سفر المزامير

سفر المزامير | 59 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ وَٱلْخَمْسُونَ

لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. عَلَى «لاَ تُهْلِكْ». مُذَهَّبَةٌ لِدَاوُدَ لَمَّا أَرْسَلَ شَاوُلُ وَرَاقَبُوا ٱلْبَيْتَ لِيَقْتُلُوهُ.

«١ أَنْقِذْنِي مِنْ أَعْدَائِي يَا إِلٰهِي. مِنْ مُقَاوِمِيَّ ٱحْمِنِي. ٢ نَجِّنِي مِنْ فَاعِلِي ٱلإِثْمِ، وَمِنْ رِجَالِ ٱلدِّمَاءِ خَلِّصْنِي، ٣ لأَنَّهُمْ يَكْمُنُونَ لِنَفْسِي. ٱلأَقْوِيَاءُ يَجْتَمِعُونَ عَلَيَّ، لاَ لإِثْمِي وَلاَ لِخَطِيَّتِي يَا رَبُّ».

هذا المزمور هو من أقدم المزامير التي كتبها داود وإذا اعتمدنا على العنوان كما هو أي حينما أرسل شاول من يترقب داود للفتك به وربما يشير هذا إلى ما ورد في (١صموئيل ١٩: ١١ وما يليه). وقد حاول شاول غير مرة وبطرق سرية مختلفة أن يتخلص من عدوه واستعان بالجواسيس من رجال القصر حتى كان الكامنون يترصدون له طول الليل أحياناً لكي يتمموا ما أُمروا به. ولا شك أنه بواسطة المزامير وكتب النبوءة يمكننا أن نخترق بأبصارنا إلى أعماق معنى الحوادث الجارية ونفهم التاريخ بواسطتها على شرط أن نستعمل قوة الاستنتاج والاستقراء. ويظهر إن هذا المزمور يناسب المساء أكثر من الصباح إذ يصف المرنم تلك الأيام الخطرة في جبعة.

(١) في الأعداء الثلاثة الأولى من هذا المزمور نرى أفكاراً متشابهة ونسمع حديثاً طالما سمعناه مكرراً من مختلف المزامير. إن داود هنا كان محاطاً بزمرة شريرة من رجال الدماء المغتالين الذين لا يخافون الله ولا يهابون أي إنسان. فداود بحالة حصار وضيق ويستنجد طالباً الخلاص. ويظهر أن إلهه في غفلة أو انشغال عنه حتى لا يُعنى به ولا يكترث بحاله على الإطلاق. هؤلاء هم أعداء وهم مقاومون لا يسمحون له أن يرتاح بالاً أو يستقر على شيء أو ينعم حالاً بأي وجه من الوجوه.

(٢) هو في خطر مداهم شديد ويكرر الطلب نفسه أنقذني احمني نجني. والتوكيد المتكرر له ما يجيزه في هذه الحالة العصيبة. إنهم فاعلو إثم أي لا ضمير عندهم يبكتهم. هم دمويون لا قيمة للحياة البشرية في نظرهم. دأبهم التفظيع والقتل ولا يرعوون عن غيهم ولا يبالون بأي نصحٍ أو إرشاد. فهم إن أضمروا السوء يسرعون في إتمامه حالاً غير هيابين.

(٣) وفوق قوتهم الظاهرة وفوق تسلحهم بالأوامر الملكية هم يكمنون لإتمام مآربهم لذلك هم لا يتورعون عن أية وسيلة يتخذونها لنيل مآربهم. ولا ينكر المرنم عليهم قوتهم وبطشهم ومع ذلك فهم عديدون يتعاونون بكثرة على البريء الذي لم يرتكب إثماً ولا حمل وزر خطيئة في كل علاقاته مع شاول ومع رجاله.

«٤ بِلاَ إِثْمٍ مِنِّي يَجْرُونَ وَيُعِدُّونَ أَنْفُسَهُمُ. ٱسْتَيْقِظْ إِلَى لِقَائِي وَٱنْظُرْ. ٥ وَأَنْتَ يَا رَبُّ إِلٰهَ ٱلْجُنُودِ إِلٰهَ إِسْرَائِيلَ ٱنْتَبِهْ لِتُطَالِبَ كُلَّ ٱلأُمَمِ. كُلَّ غَادِرٍ أَثِيمٍ لاَ تَرْحَمْ. سِلاَهْ. ٦ يَعُودُونَ عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ، يَهِرُّونَ مِثْلَ ٱلْكَلْبِ وَيَدُورُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ. ٧ هُوَذَا يُبِقُّونَ بِأَفْوَاهِهِمْ. سُيُوفٌ فِي شِفَاهِهِمْ. لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَنْ سَامِعٌ؟».

(٤) وهم سريعون جداً في إتمام مآربهم الدنيوية إذ يركضون في إتمامها ركضاً. وسرعتهم هذه يبررها استعدادهم الكافي فهم يفعلون كل أمورهم الشريرة ويقتلون ويفتكون عن سابق تصور وتصميم. وهنا يستنجد بالله مخلصه الذي حسبه متغافلاً عنه ناسياً لعهوده معه. ويريد من الله أن يلاقيه عليهم حتى لا يشعر بالوحدة بعد بل يمكنه من أن يواجههم بكل بأس ويتغلب عليهم إذا كان الله مجتمعاً معه عليهم.

(٥) ونلاحظ قوة الاستنجاد من كثرة ما يذكر اسم الله فيقول يا رب إله الجنود إله إسرائيل. وهو يفعل ذلك لكي يزيد الكلام تأثيراً في نفس السامع وحينئذ فإن الله يتحنن عليه ويرحمه. ينبه الله لكي يطالب الأمم عما يسيئون به ولا سيما عمق مطالبه وما يترجاه فينهي بارتفاع في ضربات الموسيقى (سلاه).

(٦) في هذا العدد يبدأ القسم الآخر من المزمور فيصف حركات هؤلاء الأعداء وتصرفاتهم. يبدأون حركاتهم العدائية في المساء والليل يهرون ويدورون في المدينة كالكلاب (راجع أيوب ٢٤: ١٤). ويهرّون ولا ينبحون أي بأصوات خافتة لئلا ينفضح أمرهم فهم يرتكبون إثمهم في الخفاء على كل حال. ومهما حاولوا الخفاء فإن أصواتهم مسموعة وكذلك حركاتهم في المدينة لا يمكن أن تختفي عن عين المراقب. وحتى اليوم نجد الكلاب تتجول طليقة في كثير من مدن وقرى الشرق وأصواتها وحركاتها مألوفة للكل.

(٧) وهم يتجولون في المدينة يخرج من أفواههم كلمات يرغون ويزبدون بها. وهوذا ألسنتهم تظهر كأنها سيوف مسلولة حاضرة للفتك والتفظيع. وكلامهم قاس جارح لأنهم يتفوهون به غير حاسبين لأحد حساباً. زاعمين أن لا أحد يسمعهم ماذا يقولون كما أن لا أحد يراهم فيما يتآمرون عليه ويكمنون.

«٨ أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَتَضْحَكُ بِهِمْ. تَسْتَهْزِئُ بِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ. ٩ مِنْ قُوَّتِهِ إِلَيْكَ أَلْتَجِئُ، لأَنَّ ٱللّٰهَ مَلْجَإِي. ١٠ إِلٰهِي رَحْمَتُهُ تَتَقَدَّمُنِي. ٱللّٰهُ يُرِينِي بِأَعْدَائِي. ١١ لاَ تَقْتُلْهُمْ لِئَلَّا يَنْسَى شَعْبِي. تَيِّهْهُمْ بِقُوَّتِكَ وَأَهْبِطْهُمْ يَا رَبُّ تُرْسَنَا».

(٨) بينما هؤلاء الأعداء يذهبون متجولين على هذه الصورة لا يعبأون بأحد ولكن الله لا شك يضحك منهم ولا يسمح لهم أن ينالوا مرادهم. لأن أي سر يمكن أن يختفي عن الرب الإله وأي قصد سيء يمكن للإنسان أن يبقيه في قلبه حتى لا يعلم به الله العلي العليم؟ فهو يضحك من كل الأمم على السواء. وهؤلاء الأعداء لا يستحقون أن يسموا من شعب الله فهم غرباء بمبادئهم وأفعالهم إن لم يكن في نسبهم وحقيقتهم. هم يخافون النور لذلك يعملون عملهم الإجرامي في الظلام. ينوون سراً ويحاولون التنفيذ على حين غفلة من الكل ولكن هل يفعل الله فهو يضحك منهم ويستهزئ بجميع أفعالهم ولا يمكن أن يتمموها بدون أمره الإلهي.

(٩) يمكن ترجمة هذا العدد «يا قوتي إليك ألتجئ…» أما إذا بقيت العبارة كما كانت سابقاً فيكون أن داود يلتجئ للرب من قوة أعدائه. فمهما كان هؤلاء الأعداء أقوياء فإن الله أقوى منهم (انظر ١صموئيل ٢٦: ١٥ و٢صموئيل ١١: ١٦) هنا اعتراف صريح من المرنم أنه لا يستطيع أن يخلّص نفسه ولكن ماذا يهمه طالما الله ملجأه.

(١٠) في هذا العدد يخفت صوت الرعب والخوف بل تتبخر من فكره تماماً كما يزول الضباب أمام شمس الصباح. هوذا نور الرجاء يشع أمامه. لأن رحمة الله هي التي تتقدم بينما هو يمشي وراءها كإنما هي عمود السحاب الذي رافق شعب إسرائيل وهم في وسط مخاطر البحر الأحمر. وقد يكون المعنى أن الله يهرع لاستقباله كما يفعل أحدهم مع إنسانٍ لاجئ خائف من خطر مداهم. إن الله لذلك ينتظرني فأهرع إليه وأنجو من الأعداء مهما كانوا أقوياء ويكيدون عليَّ.

(١١) وهو يرجو لهم أن لا يقتلوا حالاً لئلا لا يرى بقية الشعب خلاص الله. عليهم أن يذكروا أن الله مخلّص حقيقي. وهؤلاء الأعداء وهم يكمنون طالبين أن يفتكوا بالبريء إذا بهم يتيهون عن قصدهم ويهبطون للهاوية. فبدلاً من النجاح يكون نصيبهم العار وبدلاً من الحماية يكون نصيبهم التيهان. ذلك لأن الرب هو ترس المؤمن يحفظه من كل ضرر.

«١٢ خَطِيَّةُ أَفْوَاهِهِمْ هِيَ كَلاَمُ شِفَاهِهِمْ. وَلْيُؤْخَذُوا بِكِبْرِيَائِهِمْ، وَمِنَ ٱللَّعْنَةِ وَمِنَ ٱلْكَذِبِ ٱلَّذِي يُحَدِّثُونَ بِهِ. ١٣ أَفْنِ بِحَنَقٍ أَفْنِ وَلاَ يَكُونُوا، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ ٱللّٰهَ مُتَسَلِّطٌ فِي يَعْقُوبَ إِلَى أَقَاصِي ٱلأَرْضِ. سِلاَهْ. ١٤ وَيَعُودُونَ عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ. يَهِرُّونَ مِثْلَ ٱلْكَلْبِ، وَيَدُورُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ».

(١٢) من يستطيع أن ينكر خطية الأفواه والشفاه لأننا سوف ندان أيضاً على كلامنا كما على تصرفاتنا ويظهر أن المرنم مغتاظ جداً من هؤلاء الأعداء بالنسبة لمكرهم وكذبهم وريائهم. وكلامهم هو بالصلف والعجرفة لا يعتدون بأحد ولا يحسبون لأي الناس حساباً. ولكن لا شك قبل السقوط تشامخ الروح أي ليكن كلامهم وكذبهم عليهم للهلاك فبدلاً من أن يهلكوا به الآخرين إذا هم به يهلكون. ولا يكتفون بالكذب بل يستعملون اللعنة وأفظع كلام التقريع والتنديد وليكن ما يحدثون به عائداً عليهم بالهلاك.

(١٣) هنا يشتد غضب المرنم على أعدائه ويطلب إلى الله أن لا يبقي منهم أحداً. وحجته في ذلك لكي يتمجد اسم الله بواسطة هذا العمل وحينئذ يظهر للناس جميعاً أن الله هو الحاكم على العالمين بيده زمام كل شيء ونفس كل حي. وينتهي بارتفاع الموسيقى.

(١٤) ويعود إلى صورة الكلاب التي يصورها عن هؤلاء المطاردين الذين أرسلهم شاول لملاحقته والقبض عليه. ولا يمكن أن تبتعد عنه هذه الصورة المؤثرة إن هؤلاء أشبه بالكلاب لخدمة أسيادها وراء طريدة لا ينتفعون هم منها ولكنهم يفعلون ذلك مرضاة لأسيادهم الذين لهم عليهم حق التصرف كالعبيد الأذلاء (راجع أيوب ١٥: ٢٣). هؤلاء الكلاب يتجولون هكذا طلباً للطعام فهم في حالة العوز ويصرفون الليل في تفتيشهم هذا وقد يبقون هكذا جائعين كل الوقت أيضاً.

«١٥ هُمْ يَتِيهُونَ لِلأَكْلِ. إِنْ لَمْ يَشْبَعُوا وَيَبِيتُوا. ١٦ أَمَّا أَنَا فَأُغَنِّي بِقُوَّتِكَ، وَأُرَنِّمُ بِٱلْغَدَاةِ بِرَحْمَتِكَ، لأَنَّكَ كُنْتَ مَلْجَأً لِي وَمَنَاصاً فِي يَوْمِ ضِيقِي. ١٧ يَا قُوَّتِي لَكَ أُرَنِّمُ، لأَنَّ ٱللّٰهَ مَلْجَإِي إِلٰهُ رَحْمَتِي».

(١٥) فهؤلاء الناس الدمويون يظل حنينهم إلى سفك الدم. هم يجوعون إليه كما يجوع الكلب للطعام. وقلما يشبعون من ذلك لكي يرعووا عن غيهم ويبيتوا بعيدين عن داعي فتكهم بالأبرياء أمثال هذا المرنم.

(١٦) وهنا تظهر عوامل الإيمان في قلب المرنم إذ في وسط هذه الحالة الصعبة يجد أنه يستطيع الغناء. فيقوم في الغداة (أي الصباح) بعد أن قضى ليلته فزعاً أرقاً إذا به الآن مطمئن لا يخاف شراً من أي الناس. والسبب في ذلك هو أن الله كان ملجأه وعونه. فأعطاه نجاة لم يكن يحلم بها وخلاصاً أكيداً وهكذا تحوّل ضيقه إلى فرج وهمه إلى ترنم. فكان إيمانه محققاً بنتيجته التي لمسها الآن كما لمسها وتحققها من قبل مرات كثيرة.

(١٧) وما أجمل ختام هذا المزمور. فيرى في ضعفه قوة تسنده ويرى في وسط خوفه الشديد ملجأ أميناً حصيناً لا يمكن أن يتزعزع. ويكون أن الدافع لذلك لا ما يستحقه هو بحد ذاته بل إن رحمة الله شملته وإحسانه الإلهي جعله في هذا الأمان الذي لا يتمكن الأشرار معه أن ينالوه بأي سوء.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى