكَ لِلْمَسَاكِينِ يَا اَللّٰهُ. ١١ ٱلرَّبُّ يُعْطِي كَلِمَةً. ٱلْمُبَشِّرَاتُ بِهَا جُنْدٌ كَثِيرٌ: ١٢ مُلُوكُ جُيُوشٍ يَهْرُبُونَ يَهْرُبُونَ. ٱلْمُلاَزِمَةُ ٱلْبَيْتَ تَقْسِمُ ٱلْغَنَائِمَ».
(٨) هنا إشارة لما ورد عن جبل سيناء حينما نزلت الشريعة (راجع خروج ١٩) هناك يلتقي الرب مع شعبه. فقد جاء إليهم من الشرق وهم جاءوه من الغرب وقد انشقت السموات وبرهن عن قدرته بأن الجبل كان كأنه مضطرم بالنار ويهتز كله حتى خاف الشعب ولم يستطيعوا الدنو من ذلك المكان. وقد تكاثرت عليه البروق والرعود وأظهر لهم مجده وأثبت قدرته التي منذ ذاك الحين إلى الآن تحميهم وترعاهم. وللناظم قصد خاص بأن يدعو الله إله إسرائيل فيذكر بالعهد المقطوع والعلاقة المتينة الكائنة بين الشعب وإلهه وبواسطة الشريعة المنزلة أصبح ملكهم (تثنية ٣٣: ٥).
(٩) الأرجح أنه يشير هنا إلى أمور تاريخية حدثت في الماضي. والمطر المذكور هنا قد يكون أنه قد أمطر عليهم المن من السماء وأعطاهم معه السلوى غذاء في البرية القاحلة. وحينما أعطي إسرائيل الشريعة من جبل سيناء كان الشعب في حالة استقرار أفضل كثيراً من السابق ولكن تمّ استقرارهم تماماً حينما دخلوا الأرض الموعود بها وامتلكوها. وهكذا فيكون هذا العدد والعدد الذي يليه يشيران إلى البركات التي أسبغها الله على شعبه فيشير أولاً إلى الأمطار الضرورية للزورع. وكيف أن هذا الميراث (شعب إسرائيل) بعد أن نال منه الإعياء قد أراحه الله وأسكنه في أمن وبحبوحة.
(١٠) والشعب هنا يشبه بالقطيع الساكن في أرض خصبة مملوءة بالزروع والخيرات وهكذا حتى أن الفقراء والمساكين قد نالوا الكفاية في عيشهم ولا يعوزهم شيء (انظر إرميا ٣١: ٢١).
(١١) يستعمل هنا كلمة الرب بدلاً من الله وهو يعطي كلمته أي كلمة القدرة (حبقوق ٣: ٩) أو كلمة الوعد (مزمور ٧٧: ٩). وهذه الكلمة قد تأتي بقصف الرعد (مزمور ٦٨: ٣٤ وإشعياء ٣٠: ٣٠) أو إنه صوت البوق (زكريا ٩: ١٤). والأرجح هنا هي كلمة القدرة حيث يظهر الله عنايته التامة بشعبه فينتشلهم مما هم فيه إلى عيش البحبوحة والرخاء. ويذكر المبشرات لأن النساء أقدر على بث البشرى بين الناس. هكذا غنت مريم بعد الخلاص من جيش فرعون وهكذا غنت دبورة بعد الخلاص من يابين وسيسرا رئيس جيشه. وحينما انتصر يفتاح على العمونيين وحينما استقبلت المغنيات داود بعد قتله جليات الجبار.
(١٢) في العدد هذا يرينا الناظم لماذا يجب البشرى لأن الملوك يهربون ويعطي الله نصراً حاسماً مبيناً. وحينئذ فحتى المرأة التي لازمت بيتها ولم تخرج منه إذا بها تنال قسطاً وافراً من الغنائم والأسلاب.
«١٣ إِذَا ٱضْطَجَعْتُمْ بَيْنَ ٱلْحَظَائِرِ فَأَجْنِحَةُ حَمَامَةٍ مُغَشَّاةٌ بِفِضَّةٍ وَرِيشُهَا بِصُفْرَةِ ٱلذَّهَبِ. ١٤ عِنْدَمَا شَتَّتَ ٱلْقَدِيرُ مُلُوكاً فِيهَا أَثْلَجَتْ فِي صَلْمُونَ. ١٥ جَبَلُ ٱللّٰهِ جَبَلُ بَاشَانَ. جَبَلُ أَسْنِمَةٍ جَبَلُ بَاشَانَ. ١٦ لِمَاذَا أَيَّتُهَا ٱلْجِبَالُ ٱلْمُسَنَّمَةُ تَرْصُدْنَ ٱلْجَبَلَ ٱلَّذِي ٱشْتَهَاهُ ٱللّٰهُ لِسَكَنِهِ؟ بَلِ ٱلرَّبُّ يَسْكُنُ فِيهِ إِلَى ٱلأَبَدِ. ١٧ مَرْكَبَاتُ ٱللّٰهِ رَبَوَاتٌ، أُلُوفٌ مُكَرَّرَةٌ. ٱلرَّبُّ فِيهَا. سِينَا فِي ٱلْقُدْسِ».
(١٣) إشارة هنا إلى اطمئنان هؤلاء الراجعين من الحرب فبعد أن نالوا الظفر واقتمسوا الغنائم وتركوا أيضاً للنساء أن يقتسموا ما فضل إذا بهم يضطجعون مرتاحين غير عابثين بأي شيء (انظر أيوب ١٤: ١٤). ويكون حينئذ سلام في الأرض إلى سنين كثيرة (راجع قضاة ٥: ١٦ وقابله مع تكوين ٤٩: ١٤). كل شيء عندئذ سيكون موشى بالفضة ويلمع بلمعان الذهب. إن إسرائيل هو الحمامة (انظر مزمور ٧٤: ١٩ وقابله مزمور ٥٦: ١ وهوشع ٧: ١١ و١١: ١١).
(١٤) هوذا المرنم يذكر تلك الحادثة يوم الظفر العظيم على الأعداء فيصفه بأنه عندئذ أثلجت في صلمون. وقد يكون هذا الثلج كناية عن الأسلاب الكثيرة التي ملأت وجه الأرض بالخيرات وكان لمعانها يعطي بريقاً بسبب ما فيها من فضة وذهب. أو قد تكون إشارة إلى أن و جه الأرض قد اكتسى بالجثث من القتلى وهذا الرأي الأخير مستبعد. أو قد يكون بالفعل أن الدنيا قد أثلجت عندئذ وكثيراً ما يحدث أن تقع ثلوج في بعض السنين في أمكنة لم يقع فيها من قبل. أو أنه يشير إلى ثلوج متساقطة على قمة جبل صلمون وهو جبل الدرو في حوران يراه الناظرون من بعيد.
(١٥) هو جبل حوران وهو ذو أسنمة أي كثير القمم وأغلب حجره من البركاني الأسود بالعكس عن الصخور الكلسية والطباشيرية التي تؤلف جبل صهيون وما حوله.
(١٦) لا يستطيع المرنم أن ينسى جبل صهيون هو يذكر هذه الجبال الأخرى ويعني بذلك أيتها الشعوب القاطنة في الأرض والمحيطة بشعب الله من كل جهة. لماذا تترصدن شعب الله للإيقاع به. ألا تعلمن أيتها الجبال أن الله قد اختار جبلاً واحداً لنفسه هو جبل صهيون هناك هيكله ومسكنه إلى الأبد. ألا فليعلم العالم أن النعمة أعظم من الطبيعة ولذلك فهو يحكم العالمين بقدرته السرمدية ونعمته الإلهية.
(١٧) مركبات الله هي المركبات المؤلفة من الأجناد السماوية (٢ملوك ٦: ١٧) ومركبات الله هي مركبات نارية (٢ملوك ٢: ١١ و٦: ١٧). هي قوات ملائكية من أرواح وليست من هذا العالم (انظر دانيال ٧: ١٠). ويذكر سينا لأنه هناك أعطيت الشريعة الإلهية التي رافقها حضور الأجناد السماوية (تثنية ٣٣: ٢ وما بعده).
«١٨ صَعِدْتَ إِلَى ٱلْعَلاَءِ. سَبَيْتَ سَبْياً. قَبِلْتَ عَطَايَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ، وَأَيْضاً ٱلْمُتَمَرِّدِينَ لِلسَّكَنِ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ. ١٩ مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ يَوْماً فَيَوْماً. يُحَمِّلُنَا إِلٰهُ خَلاَصِنَا. سِلاَهْ. ٢٠ اَللّٰهُ لَنَا إِلٰهُ خَلاَصٍ، وَعِنْدَ ٱلرَّبِّ ٱلسَّيِّدِ لِلْمَوْتِ مَخَارِجُ. ٢١ وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ يَسْحَقُ رُؤُوسَ أَعْدَائِهِ، ٱلْهَامَةَ ٱلشَّعْرَاءَ لِلسَّالِكِ فِي ذُنُوبِهِ. ٢٢ قَالَ ٱلرَّبُّ: مِنْ بَاشَانَ أُرْجِعُ. أُرْجِعُ مِنْ أَعْمَاقِ ٱلْبَحْرِ».
(١٨) إن الله بعد أن أصبح مركزه عالياً في صهيون ونال الانتصار على جميع أعدائه لذلك هو يصعد عالياً فوق الجميع ويأخذ عطايا من الناس دليل خضوعهم واستسلامهم له دون قيد ولا شرط. وحتى المتمردون أنفسهم الذين يعودون بالتوبة وطلب الغفران يشرق عليهم مجد الرب. وقد يكون المعنى أن المتمردين أنفسهم رغم حالتهم السيئة وعصيانهم قد قبلت شارة خضوعهم وقدموا عطاياهم لذلك سمحت لهم بالسكن في الأرض التي هي ملك الله وملك شعبه. وقد أخذ الرسول بولس هذا العدد (انظر أفسس ٤: ٨) وحينئذ هذا المسيح الغالب يعطي الناس عطايا الخلاص المجاني حتى للذين كانوا متمردين وقبلوه. فالظفر ليس للعظمة الخارجية (راجع كولوسي ٢: ١٥). وبهذا العدد ينتهي القسم الأول من المزمور.
(١٩) بهذا العدد يبدأ القسم الآخر من المزمور فيبارك اسم الرب الذي يحمّل عن شعبه أثقالهم ويعينهم لدى أحمالهم لأنه إله شفوق رحيم لا يترك شعبه رازحين غير مبال بمصيرهم. وفي الوقت ذاته نجد «يحمّل» تعني التعدية أي أنه يسمح لشعبه أن يحملوا ولكنه يعينهم في حملهم لئلا يسترسلوا في اليأس والقنوط.
(٢٠) الله هو الخلاص أي هو مصدر الخلاص وبدونه فالهلاك المحتوم. وخلاصه هو بأن لا يدع الموت يباغت أحباءه بل يخرجهم منه كلما لجت بهم المصائب. أي يخرجهم ويفلتهم مما هم واقعون فيه (راجع ١صموئيل ١٤: ٤١ و٢ملوك ١٣: ٥ والجامعة ٧: ١٨). فمن كان نصيبهم الموت قد نجوا بقدرة الله.
(٢١) وطريقة النجاة التي يذكرها هو أن الله غالب أعداءه فهو شديد بهذا المقدار حتى يسحق رؤوسهم ولا يسمح لهم أن يشمخوا عليه أو على من يلوذ به من شعبه المؤمنين. والهامة الشعراء أي الرأس المكسو بالشعر العالي دليل صلف القوة والتجبر (انظر تثنية ٣٢: ٤٣ وكذلك عدد ٢٤: ١٧).
(٢٢) يسمع الناظم هنا قولاً إلهياً بأنه سيُرجع من باشان بل سيرجع من لجج البحار وأعماقها ونتساءل ماذا أو من سيرجع؟ معروف من جهة تاريخية أنه حينما سقطت أورشليم أخذ بعض الأسرى من علية القوم ووضعوا في سفينة لكي تمخر بهم إلى روما لدى موكب تيطس في عاصمة الرومانيين سنة ٧١ م. ولكنهم رموا أنفسهم في البحر متخذين هذا العدد… ارجع من أعماق البحر. وهلكوا كلهم.
«٢٣ لِكَيْ تَصْبِغَ رِجْلَكَ بِٱلدَّمِ. أَلْسُنُ كِلاَبِكَ مِنَ ٱلأَعْدَاءِ نَصِيبُهُمْ. ٢٤ رَأَوْا طُرُقَكَ يَا اَللّٰهُ طُرُقَ إِلٰهِي مَلِكِي فِي ٱلْقُدْسِ. ٢٥ مِنْ قُدَّامٍ ٱلْمُغَنُّونَ. مِنْ وَرَاءٍ ضَارِبُو ٱلأَوْتَارِ. فِي ٱلْوَسَطِ فَتَيَاتٌ ضَارِبَاتُ ٱلدُّفُوفِ. ٢٦ فِي ٱلْجَمَاعَاتِ بَارِكُوا ٱللّٰهَ ٱلرَّبَّ أَيُّهَا ٱلْخَارِجُونَ مِنْ عَيْنِ إِسْرَائِيلَ. ٢٧ هُنَاكَ بِنْيَامِينُ ٱلصَّغِيرُ مُتَسَلِّطُهُمْ، رُؤَسَاءُ يَهُوذَا جُلُّهُمْ، رُؤَسَاءُ زَبُولُونَ، رُؤَسَاءُ نَفْتَالِي».
(٢٣) من مضمون هذا العدد يتبين أن العودة هي لله لأجل الانتقام من الأعداء وليس كما فهم أولئك اليهود قديماً (انظر العدد ٢٢) أي أن هؤلاء الأعداء ولو بعدوا واختبئوا في أقاصي الأرض وأعماق البحار فلن يستطيعوا النجاة من يد الله العادلة. بل هنا صورة هائلة كيف أن الأرجل ستصبغ بالدم من قتلى الأعداء وهكذا فحتى الكلاب سيكون لها نصيب من أجسام الأعداء ودمائهم.
(٢٤) يظهر هذا العدد مظهراً مجيداً لموكب ملوكي بعد أن ينتصر الإله على أعدائه ويخضعون له فهو الذي يحكم بالقداسة والعدل والإنصاف. وإذاً فمعنى «في القدس» هنا ليس من المرجح المكان المقدس بل الحالة المقدسة (راجع خروج ١٥: ١١ ومزمور ٧٧: ١٤) وقوله رأوا أي جميع البشر لأن الخطاب موجه للناس عموماً دون استثناء حتى يشهدوا بما يفعله الله نحوهم. ولا سيما أولئك الذين نجوا من الهلاك وكان نصيبهم أن يعاينوا موكب النصرة هذا.
(٢٥) هوذا المغنون في المقدمة يترنمون بأعذب الأناشيد ويأتي بعدهم الضاربون على الأعواد وذوات الأوتار من كمان وبزق وما أشبه وعلى الجانبين كانت فتيات يضربن الدفوف ويرقصن متهللات فرحات بهذا العيد الجليل. وهكذا فإن الشعب كله يشترك بجنسيه من رجال ونساء. وهذا الخلاص المذكور هنا مشابه فما ترنمت به مريم لدى الخلاص من عبودية مصر.
(٢٦) وأي موقف يا ترى ادعى للبركة من الجماعات الكثيرة التي يلذها جداً أن تسمع أخبار الله وتقدم السجود لجلاله الأقدس. وثم هم خارجون من عين إسرائيل أو نبع إسرائيل أي الآب الأول لبني إسرائيل جميعاً. أي أنه يدعو فقط شعب الله ويطلب إليهم أن يعترفوا بحمد الله وشكره علانية (انظر إشعياء ٤٨: ١ و٥١: ١ وقابل ذلك مع إشعياء ٥٨: ١٢).
(٢٧) وفي هذا المجتمع لأجل العيد يعدّد المرنم الأسباط المتسلطة على الشعب. فيذكر أولاً بنيامين لأن من هذا السبط خرج شاول الملك الأول لإسرائيل. وحالاً يعود فيرضي الجنوب فيذكر رؤساء يهوذا أيضاً ومنهم خرج داود. وزبولون ونفتالي هما السبطان أيضاً اللذان نالا أعظم المديح في ترنيمة دبورة (قضاة ٥: ١٨ وقابله مع ٤: ٦). فقد كانوا أشداء شجعاناً فقد أبلوا بلاء حسناً لنيل الانتصار.
«٢٨ قَدْ أَمَرَ إِلٰهُكَ بِعِزِّكَ. أَيِّدْ يَا اَللّٰهُ هٰذَا ٱلَّذِي فَعَلْتَهُ لَنَا. ٢٩ مِنْ هَيْكَلِكَ فَوْقَ أُورُشَلِيمَ لَكَ تُقَدِّمُ مُلُوكٌ هَدَايَا. ٣٠ ٱنْتَهِرْ وَحْشَ ٱلْقَصَبِ، صِوَارَ ٱلثِّيرَانِ مَعَ عُجُولِ ٱلشُّعُوبِ ٱلْمُتَرَامِينَ بِقِطَعِ فِضَّةٍ. شَتِّتِ ٱلشُّعُوبَ ٱلَّذِينَ يُسَرُّونَ بِٱلْقِتَالِ. ٣١ يَأْتِي شُرَفَاءُ مِنْ مِصْرَ. كُوشُ تُسْرِعُ بِيَدَيْهَا إِلَى ٱللّٰهِ».
(٢٨) ولا يكتفي المرنم أن يشترك في هذا الاحتفال العالم اليهودي فقط بل نجده كإنما يدعو جميع أمم الأرض وملوكها لتحية هذا الظفر وللفرح ولتقديم العزة والكرامة لله الذي هو مصدر هذا الانتصار العظيم. وقوله «بعزك» الضمير هنا يعود على الأرجح إلى ملك أرضي لا نعرف اسمه معرفة اليقين (راجع مزمور ٨٦: ١٦ و١١٠: ٢). والقسم الآخر من العدد «أيد يا الله…» إنما هو صلاة ابتهال لكي يكون هذا النصر بمشيئة الله وتأييده.
(٢٩) وقد اضطر ملوك على ما يظهر أن يأتوا إلى أورشليم ليقدموا خضوعهم وهداياهم للملك الجالش على العرش. ولكن المرنم ببراعته المملوءة بروح التقوى والخشوع يجعل هؤلاء الملوك أن يقدموا الهدايا لله. وقوله «من هيكلك» يقصد به فقط أن يجعل أورشليم مركز العالم وأن يكون الهيكل قلب أورشليم النابض. فيكون المعنى أنه بسبب هيكلك الكائن في أورشليم هوذا ملوك الأرض تقدم الهدايا اعترافاً بسيادة الله عليها وسلطانه الشامل.
(٣٠) وحش القصب المذكور هنا هو إشارة على الأرجح «لمصر» لأن مصر هي بلاد القصب والبردي (راجع حزقيال ٢٩: ٣ وقابله مزمور ٧٤: ١٣ وما يليه) وقد يكون هذا الوحش هو فرس النهر (انظر إشعياء ٣٠: ٦ وأيوب ٤٠: ٢١) أو إنه التمساح السابح في المياه. صوار الثيران أي بقية الملوك الصغار وهكذا جمع بين القوة والضعة وقابل بينهما. هوذا الشعب الذين يترامون بالفضة أي يتنازعون عليها ثم يتقاتلون في سبيلها جميع هؤلاء قد تشتتوا من وجه الرب ولم يعد لهم أي شأن.
(٣١) وهوذا النتيجة المحتومة لهؤلاء أن أعاظم الناس من مصر يأتون لكي يقدموا خضوعهم ويعترفوا بعظمة الله إله إسرائيل وكذلك كوش تأتي سريعاً رافعة يديها دليل التسليم والإذعان. أو قد يكون المعنى أن كوش تأتي بيدين مملوءتين بالهدايا والتقدمات الكفارية إلى الله لكي يرضى عنها (انظر ١صمئويل ١٧: ١٧ و٢أخبار ٣٥: ١٣).
«٣٢ يَا مَمَالِكَ ٱلأَرْضِ غَنُّوا لِلّٰهِ. رَنِّمُوا لِلسَّيِّدِ. سِلاَهْ. ٣٣ لِلرَّاكِبِ عَلَى سَمَاءِ ٱلسَّمَاوَاتِ ٱلْقَدِيمَةِ. هُوَذَا يُعْطِي صَوْتَهُ صَوْتَ قُوَّةٍ. ٣٤ أَعْطُوا عِزّاً لِلّٰهِ. عَلَى إِسْرَائِيلَ جَلاَلُهُ وَقُوَّتُهُ فِي ٱلْغَمَامِ. ٣٥ مَخُوفٌ أَنْتَ يَا اَللّٰهُ مِنْ مَقَادِسِكَ. إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ هُوَ ٱلْمُعْطِي قُوَّةً وَشِدَّةً لِلشَّعْبِ. مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ!».
(٣٢) وهنا يعمم المرنم دعوته ولا يكتفي أن يخصص مصر وكوش بل يطلب من جميع أمم الأرض أن تغني لله وتحمد اسمه العظيم. أي تعترف بعظمته وقدرته. وليس من الضروري أن تؤمن به تماماً إنه إلهها أيضاً. وعليها أن تشيد ترنماً وتعظيماً وهكذا ينتهي العدد بتعظيم الموسيقى لأجل حمد الله ومجده.
(٣٣) أي السائر في موكب مجده ليس على الأرض بل في أعلى السموات وهو لا يحتاج للعالم أن يقدم له الحمد والتسبيح إذ لديه الأجواق الملائكية منذ قديم الأزمنة إلى الآن وهم له يهتفون ويسبحون. وهو يبرهن للناس عند قدرته هذه فيكفي أن يعطي صوته حتى يخشع الناس ويتعبدوا له صاغرين عائدين إلى طلب رحمته ملتمسين ضياء وجهه.
(٣٤) فيا أيها الأمم والشعوب أعطوا العز لله. وهو الإله الذي يظهر جلاله بنوع خاص على شعبه الذي أظهر له عجائبه ورحمته منذ القديم. فكان في السحابة أمامهم وسط البحر الأحمر وكان في الغمامة التي حجبته عن عيونهم وهو يكلم موسى عبده في الجبل ويعطيه الشريعة الإلهية.
(٣٥) أنت يا الله سبب هيبة عظيمة لذلك يخافك الشعوب كلهم. لا سيما أولئك الذين يأتون إلى مقادسك ويشاهدون عظمتك وجلالك. وحينئذ يتحققون أنك تعطي قوة لأنك مصدرها وتشدد الشعب لمتابعة تقدمهم ومعرفتهم لك. ويختم كما في العدد ١٩ بقوله مبارك الله. ولكن هذه البركة يقدمها الآن جميع الشعوب فيشتركون في التسبيح والتمجيد. وهذه البركة هي التي ذكرها كاتب سفر الرؤيا. وهكذا يختم القسم الثاني من المزمور بما كان من نتائج انتصاره وغلبته التي تضم العالم وجميع شعوبه على السواء.
السابق |
التالي |