سفر المزامير | 56 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّادِسُ وَٱلْخَمْسُونَ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى «ٱلْحَمَامَةِ ٱلْبَكْمَاءِ بَيْنَ ٱلْغُرَبَاءِ». مُذَهَّبَةٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا أَخَذَهُ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ فِي جَتَّ.
«١ اِرْحَمْنِي يَا اَللّٰهُ لأَنَّ ٱلإِنْسَانَ يَتَهَمَّمُنِي، وَٱلْيَوْمَ كُلَّهُ مُحَارِباً يُضَايِقُنِي. ٢ تَهَمَّمَنِي أَعْدَائِي ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ، لأَنَّ كَثِيرِينَ يُقَاوِمُونَنِي بِكِبْرِيَاءٍ. ٣ فِي يَوْمِ خَوْفِي أَنَا عَلَيْكَ أَتَّكِلُ».
لقد اختلف علماء التفسير فيما يقصد بهذا العنوان تماماً. قال هتزج «هي حمامة الشعب في الأمكنة البعيدة». وقال السهوسن «حمامة أشجار التربنت البعيدة». ويظهر أن اللحن كان على آلة تعطي صوتاً حنوناً لكي تشابه الحالة المحزنة التي كان المرنم فيها. وذكر المرنم أنه يود أن يضع دموعه في زق الله لكي تحفظ تذكاراً لآلامه عندئذ كما حفظت جرة المن وغيرها من آثار التيه البرية.
يرجح أن هذا المزمور قد كتب في أيام شاول فإن كتابة العنوان «عندما أخذه الفلسطينيون في جت» ترجع للحادثة المذكورة في (١صموئيل ٢١: ١٤) وهو أحد المزامير المذهبات من المزمور (٥٦ – ٦٠). ومما هو حري بالذكر أن داود لم يكن يبطل الترنم بمزاميره إذا جابهته العقبات واشتدت عليه الصعاب بل كان يستمر على حمد الله وشكره. كان في خطر مداهم حينما كتب هذا المزمور ومع ذلك نجد تأملاته لطيفة وأفكاره سامية وكريمة.
(١) هنا صورة واضحة عن إنسان طريد من أعدائه الذين يحاولون أن يحاربوه ويتغلبوا عليه بكل وسيلة ممكنة. فهم يتهمّمونه أي يطلبونه من مكان لآخر بكل ملاحقة وإلحاح. وهنا أيضاً يضع الإنسان بجانب والله بجانب آخر وشتان بين الاثنين ومع ذلك فإن هذا الإنسان يظهر العتو والكبرياء ضد الله رغماً عن صغره وحقارته مع ذلك يتصرف بصلف ويضايق بحربه هذه المرنم حتى يستجير بإلهه.
(٢) ولكن ما أقل جدوى ما يفعلون فإن مؤامرتهم ضد الله لا تنفعهم شيئاً ولو تظاهروا كأنهم جبابرة فما هم بالحقيقة سوى صعاليك. والسبب الجوهري في ثقته هذه هو أنه يتكل على الله (راجع إرميا ١: ١٩ وأيضاً يشوع ٩: ٢٧ وأيضاً أمثال ٣: ٥) ومتى اعتصم بالله واتكل عليه فلا شيء من قوات الدنيا تستطيع أن تناله بسوء. ذلك لأن له المواعيد الإلهية الكريمة وبواسطة هذا الإيمان يرتمي المرنم في أحضان الله وقد يكون هنا إشارة توبيخ ذاتي أنه من قبل بسبب حماقته وتسرعه قد ارتمى في أحضان الفلسطينيين لكي ينجو من عدوه شاول وأما الآن فيعود إلى الصواب ويرى أن هؤلاء الأعداء المتكبرين لا يستطيعون شيئاً في جنب الله العلي الجبار.
(٣) ويحقق رجوعه للصواب في هذا العدد «في يوم خوفي أنا عليك أتكل». لا شيء يسر الله مثل رجوع الخاطئ إليه وقد أبان لنا السيد المسيح هذا الأمر الجليل في مثل الابن الضال. فقد صور لنا الله الآب ينتظر رجوع ابنه الخاطئ الضال بين وقت وآخر لأنه لم يقطع منه الرجاء. ولا شك سوف يأتي يوم يعود فيه الإنسان إلى نفسه فإذا كان حكيماً فعل ذلك وهو لا يزال في قيد الحياة في هذه الدنيا وليس في الحياة الآخرة لئلا يكون له البكاء وصرير الأسنان.
«٤ اَللّٰهُ أَفْتَخِرُ بِكَلاَمِهِ. عَلَى ٱللّٰهِ تَوَكَّلْتُ فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُهُ بِي ٱلْبَشَرُ! ٥ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ يُحَرِّفُونَ كَلاَمِي. عَلَيَّ كُلُّ أَفْكَارِهِمْ بِٱلشَّرِّ. ٦ يَجْتَمِعُونَ يَخْتَفُونَ يُلاَحِظُونَ خُطُوَاتِي عِنْدَمَا تَرَصَّدُوا نَفْسِي. ٧ عَلَى إِثْمِهِمْ جَازِهِمْ. بِغَضَبٍ أَخْضِعِ ٱلشُّعُوبَ يَا اَللّٰهُ. ٨ تَيَهَانِي رَاقَبْتَ. ٱجْعَلْ أَنْتَ دُمُوعِي فِي زِقِّكَ. أَمَا هِيَ فِي سِفْرِكَ؟».
(٤) ويمكن وضع الترجمة حسب النص العبراني هكذا:
بالله أسبح كلامه. أي أسبح بكلام الله.
وفي الترجمة اليسوعية نجد «احمد الله على كلامه. على الله توكلت…». وأعتقد أن في هذا توسعاً في المعنى غير موجود تماماً حسب النص. وبدلاً من قولنا «على الله توكلت» الأفضل أن نقول «بالله استندت فلا…» لأن تكرار حرف الجر الواحد يؤكد المعنى ويعطيه جمالاً أكثر. ثم قوله شيئاً فهو للاستفهام الإنكاري. وهنا تثبيت لعدم خوفه لأنه لا داعي لذلك قط طالما الله سنده.
(٥) وهنا إشارة إلى أمرين يستخدمهما هؤلاء الأعداء للنيل منه والإضرار به وهما أولاً تحريف كلامه أي تفسيره أو تغييره بما لا ينطبق على الواقع. وثانياً أنهم يفكرون بالشر ضده وهكذا فهو في فكرهم على الدوام يفعلون الضرر عن سابق تصور وتصميم. ولا نستخف قط بأهمية تحريف الكلام والتلاعب به وتفسيره بما هو ليس من مقاصد قائله وهنا منتهى الكذب والرياء لأنه كم من شرور تنجم وكم من ويلات تحدث من جراء ذلك.
(٦) يجتمع هؤلاء الأعداء للكيد له ثم يختفون متوارين إذ لا يستطيعون الظهور وهم يضعون خططهم الأثيمة. ولكنهم وإن كانوا لا يظهرون علناً فهم مع ذلك ينتبهون لكل شيء حولهم ولا يفوتهم كبيرة أو صغيرة. وهنا صورة مأخوذة من الغاب كيف أن الوحوش الضواري يكمنون مختفين لكي يصطادوا فريستهم وحينما يتظاهرون بأقل انتباه يكونون على أشده عندئذ.
(٧) يضع ديليتش القسم الأول من هذه العبارة بصورة الاستفهام فيقول هل بأفعالهم الرديئة هذه ينجون؟ وحينئذ تختلف الترجمة عما هي واردة معنا الآن. ويمكن الترجمة حينئذ أبالاثم ينجون؟ إنما هوبفيلد يرى بدلاً من كلمة ينجو العبرانية كلمة أخرى تعني الجزاء ويكون حينئذ مجال لتصحيح النص نفسه. ولكن في الحالة الأولى تكون العبارة:
أبالإثم ينجون؟ ألا بغضب أخضع الشعوب يا الله.
(٨) بينما أولئك الأعداء يراقبونه للفتك به إذا الله يراقبه ليحرسه ويحميه. وحينئذ هذه الدموع التي يذرفها تحفظ وديعة مع الله لتذكار آلامه وأحزانه. يعتبر بواسطتها مخاطره ومخاوفه. بل هي مكتوبة في سفر لا تصل إليه الأيدي البشرية ولا يتغير ولا يزول.
«٩ حِينَئِذٍ تَرْتَدُّ أَعْدَائِي إِلَى ٱلْوَرَاءِ فِي يَوْمٍ أَدْعُوكَ فِيهِ. هٰذَا قَدْ عَلِمْتُهُ لأَنَّ ٱللّٰهَ لِي. ١٠ اَللّٰهُ أَفْتَخِرُ بِكَلاَمِهِ. ٱلرَّبُّ أَفْتَخِرُ بِكَلاَمِهِ. ١١ عَلَى ٱللّٰهِ تَوَكَّلْتُ فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُهُ بِي ٱلإِنْسَانُ؟ ١٢ اَللّٰهُمَّ عَلَيَّ نُذُورُكَ. أُوفِي ذَبَائِحَ شُكْرٍ لَكَ. ١٣ لأَنَّكَ نَجَّيْتَ نَفْسِي مِنَ ٱلْمَوْتِ. نَعَمْ، وَرِجْلَيَّ مِنَ ٱلزَّلَقِ، لِكَيْ أَسِيرَ قُدَّامَ ٱللّٰهِ فِي نُورِ ٱلأَحْيَاءِ».
(٩) بهذا العدد يرى الانتصار يلوح أمامه. فإن الأعداء لا يستطيعون أن يثبتوا في وجهه بل يرجعون للوراء ويندحرون. ذلك لأن اسم الله قد أظهر صولته وجبروته. وقوله حينئذ أي نتيجة عما تقدم وبناء عليه فإن حالته غير مستقرة إذ هو هارب من مكان لآخر لا يدري أين هو وطنه الحقيقي فإن الملك يطلب نفسه فيترك بلاده هارباً ويلتجئ للأعداء وإذا به يجدهم متغيرين عليه يريدون الإيقاع به والنيل منه في أول فرصة ممكنة. ولكن في وسط هذه المخاطر الشديدة إذا بجميع أعدائه يرتدون إلى الوراء ويندحرون.
(١٠) وهنا أيضاً تصبح الترجمة كما ورد في العدد (٤) هكذا:
بالله أسبح كلاماً بالرب أسبح كلاماً
(١١) وكذلك في هذا العدد تكون الترجمة:
بالله استندت فلا أخاف. ماذا يصنع بنو آدم لي؟
والحق يقال إن هذين العددين هما ليسا سوى تكرار العدد الرابع كما مر معنا سابقاً بشيء من الزيادة ليس إلا. لقد علم المرنم متأكداً أن الله له لذلك فهو لله أيضاً وهكذا لا يخاف البشر ولا يهابهم مهما هاجمته المصائب. ونلاحظ أن هذا التكرار هو من قبيل القرار في المزمور وكما كانت العادة عند العبران أنهم لم يكرروا الكلام ذاته بل بشيء قليل من التغيير منعاً للملل.
(١٢) يعد الله الآن مواعيد ويعطي نذوراً سلفاً لأمور سوف تحدث له بلا شك. بل يذهب إلى أكثر من ذلك فهو يعد بأن يقدم ذبائح شكر على نجاته وسلامته وهنا منتهى مظاهر الإيمان. والكلام أشد جداً مما قاله يعقوب في طريقه إلى خاله لابان معاهداً الله (راجع تكوين ٢٨: ٢٠ – ٢٢) فإن الشروط التي قدمها يعقوب لنذوره لم يقدمها داود قط.
(١٣) لقد نجى الله نفسه وحفظه وأنقذه من أن ينزلق متمرغاً على الثرى موضوع سخرية واحتقار كأنما الله قد تركه ولم يهتم به. ولكنه لا يزال رجلاً قوياً يستطيع أن ينهض على رجليه ويسر في نور الأحياء. وهذا إشارة معاكسة لظلمة الهاوية أي الذين يموتون ويتركون هذا العالم ليعيشوا في عالم النسيان حيثما تنسج العناكب خيوطها في أرض ظلال الموت. ونجد ذكراً لنور الأحياء في كلام أليهو (راجع أيوب ٣٣: ٣٠) وقد استعمل السيد المسيح هذا التعبير بقوله في (يوحنا ٨: ١٢) «مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي ٱلظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ ٱلْحَيَاةِ».
السابق |
التالي |