سفر المزامير | 60 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلسِّتُّونَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى اَلسَّوْسَنِّ. شَهَادَةٌ مُذَهَّبَةٌ لِدَاوُدَ لِلتَّعْلِيمِ. عِنْدَ مُحَارَبَتِهِ أَرَامَ ٱلنَّهْرَيْنِ وَأَرَامَ صُوبَةَ، فَرَجَعَ يُوآبُ وَضَرَبَ مِنْ أَدُومَ فِي وَادِي ٱلْمِلْحِ ٱثْنَيْ عَشَرَ أَلْفاً.
«١ يَا اَللّٰهُ رَفَضْتَنَا. ٱقْتَحَمْتَنَا. سَخَطْتَ. أَرْجِعْنَا. ٢ زَلْزَلْتَ ٱلأَرْضَ. فَصَمْتَهَا. ٱجْبُرْ كَسْرَهَا لأَنَّهَا مُتَزَعْزِعَةٌ. ٣ أَرَيْتَ شَعْبَكَ عُسْراً. سَقَيْتَنَا خَمْرَ ٱلتَّرَنُّحِ».
هذا المزمور هو إحدى المذهبات التابعة لما تقدم والتي نظمها داود في ظرف معين وهي آخرها في هذه السلسلة. عند محاربته أرام النهرين (أي ما بين النهرين) وأيضاً أرام صوبة والأرجح هم الذين سكنوا بين الفرات والعاصي. كما أن أيوب كان قد ضرب أدوم في وادي البحر الميت (بحيرة لوط). وعرضها نحو عشرة أميال للجنوب من هذه البحيرة. ويذكر أنه ضرب منهم اثني عشر ألفاً وإذا راجعنا النص التاريخي الوارد في (٢صموئيل ٨: ١٣ أو ١أخبار ١٨: ١٢) نجد العدد ثمانية عشر ألفاً. وقد ورد أسماء ثلاثة من القواد هم يوآب وأبيشاي وداود ذاته ولكن هذه الصعوبة تزول إذا حسبنا أن داود هو الملك وأن يوآب هو القائد وأبيشاي أخوه فتنسب المعركة للقائد العام لأجل الاختصار أو للملك أيضاً. وعنوان المزمور يعود بنا تذكاراً لأهم وأمجد حرب قامت في أيام داود حينما انتصر على العمونيين وأحلافهم واستولى على ربة (راجع مزمور ٢١). وفيما كان انتصار داود في الشمال اغتنم الأدوميون هذه الفرصة لكي يضربوا من الجنوب ولذلك كان على الجيش المنتصر أن يرتد على هؤلاء الأعداء الجدد ويسحقهم أيضاً. وهذا المزمور يشير بصورة جلية إلى هذه الحرب ضد الأدوميين الذين حاولوا استغلال الموقف وضرب بني إسرائيل من الوراء.
(١) يبدأ المزمور بالشكوى والعتاب فإن الله صديق شعبه ولا غرو إذا عاتب الصديق صديقه. فيقول أهكذا رفضتنا ساخطاً وهاجمتنا بيد هؤلاء الأعداء. ولكن لا سبيل للرجوع بعد.
(٢) هوذا الأرض كلها من هول المصائب تئن فهي تظهر مكسورة لذلك لنا رجاء أن تجبر فيها ما انكسر وتثبت ما تزعزع وانهدم. والطلب من الله هو من باب الترجي المقدم بكل دعة وانكسار وذلة نفس.
(٣) هوذا الشعب في ضيق وعسر عظيم. وأصبحوا من جراء هموهم وأحزانهم بالنسبة للخسائر في الأرواح والأموال كأنهم في سكر وترنح من حالة الشدة التي هم فيها وهم لا يدرون ماذا يفعلون. وقد أخذ الأنبياء هذه الفكرة «خمر الترنح» ووضعوها في كتاباتهم أيضاً (انظر مثلاً إشعياء ٥١: ١٧ و٢١).
«٤ أَعْطَيْتَ خَائِفِيكَ رَايَةً تُرْفَعُ لأَجْلِ ٱلْحَقِّ. سِلاَهْ. ٥ لِكَيْ يَنْجُوَ أَحِبَّاؤُكَ. خَلِّصْ بِيَمِينِكَ وَٱسْتَجِبْ لِي. ٦ اَللّٰهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِقُدْسِهِ. أَبْتَهِجُ. أَقْسِمُ شَكِيمَ وَأَقِيسُ وَادِيَ سُكُّوتَ. ٧ لِي جِلْعَادُ وَلِي مَنَسَّى، وَأَفْرَايِمُ خُوذَةُ رَأْسِي. يَهُوذَا صَوْلَجَانِي».
(٤) لقد ترجم بعضهم هذا العدد بقوله «أعطيت خائفيك راية ترفع للكسرة لا للنصرة». ولكن أغلب المترجمين قد ذهبوا عكس ذلك. ويظهر أن المعنى هو أنه بالرغم من حالة الذل والانكسار التي وصلنا إليها فهبنا يا رب راية لكي ننضوي تحتها ونجتمع معاً غير متزعزعين وذلك ليس لأي شيء فينا نتوسل به بل لأجل الحق والعهد الذي قطعته مع شعبك. فليكن لنا إذاً من هذا أمل ورجاء.
(٥) وحينما يكون لنا مثل هذا الأمل ينفتح أمامنا باب النجاة ونخلص بيمينك من كل ضيق وتستجيب لنا هذه الصلاة. وقد يكون أن هذين العددين معناهما هو أن الله يسند شعبه الساقط المندحر فينهض ويرتفع الشعب (وليس الراية ذاتها إلا من باب المجاز) أي لا ترتفع الراية إلا بارتفاع الشعب أيضاً. وهكذا يظهر الله خلاصه ويسند شعبه ويرفعهم من سقطتهم ويوقفهم مرة أخرى أشداء غير خائفين. وقوله «بيمينك» أي زيادة العناية والاهتمام حينئذ يكون هذا الخلاص كاملاً لا يشوبه شيء. وقد يكون قوله لأجل الحق في العدد الرابع أي أن حربنا مع هؤلاء الأعداء هو للدفاع عن الحق الذي اغتصب منا. فإن هؤلاء الأعداء قد ظلموا ونكثوا العهد ولم يرعوا أية حرمة.
(٦) هنا قول إلهي يخرج كإنما من فمه هذا القول يتناول الأعداد السادس والسابع والثامن. فيتكلم عن شكيم ووادي سكوت (وهي الأرض الكائنة على الجانب الغربي من الأردن جنوبي بيسان التي كانت تسمى سيتوبوليس. وقد يكون أن هنالك أرضاً أخرى سميت بهذا الاسم الجانب الآخر من الأردن انظر قضاة ٨: ٤ وما يليه أيضاً راجع يشوع ١٣: ٢٧) وجلعاد ومنسى وأفرايم ويهوذا أنها كلها خاصته. ويلتفت إلى البلدان العدوة المجاورة فيحتقرها قائلاً أن موآب مرحضة فهي آنية للاغتسال فقط وأما أدوم فهي ليست إلا للدرس وأما أرض الفلسطينيين كلها يهتف باسم رب الجنود المنتصر عليها جميعاً (راجع ٢صموئيل ٧: ٩ وما يليه). قد يكون أن الله قد تكلم بفم كاهن بواسطة الأوريم والتوميم بما فيه الثقة الكاملة أن النصر النهائي هو لشعب الله (انظر عاموس ٤: ٢).
(٧) يعدد في هذا مدى الأملاك المجتمعة التي تؤلف مملكة داود. وحينما يصل لأفرايم التي يكنى بها عن مملكة الشمال بعد ذلك يقول عنها أنها رأسه. وهوذا الصولجان أي عصا الملك وكلاهما ضروريان للمحافظة على السيادة وربط المملكة كلها في جسم قوي متماسك واحد.
«٨ مُوآبُ مِرْحَضَتِي. عَلَى أَدُومَ أَطْرَحُ نَعْلِي. يَا فِلِسْطِينُ ٱهْتِفِي عَلَيَّ. ٩ مَنْ يَقُودُنِي إِلَى ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُحَصَّنَةِ؟ مَنْ يَهْدِينِي إِلَى أَدُومَ؟ ١٠ أَلَيْسَ أَنْتَ يَا اَللّٰهُ ٱلَّذِي رَفَضْتَنَا وَلاَ تَخْرُجُ يَا اَللّٰهُ مَعَ جُيُوشِنَا؟ ١١ أَعْطِنَا عَوْناً فِي ٱلضِّيقِ، فَبَاطِلٌ هُوَ خَلاَصُ ٱلإِنْسَانِ. ١٢ بِٱللّٰهِ نَصْنَعُ بِبَأْسٍ، وَهُوَ يَدُوسُ أَعْدَاءَنَا».
(٨) ومن هي موآب يقول المرنم سوى وعاء للاغتسال. هي ذليلة جداً لا تستطيع أن ترفع رأسها أو تقاوم نفوذاً يبسط عليها بسهولة. بل تأتي للملك سيدها صاغرة ذليلة. وإن تكن هي نفسها تدعي العزة والامتناع. كما وأن أدوم المحتالة التي تغتنم فرصة لتضرب من وراء الظهر فهي لا تستحق إلا أن يطرح عليها النعل دليل بسط السيادة الكاملة عليها وإخضاعها. كما وأن أرض الفلسطينيين وإن يكن فيها رجال أشداء محاربون فهم أيضاً يهتفون بالنصر للملك العظيم. وقد ورد في كلام العرب «ما كنت نعلاً» أي لا يستطيع أن يدوس أذيالي ويمتهن كرامتي. وقد ورد حذاء مترادفة للزوجة (راجع قاموس لاين تحت حذاء) وحينما يخلع الرجل نعله أي يترك امرأته. وحتى الآن في بلاد الحبشة إذا رمى أحدهم نعله على شيء دليل امتلاكه.
(٩) هنا يبدأ كلام آخر وإذا بالمرنم بعد هذا التصريح الإلهي ينهض مستدلاً أين أدوم؟ أين المدينة المحصنة التي سببت للشعب هذا الويل وتستحق أن ينزل بها العقاب الشديد. وهذا العدد مع الأعداد التي تليه كلها قوة وحماسة وإن تكن ابتهالاً إلى الله لأجل الغلبة والانتصار. أما المدينة المحصنة التي يعنيها فهي «صلع» أو المعروفة بالبتراء اليوم. وقوله من يقودني هو صرخة لأجل النصرة. فقد مضى وقت السكوت والاستسلام للعدوّ.
(١٠) ولكن المرنم حالاً لا يطلب مجداً لنفسه إذ أن القائد الحقيقي هو الله ذاته. فكما أن ذلة الإنكسار كانت بسبب تخلي الله عنهم كذلك فإن النصر هو بالله يعود فقط. من قبل لم يخرج مع الجيوش وأما الآن فهو في المقدمة. فما كان من قبل انكساراً يصبح الآن انتصاراً كاملاً. إن الملك وجيشه هم في قلب المعمعة الحامية والضائقة تحيط بهم ولكن الفرج لا بد قادم محقق.
(١١) هذه صرخة الإيمان الذي لا يتغير ولا يزول. إن عون الله هو في الضيق أي في الوقت الذي نحتاجه حاجة قصوى. وإن الإنسان لا عون منه إذ هو باطل ولا يستطيع شيئاً في الشدة. فالقوة هي من العلاء. فكما أن الله من قبل قد رفض شعبه يعود الآن إليهم بالرضى.
(١٢) وحينئذ يكون ما نصنعه آيلاً للمجد والسؤدد. وإذا هؤلاء الأعداء لا يستطيعون الوقوف في وجهنا أو الثبات في مقاومتنا. ذلك لأن الله عوننا وهو يحارب ضدهم. وهؤلاء الأعداء الساكنون في الصحراء سوف يكون نصيبهم الانخذال. بالله ينتصر إسرائيل والله موجود في وسطه وهو إلههم ولذلك فإن قصده سيتمم ولا يحيد عنه أبداً.
السابق |
التالي |